الآيات 47-55
الآيــات
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ* وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ* قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ* إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ* يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ* وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائيلَ الْكِتَابَ* هُدًى وَذِكْرَى لأوْلِى الألْباب* فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالاِْبْكَارِ} (47ـ55).
* * *
معاني المفردات
{يَتَحَآجُّونَ}: يتخاصمون.
{نَصِيباً}: قسطاً.
* * *
المستكبرون والمستضعفون يتحاجّون في النار
{وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النّارِ} عندما يجتمع المستكبرون والمستضعفون ويلتقون وجهاً لوجهٍ، يتذكر المستضعفون الأساليب التي كان يتبعها المستكبرون في إضلالهم وفي توريطهم في المعاصي التي توصلهم إلى غضب الله، لأن المستضعفين لم يكونوا ذوي شخصيات قوية تستطيع رفض أوامر المستكبرين ونواهيهم، ما حوّل المستضعفين إلى أدواتٍ مسخّرة لكل مشاريع المستكبرين الشيطانية، وهكذا كان المستكبرون السبب في هذا المصير الذي انتهى إليه المستضعفون.. {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} فقد كانوا الجمهور التابع الذي لا يملك قراره، ولا إرادته، بل يتلقّى التعليمات منهم، فإذا كانت هناك حربٌ ظالمةٌ يريد المستكبرون ظلم الناس من خلالها، قادوهم إليها ليقاتلوا لحسابهم، وإذا كانت هناك مواقف منحرفة يريدون تأكيدها في المجتمع طلبوا منهم العمل على الالتفاف حولها، وإذا كانت هناك ضغوطٌ مادّيةٌ أو معنويةٌ يريدون ممارستها على بعض القوى المضادّة لهم في الأمة، أرادوا أن يكونوا الأدوات الضاغطة عليها، وبهذا كانت تبعية المستضعفين سبباً في تقوية مراكز المستكبرين التي يظلمون الناس من خلالها، فيقتلونهم، ويسجنونهم، ويعذبونهم، ويضلّلونهم، ويضغطون عليهم في مصالحهم، وكان هؤلاء الضعفاء هم القوّة الغاشمة التي يسيطر بها الأقوياء على الضعفاء الآخرين، ولولاهم لكان الضعفاء أقوى من المستكبرين، لأن المستكبرين لا يمثلون عدداً كبيراً في الأمة، ولا قوّةً هائلةً فيها، لأن قوتهم مستمدةٌ من قوّة المستضعفين كما أن كثرتهم العددية ناتجةٌ عن كثرة أتباعهم.. ولهذا كان الضعفاء يحملون كل أوزارهم التي استحقوا بها دخول النار، لأنهم يملكون فكراً يمكّنهم من معرفة الحقيقة، ويملكون إرادةً تمكنهم من رفض الأوامر والنواهي الظالمة الطاغية، ومواقع للقوة يستطيعون أن يبتعدوا بها عن مواقع الضعف.. فكانت مسؤوليتهم في انحرافهم عن الخط المستقيم كاملة.
وهكذا وقف الضعفاء أمام المستكبرين ليذكّروهم بصفة التبعية التي أعطتهم القوة التي انطلق فيها ملكهم، وكبرت فيها سلطتهم، وامتدت بها مواقعهم، وأخذوا يطلبون مساعدتهم في الآخرة كما ساعدوهم في الدنيا، ظنّاً منهم أنهم يملكون موقعاً ضاغطاً على الواقع الأخروي كما كانوا يملكون مثل هذا الموقع في الدنيا.. {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ} فهم مقتنعون بأنهم لا يستطيعون تخليصهم من النار التي سيقعون فيها، لذلك طلبوا منهم التدخل للتخفيف عنهم، من قسوة عذابها.. وربما كان طلبهم ذاك ليس طلباً حقيقياً ينم عن اعتقادهم بقدرتهم على التدخّل، بل كان هدفه تسجيل نقطةٍ حادّة عليهم لأنهم كانوا سبب دخولهم النار، من موقع دور التبعية الذي فرضوه عليهم باستغلالهم لنقاط ضعفهم. فهم يريدون أن يقولوا لهم، في ما يوحي به هذا الاحتمال، إذا كنتم تملكون في الدنيا القوة التي تستعرضون بها عضلاتكم المعنويّة، فهل تملكون ذلك الآن؟! ليبقى السؤال متحدياً ساخراً متحركاً من موقع المرارة الروحية. {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ} فليست فيها ميزةً للمتبوعين على التابعين، ولا يملك أحداً منا أية قوّةٍ فيها ولم يكن لنا عذر، كما لم يكن لكم أيّ عذرٍ في ما جنيناه أو جنيتموه من ذنوب وجرائم، سواء كان ذلك متمثلاً في ضلالنا أو إضلالنا لكم، أو كان متمثلاً في ضلالكم بالخضوع لنا، وأنتم قادرون على التمرد علينا، لأنكم تستطيعون الحصول على القوّة ولكنكم فضّلتم الراحة والاسترخاء على المواجهة والمعاناة، فأسقطتم إرادتكم تحت تأثير إرادتنا، فلا تطلبوا منا أية مساعدةٍ لتخفيف العقاب عنكم لأنكم تعرفون أننا لا نملك من ذلك شيئاً، فكلنا محكومون {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} ولا رادّ لحكمه، وهو الحَكَم العدل.
* * *
بين أهل النار وخزنتها
وينتهي حوار المستضعفين مع المستكبرين.. وينتقل الجميع الذين وجدوا أنفسهم في قلب المشكلة من دون أن يغني أحدٌ منهم عن الآخر شيئاً، ليقفوا في موقف آخر، وليتجهوا إلى المشرفين على شؤون النار طالبين الوساطة، تماماً كما كانوا ـ في الدنيا ـ يتوجهون إلى المقرّبين من الملوك ليشفعوا لهم عندهم: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ} فإن دعاءكم مقبولٌ لديه، لأنكم من المقرّبين عنده، {يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ}، نرتاح فيه، ونتخفف من قسوة الآلام التي تنهش أجسادنا والحروق التي تلسع كل أعصابنا.
{قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ} وكنتم ممن قامت عليه الحجة بالبلاغ، فلم تكن هناك أية موانع تمنعكم عن الإيمان، لا من الناحية الداخلية في مضمون الرسالة، ولا من الناحية الخارجية في الرسول الذي حملها، وفي الجوّ الذي عاشته الدعوة في الأسلوب والحركة؟! {قَالُواْ بَلَى} فقد واجهنا الحقيقة بكل وضوحٍ، ولكننا وقفنا منها ومن رسولها موقفاً مضادّاً نتيجة العناد والاستكبار، {قَالُواْ فَادْعُواْ} لأننا لا نملك أن ندعو الله في أمركم بأيّ شيءٍ بعدما عرّفنا الله مواقع الدعاء للمذنبين، والشفاعة للخاطئين، فنحن لا نملك الإِرادة المستقلّة في ذلك كله، بل نحن تابعون لأمره، خاضعون لإِرادته، لذا حاولوا أن ترفعوا أكفّكم بالدعاء إلى الله، لتجرّبوا حظّكم عنده {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} لأن الله قد أغلق باب رحمته عنكم لكفركم وتمرّدكم عليه.
* * *
إنا ننصر رسلنا والمؤمنين
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فيما نهيِّئه لهم من وسائل النصر وما نمنحهم إياه من قوّة الغلبة في حركة الواقع، أو من قوّة الحجة في حركة الفكر، أو في تحريك الصراع في الساحة، لإِثارة الجوّ لمصلحة الرسالة على أساس الاهتمامات الجدّية التي تثيرها لمصلحة أعدائها وأصدقائها، ونحو ذلك ممّا يجعل لهم موقعاً مثيراً في الحياة في دائرة السنن الكونية التي أودعها الله في حركة الواقع في ساحات الصراع. {وَيَوْمَ يَقُومُ الاَْشْهَادُ} في ما يمنحهم من درجات عالية، وموقع مميّز، وشأن عظيم يتميزون به عن مواقع الطغاة والمستكبرين الذين يُلقَى بهم إلى دركات الجحيم {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} عندما يحاولون تبرير كفرهم وانحرافهم عن الله، لأنهم لا يملكون الحجة في ذلك كله بعد أن أقام الله عليهم الحجة من كل جانب {وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ} التي تمثل إبعادهم عن مواقع رحمة الله، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} أي الدار السيئة وهي جهنم.
* * *
التوراة كتاب هدى ونور
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} في ما حددنا له من الفكر التوحيدي، وخططنا له من التشريع الإيمانيّ العملي الذي يبلغ به الناس مواقع مصالحهم في الدنيا والآخرة.. فيلتقون بالبدآية المشرقة التي تطلّ بهم على النهآية الهادية. {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائيلَ الْكِتابَ} وهو التوراة، {هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألباب} ليكون منطلقاً للمعرفه التي تمثل النور الذي يطرد جحافل الظلام، وقاعدةً للفكر الذي يتحرك به العقل ليميِّز بين الحق والباطل، وليبني لهم الأَساس الذي يركز لهم مجتمع القيم الروحية والفكرية التي تقودهم إلى الخير وتبعدهم عن الشر، ولكنهم، في ما توحي به الآيات القرآنية الكثيرة، لم يهتدوا به، ولم يستقيموا على طريقه، بل حرّفوه عن مواضعه، واشتروا به ثمناً قليلاً وتمرّدوا على الرسالات التي جاءت من بعده، وعلى الرسل الذين حملوها إليهم كما تمرّد غيرهم من بعدهم، فكان بينهم وبين الكافرين والمشركين حلف غير مقدس {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} حيث وعد الله رسله بالنصر، عندما يحين موعده.. لأن ذلك يحتاج إلى المعاناة وتحمّل ما تفرضه ساحة الصراع من آلام في شدّتها وقسوتها.
* * *
كيف نفهم أمر النبيّ بالاستغفار؟
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} هل هناك ذنبٌ لا بدّ للنبي من أن يستغفر منه، وما هي طبيعته؟ ولا سيّما في ما يتعلق بتبليغ الرسالة، في أسلوبها وحركتها وحيويّتها وحكمتها، وهو أمر لا يمكن أن ينسب أحدٌ فيه إلى الرسول إلا كلّ سموٍّ وعلوٍّ وحكمةٍ، فقد كان الرسول يعطي من نفسه الكثير، لكي يفتح قلوب الناس على الله، وعلى الحق النازل في وحيه، فكيف نفهم المسألة؟ وكيف تلتقي دعوة النبي إلى الاستغفار بالعصمة التي تجسّدها سيرته، قبل أن يجسّدها معنى العصمة في نبوّته؟ وهل نجد لها تفسيراً آخر؟ فقد ذكر المفسرون في قوله تعالى في سورة الفتح: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] أن الذنب فيها هو الذي كان أهل مكة يعتبرونه ذنباً في حقّهم، في ما أوقعهم فيه من مشاكل ومتاعب بسبب دعوته التي أدخلتهم معه في حروب كثيرة، ولكن ما معنى أمر الله له بالاستغفار؟!
قد يُراد منه المعنى العباديّ الذي تختزنه كلمة «الاستغفار» في عمقها الدالّ على الإحساس بالعبودية لله، والاعتراف بالخضوع له، والانسحاق بين يديه، تماماً كما هو موقف العبد من سيّده عندما يقف موقف الاعتراف الخاشع الخاضع، كما هو المعنى العبادي في كلمة الحمد والتسبيح والتهليل والتكبير الذي يوحي بالإِحساس، من دون تحديد المضمون، والله العالم.
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} في صلاةٍ دائمةٍ خاشعةٍ يمتزج فيها التسبيح مع الحمد ليكون ذلك تعبيراً عن التعظيم الذي يعيشه النبي في عمق روحه أمام الله.
تفسير القرآن