تفسير القرآن
الزخرف / من الآية 29 إلى الآية 32

 من الآية 29 الى الآية 32
 

الآيــات

{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ وَآبَآءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ* وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ* أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (29ـ32).

* * *

جاءهم الحق فكفروا به

{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ وَآبَآءهُمْ} فعاشوا مدّة طويلةً في رغدٍ ورخاء ونعمةٍ وافرة.

{حَتَّى جَآءهُمُ الْحَقُّ} وهو القرآن الذي يحمل حقائق العقيدة والحياة، {وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} يهديهم إلى سبل السلام الروحي والفكري والعملي من خلال الإسلام، وهو محمد(ص).

{وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ} الذي أراد أن يفتح عقولهم على التوحيد، قابلوه بالكلمات اللاّمسؤولة التي لا تحمل أيّ معنىً معقولٍ في دراسة الحق الذي جاءهم، وموقع الرسول في رسالته وفي ذاته، {قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ} لأنه يجذب الناس إليه بطريقةٍ لا شعوريةٍ، كما يحدث لهم عندما يواجهون تهاويل السحر في مواقع أخرى، ولكن ذلك كلامٌ لا معنى له، لأن للسحر قواعده وأشكاله التي لا تنسجم مع القرآن الذي يدخل إلى العقول ليدفعها إلى التفكير والتأمل، تماماً كما هي القضايا الفكرية التي تفرض نفسها على الناس كقناعات يتبنونها بعد تفكير واعً فيها.. غير أن غايتهم كانت إيجاد كلمة مثيرةٍ، لإبطال تأثير الرسالة على تفكير الناس، باعتبارها وحياً إلهياً، ليوجّهوهم إلى عناوين أخرى لا تملك من القداسة ما تملكه النبوّة في وجدانهم. فكانت كلمة السحر إحدى هذه الكلمات التي أطلقوها بطريقةٍ انفعاليةٍ من دون أن يفسحوا المجال للدخول في نقاشٍ حولها، كما تفعل الدول المستكبرة في عصرنا الحاضر، فهي تحرّك الكلمات المثيرة ضد بعض التيارات الإسلامية أو السياسية المضادة لسياستها، لتشوّه صورتها في نظر الرأي العام العالمي، مثل نعوت التطرف والتعصب والإِرهاب ونحوها، التي لا يرتاح الناس إلى إيحاءاتها السلبية، ولكنهم لا يناقشون، ولا يدخلون في حوار حول تلك النعوت مع الجهات المقصودة بها، لأن اهتماماتهم الخاصة تمنعهم من ذلك، وتبقيهم في دائرة الاستهلاك السريع للفكرة أو للخبر الذي تقدمه، في نطاق السياسة الإعلامية.

وقد يحتاج العاملون إلى مواجهة ذلك كله، بالموقف الواعي القوي الذي يعتبر الإِعلام أداةً من أدوات الصراع ضد الإسلام وأهله، ليدرسوا الظروف السياسية العامة التي تحدد وسائل الردّ بطريقة تكفل احتواء السلبيات في هذا المجال، وردّ الحرب الإعلامية بحربٍ مماثلة متحركةٍ في كل الساحات الفكرية والعملية بوعيٍ واتّزان، على نهج الأسلوب القرآني الذي واجه المسألة بدقةٍ وحكمةٍ.

* * *

تسلُّح المشركين بمنطق الطبقية

{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} وهذا أسلوب جديد من أساليبهم المثيرة التي يستهدفون ـ من خلالها ـ احتواء تأثيرات الدعوة الإِيجابية على الناس، وإرباك الوجدان العام حولها..

ويعتمد هذا الأسلوب على التركيز على العنصر الطبقي في عقلية المجتمع الجاهلي، الذي يرى أن الرجال الكبار الذين يملكون الموقع الاجتماعي المميز، هم وحدهم الذين يحق لهم أن يتولوا قيادة المجتمع بما يحملونه من أفكار وبما يحركونه من أوضاع، وهم الموقع الطبيعي الذي يجب أن تنزل عليه الرسالات من الله ـ إذا كانت مسألة الوحي في الرسالة أمراً وارداً بالنسبة للعقل ـ لأنهم يملكون تحريك الرسالة في وجدان الناس من خلال قوّة تأثيرهم على مواقع حياتهم، في ما يملكونه من أمورهم الاقتصادية والاجتماعية التي تمكّنهم من الضغط عليهم.

وفي ضوء ذلك، كانوا يشيرون إلى فقر النبي وفقدانه الموقع الاجتماعي البارز الذي يملكه أصحاب رؤوس الأموال، ليؤكدوا للناس أن الرسالة التي يكلف الله ربّ العالمين بها بعضهم، فينزل الوحي عليهم، وهو القرآن الذي يدّعي النبي أنه منزلٌ من الله، لا يمكن أن تنزل على هذا الفقير اليتيم المعدم الذي لا يستطيع حماية نفسه من العدوان، فكيف يحمي دعوته، كما أنه لا يملك الوسائل التي يستطيع بها التأثير على الناس لأنهم لا يسمعون إلا من الكبار في المجتمع، ولهذا كان لا بد من أن ينزل القرآن ـ لو كان حقيقة ـ على رجل عظيم من القريتين ـ مكة والطائف ـ. وقد تحدث المفسرون عن أسماء عديدة، كالوليد بن المغيرة وعتبة بن أبي ربيعة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف، وغيرهم.. وربما كان ذلك صحيحاً وربما كانوا لا يقصدون شخصاً بعينه، وهذا هو الأقرب، لأنهم تحدثوا عن رجل عظيم من القريتين، باعتبارهما البلدين اللذين يعيشون فيهما، ما يوحي بأن الميزان الطبقي هو مبدأ يشيرون إليه، لا شخص بعينه.

{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} وهذا هو التعليق القرآني على هذه المقولة، فإن الرسالة ليست شأناً بشريّاً يرجع أمره إلى الناس، ليحدِّدوا ملامح الرسول على أساس طبقي، بل هي شأنٌ إلهيٌّ، يرحم الله به من يشاء فيمن يصطفيه لكرامته، ويختاره لرسالته، ممن تتوفر في فكره وأخلاقه ومنهجه الصفات الرسالية.. ولهذا فإنهم عندما يتحدثون بهذه الطريقة، فإنهم يتدخلون في شؤون الإرادة الإلهية لجهة ما يقسم الله فيه رحمته بين عباده من خلال ما يعرفه من أمور صلاحهم وفسادهم، مما لامكان لإِبداء الرأي فيه، ولا أساس للاعتراض عليه.

* * *

الناس درجات

{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} وجعلنا لكل واحدٍ منهم موقعاً ورزقاً محدوداً، وطاقةً معينةً، لا يملك أيّ واحد مورداً يستغني به عن الآخرين، في ما تقوم به حياته، أو تخضع له حاجاته، وذلك من خلال النظام المتوازن الذي تفرضه الحاجات الإنسانية في الواقع.. فهناك جماعات تملك من المال والطاقة ما لا تملكه جماعاتٌ أخرى، ما يجعلها تحتاج إليها في ذلك، على مستوى القضايا الأساسية، أو القضايا الطارئة المتصلة بالمواقع الجزئية في الحياة..

{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} فالتوازن الطبيعي يفرض اختلاف الناس في مواردهم وطاقاتهم ومواقعهم وحاجاتهم وتنوعهم في المهمّات والأدوار، ما يجعل درجة بعضهم أعلى من درجة البعض الآخر.. ولكن هل هذا التمايز في القيمة الروحية؟ وهل هو موقعٌ يتميز به البعض عن غيرهم بشكل مطلق؟ أم هي مسألة الواقع الخاضع للأسباب الطبيعية بعيداً عن الامتياز الذاتي أو الطبقي عند الله وعند الناس؟

الظاهر، أن هذا التمايز يعود إلى الواقع التنظيمي للحياة الإنسانية الذي يستدعي توزيع الأرزاق، وتنويع الطاقات، واختلاف الحاجات، وتعدّد المواهب، فلم يجعل الله لأية حالةٍ طبقيّة أو فئويةٍ ميزةً بحسب ميزان القيمة عنده أو في حركة التشريع، بالمعنى التسلّطي المفروض على الناس.. وهذا ما أشارت إليه الفقرة التالية في الآية: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} أي ليسخِّر كل واحد من الناس في حاجاته من يملك أمر تلبيتها بحسب ما لديه من مالٍ وجهدٍ وموقع.. وهذه سنّةٌ طبيعيةٌ في الكون، فإن أحداً ليس مستغنياً عن أحد، وكل شخصٍ مسخرٌ للآخر، بحيث تصبح الحاجة التي تفرض التسخير أمراً نسبياً، لا مطلقاً.. وقد أثبتت التجربة الإنسانية أن تساوي الجميع على صعيدٍ واحدٍ، ليس أمراً واقعاً، فإن طبيعة الحياة تفرض التنوّع في كل شيء، حتى في عالم الحيوان والنبات والجماد، كما تفرض تبادل الخدمات واستخدام بعض الناس لبعضهم الآخر.. ما يجعل القيمة المشتركة، في عمق الأمور، شاملةً للناس جميعاً، ولذلك فقد لا يكون من الطبيعي الحديث في مجال التقنين والتنظيم عن مساواةٍ مطلقةٍ بين الناس، بل المفروض هو الحديث عن المساواة في الحقوق وتوفير الفرص للجميع، بحيث لا يفضل شخصٌ على آخر إلا من خلال كفاءته ودوره المميّز في ما يقدمه للحياة وللناس، لتتحرك المساواة في دائرة التنوّع لا في دائرة إلغاء الخصوصيات.. وتبقى قضية التمايز والمساواة محكومة لمدى التطلع إلى القيمة الكبيرة عند الله، وذلك في آفاق رحمته التي هي سرّ وجود الإنسان من حيث المبدأ والتفاصيل، لأنها رحمة لا تقتصر على ساحة الدنيا، بل تمتدّ إلى ساحة الآخرة، ولا تؤمّن حاجات الإنسان المادية فقط، بل تتسع لحاجاته الروحية.. عندما ينفتح على الله، حيث يجد السعادة الروحية في انتظاره في مواقع رحمته التي وسعت كل شيءٍ {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} مما يتنافسون فيه ويتفاضلون، ويجعلون له حدوداً فاصلةً، وحواجز عازلةً، وقيماً زائفةً، لأن ذلك كله لا يمثل شيئاً في مواقع الثبات في المصير، بل يبقى مجرد حالةٍ طارئةٍ، وحاجةٍ محدودةٍ في متاع الحياة الدنيا، أمّا رحمة الله فهي الخير كله الذي لا ينفد ولا يتحدد في مدىً محدود.

وهذا ما ينبغي للإنسان المؤمن أن يعيشه في فكره وروحه وعمله وعلاقاته، فلا يكون طموحه الحصول على متاع الحياة الدنيا، والتنافس للوصول إلى مواقع متقدمةٍ في هذا النطاق، لأن ذلك يسيء إلى روحية الإيمان في وجدانه، وعمق شخصيته، عندما يفضّل الحاجات المادية على القيم الروحية، فإن الإيمان لا يستدعي الرفض المطلق للدنيا، فهو أمرٌ غير داخل في التخطيط الفكري والعملي الإسلامي، بل يستدعي أن لا يستغرق الإنسان في حاجات الدنيا بحيث تكون كل هدفه وكل همِّه، فيخلد إليها ويطمئن إلى قضاياها.. بل أن يكون طموحه الحصول على رضى الله ورحمته ونعيمه في الدار الآخرة، مع الالتفات إلى الدنيا كساحة مسؤولية أمام الله، لتكون الدنيا مزرعة الآخرة، كما جاء في بعض الأحاديث المأثورة.