تفسير القرآن
المائدة / الآية 14

 الآية 14

الآيـــة

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(14).

* * *

معاني المفردات

{نَصَارَى}: جمع نصراني، وقد اختلف الرأي في تفسيرها، فقال بعض: إنَّ المسيح تربّى في طفولته ببلدة الناصرة، وقال آخر: إنَّ الكلمة نسبة إلى «نصران» وهي قرية يوليها المسيحيون احتراماً خاصاً، والمقصود بهم: الذين ينتمون إلى دين عيسى(ع).

{فَأَغْرَيْنَا}: الإغراء: تسليط بعضهم على بعض، وقيل معناه: التحريش، وأصله اللصوق، ويُقال: غريت بالرّجل غرياً إذا لصقت به عن الأصمعي... ومنه الغِراء الَّذي تلصق به الأشياء[1].

* * *

النصارى يتنكرون للميثاق

لا شيء جديد في فكرة الميثاق الّتي تتحدث عنها الآية بخصوص النصارى غير ما ذكره الله في ميثاق بني إسرائيل، ولذا لم يتحدث عنه في هذه الآية.فقد جاءتهم الآيات الّتي تذكرهم بالله، وتقودهم إلى السير على الخط المستقيم، حيث اللقاء الروحي يسمو بالإنسان إلى الوحدة المنطلقة من توحيد الله ذاتاً وشريعةً ومقصداً، وبالتالي مصيراً، ولكنَّهم نسوا ذلك كله، وانحرفوا عن الخط واتبعوا أهواءهم، فانطلق كل واحد منهم إلى جهة، وتنافسوا على حطام الدنيا، ما سعّر نار العداوة والبغضاء الّتي تستمر إلى يوم القيامة، بفعل استمرار الدوافع والنوازع والمطامع الّتي تفرق بينهم، والّتي تثير الرواسب الكامنة في صدورهم، لأنَّ الشعلة الإلهية المقدسة إذا انطفأت في نفس الإنسان وروحه، أفسحت المجال لأفكار الظلام والشرّ والحقد بالسيطرة على كيانه وحياته، فيتحول إلى وحشٍ مفترسٍ يعيش الجوع والعطش للدماء وللّحوم الإنسانيّة الحيّة، فيقوده ذلك إلى تلمّس كل الإمكانات والمواقع الّتي تثير الحقد والخصومة والنزاع.

وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى النصارى في تاريخهم الطويل، في صراعاتهم المذهبية، ويستمر ذلك في تاريخهم الحاضر والمستقبل في صراعاتهم السياسية. أمَّا نسبة الإغراء بالعداوة والبغضاء إلى الله، فهو جار على ما ذكرناه أكثر من مرة، على هدي الأسلوب القرآني الَّذي ينسب كل شيء إلى الله، لأنَّه مسبّب الأسباب، ومصدر كل شيء، لا على أساس المباشرة، كما قد يتبادر إلى الفهم البسيط، وهكذا ينطلق القرآن في ختام الآية، ليثير أمامهم الإحساس بالمسؤوليّة في كل ذلك التاريخ الَّذي يبدأ من نقطة الانحراف، وينتهي بالعداوة والبغضاء ليقفوا أمام الله يوم القيامة، ليستقبلوا أمامه نتائج أعمالهم السيئة في العقيدة والعمل.

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى}: معلنين انتماءهم إلى النصرانيّة الّتي هي اسم الدين الَّذي جاء به المسيح عيسى بن مريم(ع)، وربَّما كانت كلمة {قَالُواْ} إيحاءً بأنَّهم لا يمثلون النصرانيّة بل ينتسبون إليها قولاً لا فعلاً، {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} بالالتزام بالتوحيد، وبالإقرار بنبوّة عيسى والأنبياء من قبله ومن بعده، ومنهم محمَّد(ص)، والسير على منهاجهم في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم. وهذا هو الميثاق الَّذي توحي به الفطرة، وجاءت به الرسل في رسالات الله الّتي بلّغوها لهم فالتزموها بالانتماء إلى صاحب الرسالة، ما يدل على تحوّل المسألة إلى عهدٍ وميثاقٍ بينهم وبين الله، لأنَّ الالتزام بالانتماء يُمثِّل التزاماً بكل نتائجه وآثاره، {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} مما أنزله الله من الإنجيل الَّذي يحدّد لهم خط السير، ويعرفهم كيف ينفتحون على الله من موقع الإيمان والمحبة، ويوحدونه فلا يجعلون له ولداً ولا يشركون بعبادته غيره، وكيف ينفتحون على حركة المسؤوليّة في علاقتهم بالنّاس وبالحياة، ليكون الإنجيل منهجهم الَّذي ينتهجونه في حياتهم العامّة والخاصة، وكيف يواجهون الرسالات من بعد عيسى(ع) ـ ولا سيما رسالة محمَّد(ص) الَّذي بشر به السيِّد المسيح(ع) ـ ليؤمنوا به، ويسيروا معه في منهج رسالته الّتي جاءت متممة لمكارم الأخلاق ممّا جاءت بها الرسالات السابقة، ولكنَّهم نسوا ذلك، وتعاملوا مع هذه الحقائق المذكورة في الإنجيل من موقع الإهمال والّلامبالاة، والابتعاد عن مضمون الإيمان في وعي الحقيقة، ورفض الالتزام به وبنتائجه، ولم تكن المسألة منهم نسياناً، فقد ذكرهم الله به بما سمعوه من الإنجيل الَّذي يُتلى عليهم دائماً من خلال الانتماء التقليدي إليه.

* * *

الآية وتحريف الإنجيل

وربَّما يستوحي البعض من هذه الآية مسألة تحريف الإنجيل، بحيث يكون النسيان كنايةً عن التحريف الَّذي ينطلق من العصبيَّة ضد الفكر الآخر، ما يؤدّي إلى تأويل الآيات النازلة الّتي تؤكده، أو حذفها أو تحريفها حذراً من الاحتجاج بها عليهم، وذلك من جهة أنَّ تاريخ تدوين الأناجيل المعروفة الآن يوحي بأنَّها لم تدوّن في زمن السيِّد المسيح(ع)، بل كتبت بعده بمدة بعيدة بأيدي بعض المسيحيين، ولهذا اختلف رؤساء الكنيسة فيما بينهم فيمن كتب الإنجيل، ومتى كتبت، وبأيّة لغةٍ، وكيف فُقدت نسخها الأصلية، وغير ذلك مما نقله صاحب تفسير المنار عن «دائرة المعارف الفرنسيّة الكبرى»، مع الملاحظات الّتي يسجلها الناقدون للأناجيل المعروفة في اشتماله على ما لا يستسيغه العقل وغير ذلك.

ونلاحظ أنَّ الآية ليست ظاهرةً في ذلك ـ وإن كان ذلك حقيقة ـ لأنَّها واردةٌ في مقام الحديث عن الواقع المضادّ للالتزام بآيات الإنجيل من خلال إنكار بعض الحقائق والانحراف عن خط الاستقامة في الدين.

* * *

فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء

{فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وذلك من خلال المنازعات العقيديّة الّتي تحوّلت ـ في التاريخ ـ إلى أنهار من الدماء من خلال الحروب المذهبيّة، الّتي كانت أشدّ قساوة من حروبهم مع غيرهم من أتباع الأديان الأخرى، والمنازعات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تحولت إلى أكثر من لونٍ من ألوان الأوضاع المعقدة والآثار السلبيّة على مجمع علاقاتهم مع بعضهم البعض، بحيث لم تعد النصرانيّة موقع وحدة، بل تحركت لتكون موقع خلاف يوحي بالتعقيدات النفسيّة والشعوريّة والثقافيّة الّتي تثير العداوة والبغضاء، لتمتد بهم امتداد الزمان إلى يوم القيامة، لأنَّ المذاهب المختلفة قد تحولت إلى ما يشبه الأديان المتنوّعة، ولأنَّ الحواجز القوميّة والعرقيّة والإقليميّة والسياسيّة والاقتصاديّة قد أصبحت حواجز واقعيّة في كل القضايا والأوضاع.

ولعلّ مثل هذه المؤثرات الداخلية، في واقع النظرة إلى الدين، لا تقتصر على النصارى وحدهم، بل تشمل كل الَّذين يحوّلون الانتماء الديني إلى حالةٍ ذاتيّة تتغذى بالأنانيّة الفرديّة أو العرقيّة أو القوميّة أو المصلحيّة، ما يمثل نسياناً لما ذكّروا به من الوحي الإلهي والالتزام الديني، بحيث يتحركون في علاقاتهم ببعضهم البعض كما لو لم يكونوا أهل دينٍ واحدٍ، ولعلّ هذا ما يتمثَّل في واقع المسلمين اليوم الَّذين التصقت بهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، لأنَّ المذهبيّة الطائفيّة تحولت إلى حالةٍ متحجرةٍ في الواقع لا يفكر أيّ فريقٍ في داخلها بالتحوّل عنها إلى الجانب الآخر.

إن القضيّة ليست متّصلةً بعقاب إلهيٍّ منفصلٍ عن حركة الواقع في عناصره، بل هي متصلةٌ بالذهنيّة الّتي تحكم السلوك، والمنهج الَّذي يحدد العلاقات، والمفردات الّتي تترك تأثيراتها على الفكر والعمل، فلا تعود العقيدة ـ في حيويتها وحركيتها وصفائها ونقائها وعناصرها الوحدوية ـ هي الّتي تحكم الواقع الإنساني في الانتماء الديني، بل الذات في كل ذاتياتها وتعقيداتها. {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} من كل ما قالوه وما فعلوه، مما انحرفوا به عن التزامات الميثاق، وابتعدوا عنه من خط الاستقامة في الدين.

ـــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:3، ص:218.