تفسير القرآن
الزخرف / من الآية 36 إلى الآية 39

  من الآية 36 الى الآية 39
 

الآيــات

{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ* حَتَّى إِذَا جَاءَنا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ* وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} (36ـ39).

*  *  *

معاني المفردات

{يَعْشُ}: العشو: من كان ببصره آفة لا يبصر مطلقاً أو بالليل.

{نُقَيِّضْ}: نهيّىء.

* * *

تهيئة الشيطان قريناً للكافر

{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} ممن لا يملك البصر السليم الذي يستطيع بواسطته رؤية الأشياء في كل وقتٍ، ومن يبصر بالنهار دون الليل، أو من لا يبصر مطلقاً، على سبيل الكناية عمن لا يملك وضوح الرؤية القلبية لله في عظمته وفي حضوره الدائم في حياته كلها، فينساه وينسى ذكره في أعماله وأقواله وعلاقاته بسبب الغفلة المطبقة {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} أي نهيِّىء له شيطاناً يفتح نوافذ عقله على الباطل ليتحرك فكره في نطاق تأكيد الباطل فكرياً، ويغلق قلبه عن الحق لتبتعد كل مشاعره وأحاسيسه عنه شعورياً، ويبتعد بكل أقواله وأفعاله وعلاقاته عن النهج القويم في ما أمر الله به ونهى عنه في خط الاستقامة في الشريعة، ويقترب به إلى خط الانحراف في مناهج الكافرين والمنافقين والضالين {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} أي مصاحبٌ له داخل حياته وخارجها، يسيطر عليه في كل أوضاعه العامة والخاصة، بالوسوسة الداخلية، أو بالمشورة، أو بتزيين أعماله السيّئة ليراها حسنةً.

 وقد تحدث الله في كتابه عن شياطين الإنس والجن الذين يوسوسون للناس ويضلّونهم عن السبيل، ويحركونهم في اتجاهات الباطل من خلال تأثيراتهم النفسية والعملية، تبعاً للعلاقات التي تشدهم إليهم، فقد يكون الشيطان صديقاً أو رفيقاً أو أباً أو أخاً أو حاكماً أو نحو ذلك، وقد يكون عنصراً خفيّاً في الداخل بحيث يحرّك نوازع الإِنسان وغرائزه ونقاط الضعف في شخصيته.

 وليس المراد بأن الله يقيِّض لمن يغفل عن ذكره مثل هذا الشيطان، أن القضية تحصل بشكل مباشر، بل المراد أن الغفلة عن ذكر الله، تفتح الأبواب للشيطان ليدخل حياة الإنسان الذي لا يملك ـ نتيجة الغفلة ـ قدرة الإنضباط في خط التوازن والاستقامة، ما يجعله فريسةً سهلةً للشيطان {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} في ما يثيرونه في تفكيرهم من شبهات، أو عقائد باطلة، وفي ما يحركونه في حياتهم من مشاريع منحرفة، فيصوِّرون لهم أنها تمثل الحق الذي يرغب الإنسان ـ بطبيعته ـ في الارتباط به، فلا يبقى لديهم أيّ قلقٍ في الموضوع، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} لأن العناوين التي يضعونها للانحراف قد تكون من عناوين الهدى التي يلصقونها به زوراً وبهتاناً.

 وتلك هي مشكلة كثير من الساذجين الذين يزعمون أنهم واعون، عندما يقدم لهم الشياطين الباطل في صورة الحق، والانحراف باعتباره استقامةً، والشر بعنوان الخير، فيزينون لهم سوء عملهم فيرونه حسناً، ويضلّ سعيهم في الحياة الدنيا ويحسبون أنهم يُحسنون صنعاً، بسبب الغفلة المطبقة على عقولهم، بحيث لا يثيرون أية علامةٍ من علامات الاستفهام التي تفتح أبواب مناقشة الأمور بعقلٍ واع.

* * *

بئس قرين الغافلين

{حَتَّى إِذَا جَآءنَا} ووقف في موقف الحساب حيث يواجه الإنسان نتائج المسؤولية أمام الله، ووجد قرينه هناك، ورأى كيف قاده إلى هذا المصير المظلم الذي حمل إليه غضب الله، وأودى به إلى عذابه في نار جهنم، {قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} فهو لا يطيق رؤيته لأنه يذكِّره بنقاط الضعف الكامنة فيه والتي حركها هذا القرين ووجَّهها في اتجاه الكفر والضلال فأدّى به إلى هذا الموقف. ويمتلىء الضال حقداً وثورةً على قرينه، حتى يكاد يدمّره ـ لو كان له إلى ذلك سبيل ـ باعتباره الشخص الذي أضلَّه عن الذكر بعد إذ جاءه، ومنعه عن اتِّباع الرسول في ما يؤدِّي به عن الله {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} الذي لا يقود صاحبه إلى الخير والنجاة، بل يقوده إلى الشر والهلاك في النار.

* * *

لا نفع للحسرات اليوم

{وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ} أي يوم القيامة {إِذ ظَّلَمْتُمْ} أنفسكم بالكفر والضلال نتيجة استسلامكم لقرناء السوء واتِّباعكم لهم في أفكارهم وأوضاعهم الباطلة {أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} فأنتم وهم سواءٌ في العذاب، ما قد يشعركم بالرضى لأنهم يتحمّلون مسؤولية ضلالكم، فهم ليسوا بمنأى عن النتائج السلبية في الآخرة، كما كانوا في الدنيا يهربون من مسؤوليتكم عندما تقعون في المشاكل الصعبة ويتركونكم وحدكم لتحمّل آثارها السيّئة. ولكن ذلك لا يغيِّر من واقعكم الصعب شيئاً، لأن تحمَّلهم للعذاب معكم لن يرفعه عنكم، بل إنكم تشاركونهم فيه، لأنكم تتحمَّلون جزءاً كبيراً من مسؤولية الكفر والضلال الذي عشتموه لما منحكم الله من عقول تدفعكم إلى التفكير، ومن وحي أنزله على رسله فحملوه إليكم ليدلّوكم على الطريق.