تفسير القرآن
الزمر / من الآية 9 إلى الآية 10

 من الآية 9 الى الآية 10
 

الآيتـان

{أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألبابِ* قُلْ يا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ في هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (9ـ10).

* * *

معاني المفردات

{قَانِتٌ}: قائم بالطاعة.

{آنَآءَ}: جمع آن، أي ساعة من الزمن.

* * *

أجر العاملين الصابرين

{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً} في ما يعنيه القنوت من الالتزام بطاعة الله في روحية الخاشع الخاضع المتمثل في هذا المظهر العبادي الذي يمثل الانسحاق تحت تأثير إرادة الله، وفي التعبير العميق للسجود بما يمثله من الاستسلام الكلّي أمام أوامر الله ونواهيه، في ما يحبه أو يسخطه، {يَحْذَرُ الآخرةَ} فهو في قلقٍ دائمٍ من خطأٍ يقع فيه أو خطيئةٍ يمارسها، أو انحرافٍ يبتعد فيه عن الاستقامة، فيحتاط لذلك في النظرة والمعرفة والممارسة حذراً من الوقوع في ما يجلب له الهلاك في الآخرة، {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} من جهة ما يؤمّله من رحمة الله التي وصف بها نفسه كعنوانٍ لعلاقته بعباده لجهة سبقها لغضبه، ولجهة اتّساعها لكل شيء، ومن جهة ما يأخذ به نفسه من الوقوف عند مواقع رحمته في ما يحبه من طاعته، ويبتعد به عن معصيته.

هل يستوي هذا العبد المطيع الخاضع الخائف من النار، الراجي رحمة الله، مع الكافر الضال المضلّ الذي يتمرد على الله ويستهين بعذابه؟

وهل يكون الجواب إلا أنهما لا يستويان عند الله، بل يتميز المؤمن الشاكر على الكافر المتمرد {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} في القيمة الإنسانية التي يمثل العلم في حساباتها، المستوى الكبير الذي يفتح شخصية الإنسان على الآفاق الرحبة في الحياة بأسرارها العميقة، وامتداداتها البعيدة، ورحابها الواسعة، وقضاياها المعقدة، وشؤونها المتنوعة، وحساباتها الدقيقة، بحيث يملك من خلاله وضوح الرؤية للأشياء، فيفكر في نور، ويتحرك في نور، بينما يمثل الجهل الأفق الضيق، والظلام الدامس، والتخلف المتعفّن، والعقلية المعقّدة، والنظرة القلقة الحائرة، وغموض الوعي للأمور، وبذلك يتحرك الإنسان في الليل المظلم في فكره وشعوره وحركته في خط الحياة.

فلا يستوي الذين يملكون العلم في القيمة الإنسانية والذين لا يملكونه، بل يتقدم العلماء على الجهلاء عند الناس وعند الله الذي يريد لعباده أن يأخذوا بأسباب العلم، وينطلقوا في رحابه، ويتعمقوا في أسراره، ليحصلوا على الهدى من خلاله، وليصلوا إلى معرفة الله في وعي الإيمان، وحركة الالتزام. وقد استوحى الإمام علي(ع) هذا المعنى فقال: «قيمة كل امرىء ما يحسنه»[1]، فأعطى المعرفة دور القيمة، في مقابل الذين أعطوا القيمة للمال وللجاه، ولغير ذلك من متاع الدنيا وقيم المادّة.

{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألبابِ} أي العقول، في ما يوحي به ذلك من حركة العقل في حياة الإنسان، في إغناء الذات بالفكر المتأمّل الذي يفتح الوعي على الساحة من حوله، ليحدّد له الفاصل بين الحق والباطل، والخير والشرّ، والحسن والقبح، والهدى والضلال، لتنطلق إرادته في رشد الاختيار، ليتذكر ربّه، فيعبده حق عبادته، ومسؤوليته، فيقوم بها كما يجب، ومصيره، فيخطط له على خير ما يرام... وهكذا يبتعد بالعقل عن الغفلة، وينأى عن النسيان والسقوط.

وهكذا نجد أن هذه الآية جمعت في فقراتها العناصر الثلاثة في تكامل الشخصية الإنسانية الإسلامية:

1 ـ العقل الذي يبدع للإنسان خط التوازن في المعرفة.

2 ـ العلم الذي يفتح له آفاق الحياة ـ من خلال حركة الفكر ـ في موارده ومصادره ومفرداته، ليعي ـ بواسطته ـ كيف يسلك الخطّ المستقيم في حياته.

3 ـ الالتزام الدقيق بأوامر الله ونواهيه في عباداته ومعاملاته وعلاقاته العامة والخاصة، وهذا ما يؤمّنه الخوف من الآخرة، والرجاء برحمة الله.

وهذه الأمور يريد الله للإنسان أن يحركها في حياته، كي يحصل على النتائج الكبيرة في قضية المصير.

* * *

الله يبادل الإحسان إحساناً

وتأتي بعد ذلك آيةٌ حركيّةٌ أخرى يبلّغ الله فيها رسوله ليقول للمؤمنين الذين يعانون من المشركين التحديات الصعبة، سيما من جهة ما يتعرضون له من أساليب الإذلال والضغط النفسي والجسدي والعائلي: إن عليهم متابعة السير في خط الالتزام في ما يريدهم الله، وما يحسنون به لأنفسهم وللحياة من حولهم من الأعمال الصالحة والمواقف الكبيرة، سيبادلهم الله به إحساناً في الآخرة... وإنَّ عليهم أن لا يخضعوا للضغوط القاسية التي تريد أن تحاصرهم وتضغط على إرادتهم، وذلك بالبحث عن الوسائل التي تحررهم منها. {قُلْ يا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ} فجعلوا الإيمان عنوان سلوكهم العملي، باعتباره التجسيد لإيمانهم الفكري والروحي، {اتَّقُواْ رَبَّكُمْ} فإن التقوى تمثل موقف الصدق للإيمان، لأنها توحي بالعمق الروحي في مضمون الالتزام، بما تمثله من انضباطٍ شاملٍ؛ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا} بالعمل الصالح في مضمون تقوى الله ومراقبته في الفكر والحركة، {حَسَنَةٌ} قد تأخذ حجماً صغيراً محدوداً، وقد تأخذ حجماً كبيراً مضاعفاً، تبعاً لنوعية العمل في حجمه وروحيته.

وقد تكون كلمة الدنيا ظرفاً للحسنة التي يمنحها الله للمحسنين، وذلك بما يعطيهم من طمأنينة الروح، وهدوء البال، ونعيم الرزق، ومواقع الخير، ولكن الظاهر أن الدنيا ظرف للإحسان الذي يقوم به المحسنون، وبذلك تكون الحسنة شاملةً لأجر الدنيا والآخرة معاً في ما أطلقه الله منها.

* * *

أرض الله واسعة

{وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} فيمكن لكم أن تهاجروا فيها إذا اشتد الحصار عليكم، وأطبقت الضغوطات من حولكم، ليمنعكم هؤلاء المشركون من القيام بالتزاماتكم الإيمانية، وأعمالكم الصالحة، فالله لا يريد للمؤمن أن يستسلم لضعفه أمام القوى الطاغية المستكبرة أو يستضعف نفسه في ساحاتهم، بل يريد له أن يأخذ بأسباب القوة في مواقع أخرى ليرجع إلى مواقعه الأولى من قاعدة القوّة الجديدة المكتسبة، حتى تظل إرادة القوّة في عملية تكوين الشخصية للإنسان المؤمن.

وقد يعتبر البعض هذا التوجيه القرآني بالهجرة من أرض الوطن إلى أرض أخرى للتخفُّف من الضغوط، نوعاً من أنواع الهروب من الساحة، لأن المفروض للمؤمنين أن يصمدوا في مواقع الصراع.

ولكننا نلاحظ على هذه الفكرة، أنّ الآية واردةٌ في مقام الرخصة للذين يخافون أن يسقطوا أمام الضغوط ويضعفوا في ساحة التحديات، لأنهم لا يملكون الظروف التي تسمح لهم بالصمود، ولا يملكون القوّة التي تمنحهم الاستمرار على الثبات، فهم يخافون من نقاط ضعفهم أن تستيقظ لتسقطهم من حيث لا يشعرون، وليست الآية واردةً في الأشخاص الذين يملكون إمكانات الصمود والاستمرار، إذ على هؤلاء عليهم أن يصمدوا ليحققوا للموقف الإسلامي القوّة من خلال مواقعهم ومواقفهم، بالمستوى الذي قد لا يجوز فيه لهم الخروج إلى أرضٍ أخرى، وموقعٍ آخر. وهذا ما نستوحيه من الحديث عن سعة الأرض، فإنها إشارةٌ لمن تضيق به أرضه، لا لمن تتّسع لحركته ولو كان ذلك بطريقةٍ صعبة.

{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فتلك هي القيمة الروحية العملية التي تمثل الشرط الأساس لكل فكرٍ يريد أن يتجذر في العقل من خلال الدعوة، ولكل مشروعٍ يريد أن يتقدم في خط الواقع من خلال الحركة، ولكل علاقةٍ تريد أن تربط الأمّة بسلسلةٍ من العلاقات العامة التي تشدّها إلى ساحة الوحدة، ولكل عملٍ صالحٍ يتحرك في داخل الذات أو المجتمع، ولكل طاعةٍ لله يريد الإنسان المؤمن من خلالها أن يؤكّد فيها عبوديته لله من قاعدة الإخلاص المتحرك في خط التقوى، فلا مجال لتحقيق هذه النقاط، من دون الصبر الجميل العميق الذي يواجه الحرمان المفروض من كل تلك المشاريع الخاصة والعامة على حياة الإنسان المادية والمعنوية، الأمر الذي يجعل من الصبر قيمة القيم، وعمق الحركة الممتدة في كل مواقع الخير للإنسان. ولهذا جعل الله أجر الصابرين غير محدودٍ، فليست هناك حساباتٌ معينةٌ، ولا حدودٌ خاصةٌ لرحمة الله في ذلك كله.

وقد جاء في تفسير العياشي بالإسناد عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله ـ جعفر الصادق(ع) ـ: قال: «قال رسول الله(ص) إذا نشرت الدواوين ونُصبت الموازين لم يُنصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان، ثم تلا هذه الآية {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}»[2].

ــــــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة، ص:482، قصار الحكم:81.

(2) مجمع البيان، ج:4، ص:767.