من الآية 49 الى الآية 64
الآيــات
{هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآب* جَنّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ* مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ* وَعِندَهُمْ قَاصِراَتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ* هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ* إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ* هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ* هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ* وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ* هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ* قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ* قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ* وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأَشْرَارِ* أَتّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ* إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} (49ـ64).
* * *
معاني المفردات
{مَآبٍ}: مرجع.
{عَدْنٍ}: إقامة.
{قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}: لا يمددن نظرهن إلا إلى أزواجهن.
{أَتْرَابٌ}: المتساويات في السن.
{الْمِهَادُ}: الفراش.
{حَمِيمٌ}: شديد الحرارة.
{وَغَسَّاقٌ}: قيح شديد النتن.
{أَزْوَاجٌ}: أشكال وألوان.
* * *
المتقون والطاغون
وهذه قصة المتقين الذين أطاعوا الله وراقبوه في خفايا قلوبهم واتقوه في خطوات حياتهم، في مقابل الطاغين الذين تمرّدوا على أوامر الله ونواهيه، واختاروا الطغيان في الكلمة والحركة والموقف كعنوانٍ لحياتهم العامّة في دائرة المسؤولية.
* * *
مصير المتقين
{هَذَا ذِكْرٌ} هذا التاريخ الرساليّ في حركة الأنبياء والمرسلين وفي ملامحهم الروحية، وفي دعوتهم النبويّة، وفي كل تضحياتهم وجهادهم وتفانيهم في خدمة الله، وإخلاصهم لطاعته... هذا ذكرٌ للحاضر وللمستقبل في خط الدعوة لكل الدعاة الرساليين، والمجاهدين العاملين، فيه كل الشرف الكبير والثناء الجميل والخير العميم لكل الذين يتذكرونه ويسيرون في اتجاهه الصحيح في خط الفكر والعمل.
{وَإِنَّ لِلْمُتَّقِين} السائرين في منهج الرسالات، {لَحُسْنَ مَآبٍ} فإن للتقوى دورها الكبير في تحديد العاقبة الحسنة والمرجع الأفضل ، إذ تحدّد عظمة النهاية من خلال استقامة البداية، {جَنّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} فلا يغلق عنهم بابٌ ولا يحجبهم عنها حجاب، لأن الله قد أعدّها لهم منذ اختاروا السير في طريق رضاه، {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} في جلسة استرخاءٍ وراحةٍ ونعيم، لا يشغل بالهم شيء من الهمّ والغمّ، ولا يخامرهم لونٌ من الحزن، {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} فمن مظاهر النعيم الحسن أن ينالوا ما يشتهونه من الفاكهة الكثيرة من كل نوعٍ ولون، ومن الشراب اللذيذ الذي ينعش الروح ولا يخامر العقل. {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} لا يمددن نظرهن إلا إلى أزواجهن، فلا يمددنه للآخرين، بل يلتفتن إلى أزواجهن في غنج ودلال، {أَتْرَابٌ} والأتراب هم الأقران، فهن متماثلات في السن أو في الجمال،{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} ووعد الله الحق {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا} الذي رزقناه للمتقين ليعيشوا حياة الرضى والطمأنينة والنعيم، وليبقى لهم في كل وجودهم في الجنة {مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} لأن خزائن الله لا تنفد.
* * *
مصير الطاغين
{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} لأن الطغيان لا يمكن أن يحقق لأصحابه خيراً، بل هو الشرّ الكبير الذي يُعقب السائرين فيه كل الشرّ في العاقبة، لأن الإنسان يحصد ما يزرع، فمن يزرع الطغيان يحصد النيران، {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} فيحترقون فيها ويقاسون عذابها، {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} وهو الفراش الموطّأ، وأي فراش أكثر شقاءً وخشونةً من الفراش الذي تمهده جهنم للداخلين فيها ليلاقوا الشقاء المقيم!؟ {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} أي هذا الحميم الشديد الحرارة والغساق الذي هو القيح الشديد النتن، أو صديد أهل النار، فليذوقوه {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} فليس هذا العذاب في الحميم والغسّاق هو كل شيء مما يعانيه أهل النار، بل هناك أشكالٌ أخرى، وألوانٌ متنوعة، متماثلة في نتائجها الشديدة القاسية، كالزقوم والسموم، وهنا نقف أمام هؤلاء الطاغين لنشاهد كيف يعيشون العداوة والحقد والبغضاء بينهم، حيث يحمّل بعضهم مسؤولية دخولهم النار للبعض الآخر.
* * *
كيف يتلقى الطاغون بعضهم بعضاً في النار؟
{هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} يتقدم الأفواج الأخرى، ويندفع الفريق السابق الذي كان قد سبقهم إلى النار، وهو الفريق الذي قادهم إلى الضلال، ليقول لهذا الفوج القادم {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} وتلك هي التحية السلبية التي يطلقها المتبوعون للتابعين، خوفاً من النتائج المترتبة على وجودهم معهم، في ما يمكن أن يزيد من مسؤوليتهم في ساحة الضلال، فيزيد بذلك عقابهم، فيواجهونهم بالنداء {إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} كمظهرٍ من مظاهر الرفض لهم، والتنديد بهم، والاحتقار لهم.
ويأتي الجواب من أولئك القادمين: {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} فأنتم الذين تستحقون التحية الرافضة لوجودكم، المملوءة بالاحتقار لمواقعكم، لأنكم سبب دخولنا النار من خلال وسائل الضلال التي كنتم تستخدمونها معنا، وتدفعوننا إلى الأخذ بها، والسير في طريقها، {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} فهم قد اجتمعوا سويةً في هذا المكان النائي، وهو النار، ثم تتضاعف النقمة في نفوسهم، وتثور البغضاء الحانقة في وجدانهم، فتتحول إلى دعاءٍ ينطلق من أعماقهم، ليطلب من الله أن يزيد في عذاب هؤلاء الرؤساء المتبوعين لأنهم أضلوا الناس في مواقع ضلالهم، فأضافوا إلى جريمتهم جريمةً.
{قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا} المصير الأسود المحرق المذلّ، {فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً} أي مضاعفاً {فِي النَّارِ}.
وتصمت كلمات الحسرة ويمتد الحديث بينهم، في ما نقله الله من تكملة هذا الحوار في آيات أخرى، عندما يرد عليهم المتبوعون بأنهم هم المسؤولون عن ضلال أنفسهم، لأنهم كانوا يملكون الفكر الذي يميزون به بين الحق والباطل، والإرادة التي يستطيعون أن يحركوها في اتجاه الموقف الحق.
وهنا يتساءل أهل النار، كمجتمعٍ موحّدٍ في الدنيا في شعاراته وعناوينه وتحدياته، عن المؤمنين الذين كانوا معهم هناك، عندما كانت الكلمات القاسية الساخرة العدوانية تنطلق من أفواههم، لترميهم بكل تهمة الشرّ والإضلال والانحراف، لأنهم خالفوا عقائد الآباء والأجداد، وتمرّدوا على أصنام مجتمعهم القبلي أو الطبقي الذي كان يعبدهم من دون الله.
{وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشْرَارِ} من أولئك الضعفاء الذين كان الأقوياء من الكافرين المترفين يضطهدونهم في الدنيا ويعدّونهم من الطبقة المرذولة في المجتمع التي لا تحصل على الاحترام في ما يميز به المجتمع الفاسد الكافر، الأخيار عن الأشرار، من خلال قِيَمه المنحرفة، إنهم يتساءلون كيف ابتعدوا عنا، فلم يحشروا معنا، وقد كانوا جزءاً من مجتمعنا في الدنيا بحكم القرابة والمواطنية أو نحو ذلك.
{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} فكنا نسخر منهم ومن أفكارهم ومواقعهم، فأين هُمُ الان، فهل هم في الموقع الآخر الذي يتميزون به عنا في نعيم الله في الجنة، لأنهم آمنوا به وأطاعوه، فكانوا في ساحة رضوانه، ليسخر منّا من خلال مواقعهم العالية كما كنا نسخر منهم، {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} وهم معنا في النار ولا نراهم فيها، لأنهم في موقع آخر من النار.
{إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} حيث تعبر الخصومة عن نفسها بما يتراشقون به من التهم ومن الانفعالات الكامنة في داخل نفوسهم، فالعلاقات الحميمة بين الكافرين في الدنيا، تتحول كما يصور لنا القرآن، إلى علاقاتٍ عدائيةٍ في الآخرة.
تفسير القرآن