تفسير القرآن
ص / من الآية 67 إلى الآية 88

 من الآية 67 الى الآية 88
 

الآيــات

{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ* مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ* إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ* إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِين* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُـلُّهُمْ أَجْمَعُون* إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ* قَالَ يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين* قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ* قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ* إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُوم* قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين* إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ* قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ* لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِين* قُلْ مَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِين* إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين* وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} (67ـ88).

* * *

معاني المفردات

{بِالْمَلأِ الأعْلَى}: الملائكة.

{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}: خلقت بقدرتي.

{بِيَدَيّ}: هي كناية هنا على القدرة الإلهية التي تتمثل فيها إرادته التي يخلق بها الأشياء.

{الْعَالِين}: أهل الرفعة والعلو في الدرجة.

* * *

قصة خلق آدم وكبرياء إبليس

هذا هو الفصل الأخير في السورة، حيث يتمسك النبي(ص) بالموقف الرسالي في خط التواضع النبويّ، فيقدّم نفسه إلى الناس، كما يريد الله، في صورة النبي الذي لا يملك العلم الذاتي بالغيب الذي يعيش فيه الملأ الأعلى، بل كل ما لديه هو من وحي الله الذي أنزله إليه، فهو العلم الإلهي في آي القرآن الذي يريد لهم أن يدركوا عظمته، ويفكروا فيه وينفتحوا عليه، ويؤمنوا به، ليعرفوا كيف يحصلون على السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة.

{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} وهو هذا القرآن الذي جاء بالفكر الذي يقود إلى المنهج العقلي القائم على التأمّل الفطري الوجداني، وإلى المنهج التجريبي القائم على الاستقراء والبحث في مفردات الواقع للوصول إلى النتائج الفكرية من ذلك الموقع الذي ينطلق به الكلي من خلال الجزئي، كما جاء بالشريعة السمحة التي تشتمل على النظام الكامل الشامل الذي يتسع لكل حاجات الإنسان وتطلّعاته في الحياة، ويصل به إلى مواقع التقدم والتطوّر في مجالات المعرفة وحركة الواقع، وهذا هو سرّ عظمة القرآن الذي وصفه الله بالنبأ العظيم الذي جهل هؤلاء قدره الكبير حين ابتعدوا عن التأمل والتعمق في أسراره، {أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} من موقع الجهل الغارق في التخلف الذي لا يعي طبيعة النتائج السلبية المترتبة على ذلك.

{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} في ما أخبرتكم به من حديث الملائكة في بداية الخلق، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فلم أتعلم ذلك من أيّ شخصٍ، ولم أتوسل إليه بطريقتي الخاصة، بل كانت المسألة وحياً من الله أنزله عليَّ، فليس لدي مصدر للمعرفة في هذه الأمور الغيبيّة بكل مفرداتها، غير الوحي.

{إِن يُوحَى إِلَيَّ} بما يريد الله لي أن أعرفه وأن أعرّفكم إيّاه، سواءٌ في تحديد مصدر المعلومات لديّ، أو في الدور الذي عهد الله به إليَّ، {إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} لأنذركم بالنار التي تنتظركم إذا كنتم كافرين، وهذا هو حديث الغيب الذي يُطلّ في نهايته على المسؤولية التي حددها الله في بداية خلق الإنسان أثناء حديثه للملائكة ولإبليس.

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} ذلك هو الحدث الكبير الذي أخبر الله به ملائكته، وتنبع أهميته من اتصاله بالدور الكبير الذي حدّده لهذا المخلوق، وبالطاقات التي أودعها في عقله وإرادته وحركته وانفتاحه على الكون كله، عدا عن أن للإنسان قدرة للانفتاح على أكثر من أفق وصعيد في الحياة. ولم يكن الله قد حدّثهم عن مخلوق آخر، في ما يوحي به القرآن الذي ركّز على هذا الحديث في الحوار البارز الذي دار بين الله وملائكته.

وقد حدّثهم الله عن عنصره الأرضيّ الطينيّ الذي يتحوّل إلى طاقةٍ حيّةٍ عاقلةٍ متحركةٍ واعيةٍ، بفعل الروح التي أودعها الله في عمق السرّ الكامن في الطين، فدبّت في كل ذرةٍ من كل حبةٍ ترابٍ حياةٌ تنمو وتتحرك وتعطي الحياة معنىً في الفكر والحركة واللقاء من جديدٍ بالروح الإلهي على الصعيد الإيماني والعبادي.

ومن خلال ذلك المعنى الذي يمتزج فيه الروح بالتراب ليصنع إنساناً يملك قابلية الذوبان في الله بفعل العقيدة الخاشعة المنفتحة على كل عوالم الروح في الكون، أراد للملائكة أن تسجد له لا في دائرة العبادة لهذا المخلوق، ولكن في آفاق التحية له، والتعظيم لروعة الإبداع في خلقه، خشوعاً لله وخضوعاً وعبادة له، {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} فلم يتخلف منهم أحد، لأن ذاتهم مكوّنةٌ على أساس الطاعة لله، {إِلاَّ إِبْلِيسَ} الذي لم يكن من الملائكة بل كان من الجن، ولكنه كان قريباً من مجتمع الملائكة في المجال الروحي والعبادي، فلم تكن هناك حواجز تمنعه من الارتفاع إلى آفاقهم والعيش معهم، لكنه لم يكن خاضعاً للتجربة المضادة، وربما كان يختزن في داخله ملامح شخصيةٍ شيطانيةٍ تبحث عن متنفسٍ للتحرك في دائرة مضادّة، من قبيل اتصافه بالكبرياء والحسد والحقد المعقّد، فكان أمر الله للملائكة ـ ومعهم إبليس ـ بالسجود لآدم هو المتنفس لهذه العقدة الداخلية، فأبى و{اسْتَكْبَرَ} حيث اخترق شعوره العدواني كل القيم الروحية في داخله {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} في تمرّده على الله، وجحوده لطاعته.

{قَالَ يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فقد أردتك أن تنحني خضوعاً لعظمة الخلق الإلهي الذي تعلق به الخلق بشكل مباشر، {أَسْتَكْبَرْتَ} فتعاظمت ذاتك في وعيك، بحيث ارتفعت بنفسك عن قدرها فأعطيتها فوق ما تستحق ورأيت أنها أكبر من أن تخضع لأوامر الله المتعلقة بهذا المخلوق العظيم، {أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} الذين يملكون هذا العلو في الدرجة بشكلٍ طبيعيٍّ؟!

{قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} فأنا الأعلى منه عنصراً، {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} والنار تفني الطين وتحرقه.

{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي من الجنة {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ*وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} لأنك عصيتني من موقع الكبرياء التي لا أريد لعبادي أن يتصفوا بها أو يتحركوا في دائرتها، ما يجعل اللعنة لاصقةً بكل الذين يمارسونها فكراً وعملاً.

{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أعطني مهلةً كافيةً لتنفيذ مخططي الذي أستطيع فيه أن أنفسِّ عن عقدتي ضد هذا المخلوق وذريته...، {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ* إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} الذي يبعث فيه الخلائق للحساب وهو يوم القيامة.

{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} باستعمال كافة الوسائل التي أستطيع إغواءهم من خلالها لإبعادهم عن الجنة التي حُرمتُ منها، {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} الذين يملكون المناعة الإيمانية التي تنقذهم من الإغراءات الكثيرة التي أحرّكها في حياتهم، فيواجهون وسائل الإضلال بوسائل الهدى، فيثبتون في مواقع الاهتزاز، ويستقيمون في مواضع الانحراف، {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ* لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِين} فهذا هو القضاء الذي لا مردّ له، والحق الذي يفرض نفسه على الموقف كله، في مواجهة هذا التحدي المتمرد على أوامر الله ونواهيه.

{قُلْ مَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر} في كل هذا الجهد الذي أقوم به، وكل هذا الوحي الذي أبلغكم إياه، وفي كل هذه المعاناة التي أتحملها، فلست إنساناً يتقدم إليكم من خلال طموحه الذاتي، بل إنني إنسان أتحرك معكم من خلال مسؤوليتي الرسالية التي تمثل كل استعدادي في البذل والتضحية والمعاناة بعيداً عن أي مقابل مادي، بل هو بذل للروح في عطائها الأسمى والأقصى، وذلك كله من خلال سرّ الانفتاح على الله تعالى، وعمق الإخلاص له، ووضوح الرؤية للطريق المفضي الى رضاه، تماماً كما هو الماء الصافي المتدفق من الينبوع، وكما هو النور المنهمر من الشمس السابحة في شلال الضياء {وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِين} الذين يتكلفون الكلمة والحركة والموقف، فيتصنعون في ذلك كله، ليظهروا بغير ما فيهم وليبتعدوا عن الصدق في مسارهم الحياتي.

{إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين} هذا القرآن الذي أتلوه عليكم، وأقدّمه إليكم، من دون أن أطلب منكم أجراً عليه، هو الكتاب الذي يفتح للعالمين النافذة الواسعة على ذكر الله ووعي المسؤولية، وسعة المعرفة، فيشمل الناس كلهم بهداه من مختلف الأمم والشعوب.

{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين} عندما يؤكد مفاهيمه في حياة الناس، ويمتد في عقولهم، ويتعمّق في أفكارهم، ويُثبت وجوده كقاعدةٍ للفكر والعاطفة والحياة، ويصل بالإنسان إلى أهدافه الكبرى، لا سيّما في سلامة المصير. ولا شك أن هناك الكثير من القضايا التي يثيرها ويدعو لها، سيؤكدها الزمن في المستقبل القريب أو البعيد.