تفسير القرآن
المائدة / الآية 1

 سورة المائدة الآية 1

الآيــــة

{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}(1).

* * *

معاني المفردات

{بِالْعُقُودِ}: جمع عقد بمعنى معقود وهو أوكد العهود، والفرق بين العقد والعهد، أنَّ العقد فيه معنى الاستيثاق والشدّ، ولا يكون إلا بين متعاقدَيْنِ. والعهد قد ينفرد به الواحد، فكل عهد عقد، ولا يكون كل عقد عهداً، وأصله عقد الشيء بغيره: أي وصله به كما يعقد الحبل.

والمراد بالعقد ـ هنا ـ كل التزام جرى بين بالغَيْنِ عاقلَينِ عن طيب نفس على أيّ شيء كان، شرط أن لا يحرّم حلالاً أو يحلل حراماً.

{بَهِيمَةُ}: البهيمة ـ في اللغة ـ الحيوان الذي لا نطق له لما في صوته من الإبهام، ولكن العرب لا يطلقون هذا اللفظ على الطير، والبهيمة اسم لكلّ ذي أربع من دواب البر والبحر.

{الاَْنْعَامِ}: الإبل والبقر والغنم.

{حُرُمٌ}: جمع حرام، أي متلبسين بالإحرام للحج أو العمرة.

* * *

مدخل عام.. دعوة المؤمنين إلى الوفاء بالعقود

جاء في تفسير الميزان: «لم يختلف أهل النقل أنَّها آخر سورة مفصلة نزلت على رسول الله(ص) في أواخر أيام حياته، وقد ورد في روايات الفريقين أنَّها ناسخة غير منسوخة»[1]. وقال جعفر بن مبشر والشعبي: هي مدنية كلها إلاَّ قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، فإنَّه نزل والنبي واقف على راحلته في حجة الوداع.

وتبدأ هذه السورة بتوجيه النداء إلى المؤمنين خاصة، لأنَّها تشتمل على الكثير من التشريعات التي تتوقف على صفة الإيمان التي تستلزم موقفاً يتجاوز دائرة الالتزام الفكري المجرد، إلى دائرة العمل والممارسة والحركة.

وجاء النداء الأول أمراً بالوفاء بالعقود {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، إذ لا بُدَّ للمؤمن من تحمّل مسؤولية التزاماته التعاقدية والتعاهدية، التي لا يجوز له نقضها ولا الانحراف عنها، لأنَّ المؤمن يرتكز في حياته الذاتية والاجتماعية على قاعدة ثابتة من العهود والمواثيق التي عاهد عليها الله من خلال ما ألزم به نفسه من السير على خط الإيمان، وما يفرضه من احترام التعامل والتعاون مع الآخرين، ما يجعل التزامه للآخرين امتداداً لالتزامه الإيماني أمام الله. وهذا ما يؤدي إلى أن يكون الوفاء به طاعةً لله، بينما يكون الانحراف عنه معصيةً له، وذلك ما يجعل للمجتمع الإسلامي ميزته في تأكيد الثقة والاحترام والثبات والكلمة القوية التي تتحول إلى قانون يلزم صاحبها من موقع الطاعة لله، بعيداً عن كل قضايا الخوف والرجاء على مستوى الواقع المادي في حياة الناس.

وفي ضوء ذلك، يمكن أن يدخل هذا الالتزام في تكوين الشخصية الإسلامية، ليكون الالتزام بالكلمة والعهد هو المدلول الداخلي للإنسان المسلم، ما يجعل الآخرين الّذين يعيشون معه، في أمنٍ وثقةٍ على مصالحهم وقضاياهم وعلاقاتهم.

وقد جاء عن النبي(ص) قوله: «لا دين لمن لا عهد له»[2].

وفي نهج البلاغة عن الإمام علي(ع): «فإنَّه ليس من فرائض الله شيءٌ الناسُ أشدُّ عليه اجتماعاً، مع تفرُّق أهوائهم وتشتُّت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لَزِمَ ذلك المشركون فيما بينهم ـ دون المسلمين ـ لما استَوبَلُوا[3] من عَوَاقِبِ الغَدْرِ»[4].

وروي عنه(ع) أنَّه قال: «إنَّ الله تبارك وتعالى لا يقبل إلاَّ العمل الصالح، ولا يقبل الله إلاَّ الوفاء بالشروط والعهود»[5].

وفي الرِّواية عن الإمام جعفر الصادق(ع) «ثلاث لم يجعل الله عزَّ وجلَّ لأحد فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برّين كانا أو فاجرين»[6].

وهذا من شأنه أن يركز العلاقات التعاقدية والتعاهديّة بين الناس على قاعدة العدل الاجتماعي، بدلاً من معادلة موازين القوّة والضعف، بحيث يلتزم الإنسان بعقده وعهده إذا كان ضعيفاً لا يملك التمرد على الطرف الآخر من العقد والعهد، ولا يلتزم إذا كان يملك قوّة المركز الاجتماعي والموقع السياسي والسلطة المالية. فالله سبحانه وتعالى يريد إخضاع مسألة العقود للإيمان والتقوى امتثالاً لأمره بالوفاء، كما في هذه الآية، وبذلك يصبح العقد لا يقوم بطرفين فحسب هما العاقد والمعقود له، بل بثلاثة أطراف هما العاقد والمعقود له والله سبحانه وتعالى، باعتباره الطرف الممتثل لأمره من جهة، والمتحضر كشاهدٍ ورقيب من جهة أخرى، ما يقوي أمر الوفاء، لأنَّ المسؤوليّة مزدوجة: فمن جهة أمام المعقود له، ومن جهة ثانية أمام الله تعالى. وما يصح في العقود، يصح أيضاً مع العهود لجهة حفظها ومراعاتها، كما في قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34]. وقد بلغ من درجة حضّ الله تعالى على حفظ العهود أنَّه استثنى المعاهدين من المشركين من إعلان الحرب عليهم ما داموا ملتزمين بعهدهم، كما في قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَـاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَـاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4]. وذلك بالرغم من أنَّ المسلمين كانوا ـ في ذلك الوقت ـ في موقع القوّة، بينما كان المشركون في موقع الضعف. من هنا يظهر لنا أنَّه لا فرق بين المؤمن والكافر في الوفاء بالعهد، كما لا فرق في الوفاء بالعقد وضرورة الالتزام به في الخط الأخلاقي الإسلامي الإلزامي، بين بقاء المصلحة الشخصية المترتبة على التعاقد أو زوالها، بل أكثر من ذلك، حتى لو ترتب على التعاقد ضررٌ شخصيٌ بفعل التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فلا يجوز نقض العهد، الأمر الذي يؤكد حرص الإسلام على قواعد الاستقرار الاجتماعي للنّاس كافة، واعتبارها من الأولويات الكبيرة في توجهاته الميدانيّة العامة.

هذا في الإطار العام، أمَّا على صعيد الجانب التفسيري التطبيقي، فقد ذكر صاحب مجمع البيان أربعة أقوال:

«أحدها: أنَّ المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضاً فيها على النصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمهم أو بغاهم سوءاً، وذلك هو معنى الحلف»[7]. وبذلك تكون الآية واردة لتحديد واقع عملي محدود في حياة الناس الَّذين دخلوا الإسلام، وكانوا قد ارتبطوا بعهود أمنية مع الفئات الأخرى من قبائل وعوائل... وربّما خيّل إليهم أن انفصالهم عن العقيدة الجاهلية يبرر لهم نقض تلك العهود، فأراد الله أن يبيّن لهم أنَّ الإسلام يؤكد الالتزام بالعقود حتّى للكافرين، ما دامت سائرة على النهج الَّذي لا يبتعد عن حدود الله.

«وثانيها: أنَّها العهود الّتي أخذ الله، سبحانه، على عباده بالإيمان به وطاعته في ما أحلّ لهم أو حرّم عليهم»[8]. ويؤيدون هذا القول، بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} إلى قوله: {سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]. وعلى ضوء هذا القول تكون الآية دعوةً تأكيدية للالتزام بخط الإيمان في علاقة الإنسان بالحياة، وبالمفاهيم التشريعية في شؤونه العملية، سواء تلك المتعلّقة بنفسه أو تلك المتعلّقة بالآخرين.

«وثالثها: أنَّ المراد بها العقود الّتي يتعاقدها النّاس بينهم ويعقدها المرء على نفسه، كعقد الإيمان وعقد النكاح وعقد العهد وعقد البيع وعقد الحلف»[9]، فتكون الآية واردةً للأمر بالوفاء بالالتزامات العقدية، في العلاقات والمعاملات الحياتية فيما بين النّاس.

«ورابعها: أنَّ ذلك أمرٌ من الله لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق نبيّنا(ص) وما جاء به من عند الله»[10]. وبذلك يكون المراد بالَّذين آمنوا أهل الكتاب في مقابل المشركين والملحدين، وهذا بعيدٌ عن المصطلح القرآني.

وما نلاحظه على هذه الأقوال، أنَّها عبارة عن اجتهاد ذاتيٍّ في استنطاق الآيات الّتي جاء فيها حضٌ على عدم نقض العهود، بما جعلهم يفسرون الآية موضوع الحديث بالخصوصيات الموجودة في تلك الآيات.

وهذا التخصيص لعموم الآية الشامل لجميع العقود، لا وجه له بمقتضى دلالة الجمع المعرف باللام على ذلك.

لذا قد تكون واردةً على سبيل القاعدة العامة الّتي تشمل كل عقد، ويبقى ـ بعد ذلك ـ التدقيق في المراد من لفظ العقد، هل يشمل العهود الّتي يلزم بها الإنسان نفسه كما في الأيمان والنذور والعهود الذاتية، أو الإيمان الّذي يمثل عهداً يعاهد به الإنسان ربه على العبودية والطاعة، أو يختص بالعهد القائم بين اثنين في ما يعبر عنه بالتعاقد؟ قد نستوحي من التفسير اللغوي للكلمة بأنَّ العقد هو العهد المؤكّد، إذ إنَّ خصوصيّة التبادل في العهد القائم على المقابلة في الالتزام، والربط بين الالتزامين الّذي يتمثل في التعاقد المتعارف، لا يمثّل إلاَّ نموذجاً من نماذج التأكيد والاستيثاق.

لذا لا مانع من أن يكون لدينا نموذج آخر لا يقل عنه في التأكيد والتشديد، بل ربّما يزيد عليه من خلال إحساس الإنسان بنتائجه السلبيّة والإيجابيّة، وهو الالتزام الإيماني الَّذي يواجه به ربه، ليمتد في جميع جوانب حياته من خلال امتداده في فكره وشعوره وعمله، أو العهد الذاتي الَّذي يعاهد به الله في قضية فرعية عامة أو خاصة في ما يمثله اليمين والنذر والعهد، وبذلك تكون الكلمة شاملة لذلك بمدلولها اللفظي. وقد يثير البعض ـ في هذا المجال ـ مسألة اتخاذ الكلمة مدلولاً خاصاً يتمثل بالتعاقد المتعارف بين اثنين، وابتعادها عن المعنى اللغوي الشامل في المفهوم العرفي، فلا يمكن الانطلاق منها في المعنى الشامل الَّذي يشمل كل الموارد المذكورة، ولكننا لا نجد كبير فائدة في تحقيق ذلك، لأنّ الأمر بالوفاء بالعهد في غير موارد التعاقد، قد جاءت به الآيات الكثيرة الّتي يمكن الاعتماد عليها في هذا الحكم، فلا حاجة بنا إلى استفادته من هذه الآية، وقد نستطيع استفادته بطريقة الاستيحاء بالفحوى، لأنَّ الله إذا اعتبر العهد الَّذي يلزم به الإنسان نفسه في مقابل شخصٍ عهداً مؤكداً يستلزم الوفاء، فلا مندوحة من أن العهد الذي يلزم به الإنسان نفسه اتجاه ربه يصبح أكثر تأكيداً من خلال نوعية المسؤولية المترتبة على ذلك، وقد يمكن لنا ـ من ناحية أخرى ـ اعتبار الإيمان بلحاظ التزاماته العامة والخاصة، أمراً تعاقدياً بين العبد وربه، في ما توحيه الآية الكريمة الّتي خاطب الله بها بني إسرائيل بقوله: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40]، بأنَّ هناك عقداً بين الله والإنسان يتقابل فيه الإيمان بنتائجه، وبذلك يدخل الالتزام الإيماني في مدلول الكلمة، بطريقة أو بأخرى.

* * *

حرية التعاقد في الإسلام

وهناك نقطة أخرى في هذه الآية أثارها الفقهاء، وهي قضية حرية التعاقد في الشريعة الإسلامية. فهل للإسلام عقودٌ محدّدة، وأساليب خاصة للتعامل، ولا يجوز، بالتالي، العدول عنها إلى غيرها، كما لا يجوز استحداث أشياء جديدة بعيداً عنها، أم أنَّ الإسلام أعطى الإنسان حرية التحرك مع ما ينسجم وحاجاته المتطورة، بحيث يجوز له استحداث أساليب تعامل جديدة، سواء في ما يتعلق بخصوصيات المعاملات في ذاتها، أو في أسلوب ممارستها؟

ذهب بعضهم إلى الرأي الأول انطلاقاً من أنَّ هذه الآية واردة في معرض الإمضاء للعقود المتعارفة في العهد الأول للإسلام، فلا بُدَّ للعقود المستحدثة من تشريع جديد، تماماً كما هو الرأي في اعتبارها واردة للحديث عن عهود أهل الجاهلية، إذ كلا الرأيين ينطلقان من نظرة الآية إلى الواقع، لا إلى المبدأ.

وذهب بعضهم إلى الرأي الثاني انطلاقاً من أنَّ العموم في الآية يدل على شمولها لكل عقد، سواء كان من العقود المتعارفة لدى النّاس في العصور السابقة، أو من العقود المستحدثة في المعاملات الحاضرة، أو كان من العقود الّتي يحتاج النّاس إلى استحداثها في المستقبل.

وليس هناك أيُّ وجهٍ لتخصيص ذلك بما ذكر، لأنَّ الجانب الإمضائي الَّذي يتحدّث عنه الرأي الأوّل، لا يملك دليلاً مخصصاً، بل قد يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، فيرى أنَّ الله ترك للنّاس أمر التعامل، فلم يشرع لهم فيه شريعةً خاصة من حيث الشكل والمضمون، بل كل ما هناك أنَّه وضع قواعد عامّة للأسس الّتي ينبغي لهم أن يسيروا عليها في ممارستهم أو استحداثهم، فمن أخذ بهذه القواعد، كان له أن يمارس حريته في التعامل كيف شاء وبالطريقة الّتي تناسبه، ونحن نميل إلى هذا الرأي. وبذلك نجد أنّ ما يستحدثه النّاس من عقود جديدة اقتضتها التطورات الحياتية للعلاقات والحاجات الاقتصادية، لا يحتاج في شرعيته إلى نصوصٍ خاصة، أو إلى إدخاله تحت عناوين شرعيةٍ مما كان متعارفاً من أساليب التعامل السابقة، فإنَّ الآية كافية في إثبات ذلك. وعلى ضوء هذا، يمكن لنا أن نقرر أن حرية التعاقد في الشريعة الإسلامية مقيدة بالمبادىء العامة للإسلام الراسمة لحدود الحلال والحرام، في تشريعه وتطبيقه. والله العالم.

* * *

أحلت لكم بهيمة الأنعام

هل لهذه الفقرة علاقةٌ بالفقرة السابقة؟ يذكر بعض المفسرين وجود علاقة بينهما، وذلك من خلال اعتبار الحكم بتحليل بهيمة الأنعام في حدوده المشروعة، من نتائج الإيمان الَّذي هو أحد مظاهر التعاقد الَّذي يجب الوفاء به. وبذلك يكون الأمر بالوفاء بالعقود أمراً بالالتزام بهذه الأحكام الشرعية. ونحن لا نريد أن ندخل في تفاصيل الحديث في إثبات ذلك أو نفيه، بل نسجّل ملاحظة على هذا الاتجاه في الربط بين الآيات أو فقراتها بشكل دقيق، فقد يبدو لنا أنَّ الآيات لم تنزل لتعالج موضوعاً واحداً على طريقة الأبحاث العلمية الّتي تخضع البحث لموضوع واحد تلتزم بإرجاع كل عناصره إليه، بل إنَّها نزلت لتثير أمام الإنسان جوانب متعددة يتعلق بعضها بتصوراته وقناعاته الفكرية، وبعضها الآخر بأفعاله وعلاقاته ومعاملاته، منطلقاً من العام إلى الخاص في الحديث، وقد يتحدّث عن الخاص ثُمَّ يعقبه بالعام، وقد لا يكون هناك رابط موضوعي بين الحديثين إلاَّ في ما يتصل ببناء الجوانب الإنسانية على الصورة الّتي يريدها الله للإنسان.

ومن هنا كان الفرق بين البحث العلمي والحديث القرآني، فالأول يعالج موضوعاً محدداً ليصل إلى النتيجة المطلوبة، بينما يعالج الثاني الإنسان في مفاهيمه وأعماله ليصل به إلى درجة التكامل الفكري والعملي، وبذلك فإنَّ الوحدة هناك هي وحدة الموضوع، بينما تمثل الوحدة هنا وحدة قضية الإنسان. إنَّها ملاحظةٌ نضعها في متناول التفكير لنتخلص من تكلف بعض المفسرين في ربط الآيات ضمن السورة الواحدة حتى لو لم يكن هناك من مبرر ظاهريٍّ لإيجاد مثل هذا الترابط، وذلك انطلاقاً من فكرة لزوم أن يكون هناك ترابط فيها، كما هو الحال في النصوص العلميّة، الّتي يبدو الترابط المنهجي والمنطقي بين فقراتها وجملها ضرورياً، وإلاَّ لوقع في التناقض، ولم ينته إلى النتائج الصحيحة أو المفروضة، كما لو كان القرآن كتاباً منزّلاً بشكل كامل، بينما نعرف من الوحي أنَّ القرآن أنزل بشكلٍ متقطعٍ ومتفرق تبعاً للحاجات الإنسانية الإسلامية لذلك، ثُمَّ جَمع بإشراف الرسول(ص) وتوجيهه من خلال المناسبات الّتي تجمع الآيات. والله العالم.

* * *

المراد من بهيمة الأنعام

وقد وقع خلاف في تفسير {بَهِيمَةُ الاَْنْعَامِ}، فقال بعضٌ إنَّ المراد بها الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، وذكرت كلمة البهيمة للتأكيد، كما يُقال: نفس الإنسان، وقال بعض آخر بأنَّها أجنة الأنعام الّتي توجد في بطون أمهاتها إذا أشعرت وقد ذكيت الأمهات وهي ميتة، فذكاتها ذكاة أمهاتها، وذهب بعض ثالث إلى أنَّ المراد بها الوحشي من الأنعام، كالظباء وبقر الوحش ونحوها. ولكننا نجد الآية عامةً غير مخصصة، حيث تشمل كلمة البهيمة كل ذي أربع من دواب البر والبحر. وقد تكون التخصيصات الواردة في كلمات الأئمة، كما في القول الثاني المروي عن الإمامين الباقر والصادق(ع)، واردةً في مقام التطبيق لا التفسير، وذلك لأسلوبهم الخاص في توجيه النّاس إلى الأخذ بالقرآن والرجوع إليه في ما يُشكل عليهم أمره من قضايا الحياة.

{إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} ممّا حُرِّم عليكم من الحيوانات، {غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُم} تبدو هذه الجملة حالاً من قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ}. فكأنَّ الله سبحانه وتعالى بعد أن أطلق للمؤمنين الحرية في اصطياد هذه الأنعام في جميع الحالات، أراد استثناء حالة الإحرام للعمرة أو الحج الّتي يحرم الصيد فيها، لأنَّه من تروكه الملزمة، {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} فله أن يشرّع بما يشاء ويحكم بما يريد، وعلى العباد الخضوع له والطاعة.

ـــــــــــ

(1) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت، ط:1،1411هـ ـ 1991م، ج:5، ص:160.

(2) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط:1، 1411هـ ـ 1992م، م:25، ج:69.

(3) استوبلوا: ما نالهم من الوبال.

(4) الإمام عليّ بن أبي طالب، نهج البلاغة، ضبط نصّه د. صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني، ط:2، 1982، رسالة:53، ص:442.

(5) البحار، م:23، ج:64، ص:120، باب:11، رواية:1.

(6) م.س.، ج:71، ص:39، باب:2، رواية:15.

(7) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط:1، 1991م، ج:3، ص:190.

(8) م.ن.، ج:3، ص:190.

(9) م.س.، ج:3، ص:190.

(10)م.س.، ج:3، ص:190.