من الآية 1 الى الآية 8
الآيــات
{حم* وَالْكِتابِ الْمُبِين* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَليٌّ حَكِيمٌ* أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ* وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزئُونَ* فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} (1ـ8).
* * *
معاني المفردات
{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ}: أنعرض عنكم ونترككم.
{صَفْحاً}: إعراضاً.
{مُّسْرِفِينَ}: متجاوزين الحد.
* * *
وإنه في أم الكتاب لعليّ حكيم
{حم} من الحروف المقطّعة التي ألمحنا إلى الحديث عنها في سورة البقرة، والشورى..
{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} قد يكون هذا قسماً بالكتاب الواضح في مفاهيمه وأحكامه ووصاياه، وما يمثله من أهمية كبرى باعتباره كلام الله الذي أريد له أن يخطط للحياة على أساس الحق والعدل في دائرة التوحيد الإلهيّ، وحركة الرسالة.
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} باللغة التي تتكلمون بها وتفهمونها، فلا يبقى أمامكم إلا أن تفكروا بمضمونه لتعرفوا حقائق العقيدة والحياة، ولتصلوا، بذلك، إلى القناعات الرسالية، فلا يكون لكم حجةٌ في ما تنكرون، أو في ما تنحرفون وتجادلون، {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فإن الله قد جعله لكم وسيلةً للرجوع إلى العقل في التفكير والحوار، وللوقوف عند قواعد العقل وموازينه.
وقد ذكر صاحب الميزان في تفسير ذلك معنىً آخر فقال: {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} «غاية الجعل وغرضه، وجعل رجاء تعقله غاية للجعل المذكور، يشهد بأن له مرحلةً من الكينونة والوجود لا ينالها عقول الناس، ومن شأن العقل أن ينال كل أمرٍ فكريّ، وإن بلغ من اللطافة والدقة ما بلغ، فمفاد الآية: أن الكتاب بحسب موطنه الذي له في نفسه أمرٌ وراء الفكر أجنبيٌ عن العقول البشرية، وإنما جعله الله قرآناً عربياً وألبسه هذا اللباس رجاء أن تستأنس به عقول الناس فيعقلوه، والرجاء في كلامه تعالى قائم بالمقام أو المخاطب دون المتكلم كما تقدم غير مرة»[1].
ولكن التأمّل في هذه الآية لا يدل على ما ذكره، بل الظاهر منها أن الله قد أنزله كتاباً عربياً بلغتكم لتفهموه وتعقلوه، كما يفهم أهل كل لغةٍ الكلام النازل عليهم بهذه اللغة، باعتبار وضوح اللغة الذي يمنح الإنسان وضوحاً في المطلب، والله العالم.
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} الظاهر أن المراد بأم الكتاب ـ في ما يذكره المفسرون ـ اللوح المحفوظ، وأن علوّه في علوّ المنزلة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان من خلاله، أو في علوّ الفكر الذي يرتفع بالتصور الإنساني لحقائق العقيدة والحياة إلى المرتبة العليا، أو في علوّ البلاغة، كما يذكره البعض.
وقد اعتبر صاحب الميزان، العلوّ بمعنى «أنه رفيع القدر والمنزلة من أن تناله العقول»[2] ولكن الظاهر أن الحديث عنه، بلحاظ جانب السموّ في معناه وفي أسلوبه، للدلالة على أن الله يريد للإنسان العلو من خلاله، لأنه لا معنى لأن ينزل الله كتاباً لا يتعقل الناس حقيقته ومعناه. «بحيث يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا وما في أمّ الكتاب نسبة المثل والممثّل، فالمثل هو الممثّل بعينه لكن الممثّل له لا يفقه إلا المثل»[3] كما يقول صاحب الميزان، إذ ليس هنالك حكمة من ذلك بالنسبة إلى طبيعة الكتاب.. وربما كان معنى {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} هو وصف القرآن هناك بهاتين الصفتين، أمَّا الحكمة فيه، فاشتماله على المضمون الذي يحقق للناس التوازن في حياتهم ويساعدهم على وضع الأشياء في مواضعها، فيتصورون القضايا في موازينها، ليملكوا بذلك البصيرة الكاملة في الأمور المتعلقة بقضايا الفكر والحياة..
* * *
الذكر حجة على العباد
{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ} أي هل نهملكم فلا نوجّه إليكم القرآن إعراضاً عنكم، لأنكم أسرفتم وتجاوزتم الحدّ في الكفر والضلال، وقد جاء السؤال على سبيل الإنكار، فإن الله لا يهمل عباده، بل يقيم عليهم الحجة التي تفتح قلوبهم على الحق، ويقرّب إليهم كل وسائله، ويقودهم إلى هداه.
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ} الذين أسرفوا في كفرهم، كما أسرفتم، وضلوا كما ضللتم، لنفتح لهم النوافذ على حقائق العقيدة والحياة وعلى المنهج الأمثل.
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ} فلا يواجهونه بالتفكير بما جاء به وبإدارة الحوار حوله، كما يفعل العقلاء الواعون المنفتحون على آفاق الحقيقة، بل يواجهونه بالسخرية والاستهزاء كما يفعل العابثون.
{فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} فلم تمنعنا قوّتهم وبطشهم بالآخرين وسيطرتهم على من حولهم من إهلاكهم وإنزال العذاب بهم {وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ} في ما نريد إثارته ليكون نموذجاً للأمم القادمة التي تتحرك في أجواء الإِسراف العقيدي والعملي..
وهذا ما دأب القرآن على إثارته في القصص لدى حديثه عن الكافرين السابقين.
ــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:18، ص:84ـ85.
(2) تفسير الميزان، ج:18، ص:86.
(3) (م.ن)، ج:18، ص:85.
تفسير القرآن