تفسير القرآن
المائدة / المقدمة

 المقدمة
 

سورة المائدة

مدنية وآياتها مائة وعشرون آية

من وحي القرآن ج 8

سبب التسمية

سميت هذه السورة باسم «المائدة» من قبيل تسمية الكل باسم الجزء، حيث لم يرد ذكر «المائدة» إلاّ في آيتين، هما قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:112]. وقوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوَّلِنَا وآخِرِنَا وآيَةً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114]؛ وكان ذلك في سياق الحوار ـ الطلب ـ بين الحواريين والسيِّد المسيح(ع)، حيث طلبوا منه(ع) إنزال مائدة من السماء عليهم، تكون عيداً لأوّلهم وآخرهم، ليعيشوا من خلالها الشعور العميق برضى الله عنهم وتكريمه لهم، فاستجاب لهم المسيح، ودعا الله لينزل عليهم هذه المائدة، فوعده الله بذلك، والله لا يخلف وعده، إلاَّ أنَّه توعّد أصحابها بالعذاب السريع إذا ما انحرفوا وكفروا بعد أن جاءتهم البينة بإنزالها. وهنا اختلف المفسرون: فمنهم من قال بأنَّهم سحبوا طلبهم بعد هذا الوعيد، ومنهم من قال بأنَّهم أصرّوا عليه، ومن هنا نشأ خلاف المفسرين حول إنزال المائدة أو لا.

وقد جاءت تعليقات أهل الكتاب لتثير حول هذه القصة شكوكاً تتلخّص في أنَّ الإنجيل لم يتحدث عنها في قليل أو كثير، كما لم ينقلها أحدٌ في التاريخ النصراني، في الوقت الذي نجده يتعرض لكل كرامةٍ ـ مهما كانت صغيرة ـ لتلاميذ المسيح، فكيف بهذه الكرامة العظيمة التي جعلها القرآن الكريم مناسبة عظيمة، بحيث تعتبر أساساً لعيدٍ جديدٍ يعيشونه في مستقبل حياتهم كمظهر للفرحة بالنعمة الكبيرة... وسنتعرض لبعض هذه التساؤلات في نهاية هذه السورة.

* * *

أغراض هذه السورة

تهدف هذه السورة ـ كغيرها من السور ـ إلى تنمية الواقع الفكري والروحي والعملي للإنسان المسلم، سواء في نطاقه الفردي أو الاجتماعي، وذلك من خلال تصوّره للآفاق العقيدية الّتي يطوف فيها فكره، وتتحرك معها تصوراته عن الله والكون والحياة...، أو من خلال حركة المسؤولية في حياته في علاقاته بالنّاس والأشياء من حوله، بكل ما تشتمل عليه من التزامات ومواثيق يفرضها الله عليه أو يُلزم بها نفسه، أو من خلال الصراع الَّذي يخوضه المسلمون والآخرون من أهل الكتاب والمشركين، حيث يثيرون المشاكل والشبهات والتحديات والمواقف السلبية ضد الإسلام والمسلمين، مبيناً لهم كيف يجب عليهم أن يعيشوا هذه التحديات فكرياً وروحياً من خلال صفاء الفكر ووضوحه، وقوة الحجة وثباتها الّتي يضفيها الإسلام على معتنقيه، حيث يزوّدهم بصلابة الموقف، وحيوية الروح، وسماح الشعور.

وهكذا جاءت هذه السورة لتؤكد الخطوط الإسلامية التشريعية العامة لقواعد التعامل بين النّاس مع بعضهم البعض ومع الله، إضافة إلى التشريعات الخاصة التي تثير قضايا الناس في ما يأكلونه ويعيشونه ويمارسونه من علاقات إنسانية خاصة، ولم تترك أمر العبادة غامضاً مطلقاً، بل عملت على التخطيط لبعض الملامح التشريعية لأعمال الطهارة والصلاة... وتحركت ـ عبر خطوات العقيدة في الفكر والحياة ـ لتناقش أهل الكتاب وغيرهم في كل القضايا التي كانت محلاً للنزاع والخلاف والتساؤل، ولتناديهم والمؤمنين كي يستقيموا في خط التصور والعمل، فتعنف معهم تارة وتلين أخرى، لأنَّ القضية تتعلق بالجانب العميق من قاعدة الحياة، لا بالقضايا الطارئة البسيطة التي تفرض نوعاً من المجاملة في الأسلوب.

وأطلقت ـ بعد ذلك ـ للمؤمنين النداءات التي تحدّد لهم خط الاستقامة في العقيدة والتشريع، لتربطهم بحكم الله كأساس للإيمان والعدل والاعتدال، ولتوحي إليهم بأنَّ الله قد أكمل لهم الدين، فلا مجال بعد ذلك لزيادة أو نقصان، لأنَّ الدين هو الحقيقة، وهو الكلمة الإلهية الفاصلة، وهو المنهج المعصوم الذي {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَـطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، فليس هناك فراغٌ ليملأه الآخرون، وليس هناك خطأ ليصححه المتفلسفون، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32].

وهكذا نجد في هذه السورة النموذج الإسلامي الحي للخطوط العامة التي يراد من خلالها بناء الفرد والمجتمع والحياة الإسلامية على الأسس الفكرية والمفاهيمية والعقيدية والتشريعية للإسلام، لنلتقي في حركة الحياة بالإنسان الذي يؤمن بالله من خلال الفكر والعقل، ويتحرك في حياته من خلال الوحي، وينطلق في شجاعة الموقف الفكري والعملي، ليدعو الناس إلى الحوار، ويتحدى الأفكار كلها بالحجة والبرهان، ويحمل مسؤولية الكون والحياة على أساس الإسلام الكامل الشامل، الذي يخطط لكل حركة، ويحتوي كل مشكلة، ويفسح المجال أمامه لكل إبداع.
    
كتب متعلقة بالحج
كتاب صحيح الدعوات
شرح أدعية الصحيفة السجادية
شرح دعاء كميل