من الآية 15 الى الآية 16
الآيتــان
{يَـأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(15ـ16).
* * *
معاني المفردات
{رِضْوَانَهُ}: جاء في مجمع البيان: «الرضوان والرضى من الله ضد السخط، وهو إرادة الثواب بمستحقه. وقال قوم: هو المدح على الطاعة والثناء. وقال علي بن عيسى: هو جنس من الفعل يقتضي وقوع الطاعة الخالصة مما يبطلها، ويضادّ الغضب، قال: لأنَّ الرّضى بما مضى يصح، وإرادة ما مضى لا يصح، إذ قد يصح أن يرضى بما كان ولا يصحّ أن يريد ما كان، وهذا الذي ذكره غيره صحيح، لأنَّ الرضى عبارةٌ عن إرادة حدوث الشيء من الغير، غير أنَّها لا تسمى بذلك إلاَّ إذا وقع مرادها ولم يتخللها كراهية، فتقف تسميتها بالرضى على وقوع المراد، إلاَّ أنَّ بعد وقوع المراد بفعل إرادة يسمى رضاءً بما كان فسقط ما قاله»[1].
* * *
القرآن يهدي إلى سبل السلام
وهذا نداء إلى أهل الكتاب مُشْبَعٌ بعتابٍ هادىءٍ يسجّل الملاحظات بهدوء، ويتحدث عن أسلوب الرسول(ص) في نقد الانحراف ومواجهته. فاليهود كانوا يعملون على إخفاء بعض الحقائق الكتابيّة الّتي تنزلت بها التوراة والإنجيل، ولا سيما في ما يتعلّق بنبوّة النبي محمَّد(ص)، والنبي(ص) كان ينبّه المسلمين إلى ذلك، ويبيّن لهم معرفته بخطوط اللعبة التحريفيّة والتجهيليّة عند بعض أهل الكتاب، من خلال إعلان وفضح الوسائل الخبيثة الّتي يلجأون إليها في التضليل من أجل أن يكشف أمرهم للناس، ثُمَّ يعرض عنهم بعد ذلك، ويعفو عن كثيرٍ من التفصيلات الدقيقة في شؤون العقيدة والتشريع مما انحرفوا به عن الخط السليم، لأنَّه لا يريد الدخول معهم في جدلٍ عقيم، وهو ألاّ يعمل على الإكثار من تسجيل النقاط عليهم كما يفعل اللاعبون الَّذين لا غاية لهم إلاَّ تحصيل النقاط المتعددة ضد الخصم، بل كان همُّه ـ كنبيّ مرسل ـ أن يُفقدهم ـ بالتالي ـ الثقة الاجتماعيّة الّتي كانوا يستغلّونها من أجل الحصول على مكاسب ماديّةٍ طارئة، ويترك الأمر ـ بعد ذلك ـ للظروف المحيطة بالساحة لتتفاعل القضايا معه في عمليّة كشفٍ وفضحٍ لكل المخططات والأهداف الشريرة.
ثُمَّ يضع أمامهم الحقيقة الناصعة المشرقة، المتمثِّلة بالكتاب الَّذي ينير لهم حياتهم من خلال مفاهيمه وتشريعاته، وما يوحي به من وضوح الرؤية للوسائل والأهداف، وبه يهدي الله من اتبع رضوانه سُبُل السلام في الروح والفكر والشعور والموقف.. فالإنسان إذا انفتح على الله انفتحت له مجالاتٌ واسعةٌ من المعاني الروحيّة الفيّاضة، وانطلقت معه الآفاق الرحبة الّتي يعيش معها الإحساس بالطاعة لله، من موقع الشعور بعبوديته المطلقة له، فيملأ نفسه بالرضى والطمأنينة بقدر الله وقضائه بعيداً عن أيِّ قلق أو تردد أو اعتراض، فيعيش السلام مع خالقه، ويمتد في حياته ليشمل كل مسؤولياته تجاه نفسه وعائلته والنّاس من حوله، وذلك عندما يتحرك إيمانه في آفاق رضى الله. وهذا ما عبّرت عنه الكلمة المأثورة عن النبي(ص): «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه»[2]. وهكذا يتملّكه الشعور بمسؤوليته عن الحياة كلها من خلال خلافته عن الله في الأرض، حتَّى الحرب تتحول ـ في مفهومها الحقيقي ـ إلى عملية صنع للسلام من أجل القضاء على أعداء السلام وتجار الحرب، وتنطلق الهداية الّتي يفيض بها الكتاب في إشراقة النّور من آياته، إلى دفقات نور طاهرة، تُخرج العاملين في سبيل الله، والسائرين على نهجه، من ظلمات الجهل والخرافة والعبوديّة والحقد والعداوة..، إلى نور العلم والحقيقة والحريّة والمحبة والصداقة..، والانفتاح على الحياة والإنسان بكل آفاق الخير، وذلك من خلال شرائع الله وتعاليمه الّتي تُمثِّل رضاه في كل الميادين، وتهديهم إلى صراط مستقيم لا ترى فيه أيَّ انحرافٍ واعوجاج، بل هو الوضوح والاستقامة بكل آفاقه ومعانيه.
{يَـأَهْلَ الْكِتَابِ} من اليهود والنصارى، {قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} الَّذي أرسلناه إلى النّاس كافةً من أجل بيان الحقيقة الإيمانيّة لهم ـ بكل تفاصيلها ومفرداتها ـ ليكون لديهم وضوح الرؤية لكل ما أوحى به للرسل من قبله، {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} الَّذي احتفظتم به ولم تطرحوه للنّاس ليقرأوه ويتعرفوا إليه، فلم يعرف النّاس ما فيه إلاَّ من خلالكم، فأخفيتم بعض حقائقه مما لا يتناسب مع أوضاعكم ومصالحكم وتأثير المتغيرات الفكريّة والعمليّة عليكم، فقد كان الرسول مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، ولذلك فإنَّكم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم، ولكنَّكم أنكرتم رسالته، وحاربتم دعوته، وقد أنزل في الكتاب طهارة الأنبياء وتحريم الخمر والربا، ولكنكم حللتم ذلك. وهذا ما أراد النبي(ص) بيانه لتتحرك رسالته في خط الوجدان الرسالي، فيكون امتداداً لها في الأفكار الّتي طرحها والأحكام الّتي شرّعها، فيعرف النّاس أنَّه جاء {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} [المائدة:46]، فالله لا يريد لرسله ولمن جاء من بعدهم أن يحجبوا عن النّاس أيّة حقيقة صغيرة أو كبيرة، لأنَّ ذلك يسيء إلى سلامة التصوّر ونقاء الفكرة، ولهذا كانت مهمة الرسول(ص) أن يشرح حقائق الرسالات السابقة ويؤكدها ويضيف إليها ما أراد الله للإنسان أن يتجدد به من الأحكام الجديدة الّتي جاءت بها رسالة الإسلام، من حيث إنَّه كان المتمم للأخلاق في الشرائع السابقة.
{وَيَعْفُو عن كَثِيرٍ} مما لم يجد ضرورة لبيانه من بعض تفاصيل الأحكام. وقد جاء في تفسير هذه الفقرة: ويعفو عن كثير منكم فلا يؤاخذكم، وهذا بعيد عن السياق.
{قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ} وهو القرآن الَّذي يعني للنّاس الحقائق العقيديّة والشرعيّة والروحيّة والعمليّة والحياتيّة ـ في منهجها النظري والتطبيقي ـ فلا يبقي أيّة ظلمةٍ في العقل، أو ضبابٍ في الرؤية، أو غشاءٍ على القلب أو غطاءٍ على الحقيقة، أو أيّ التباسٍ في الواقع، ليعيش النّاس إشراقة الحق بكل معاني الصفاء والنقاء، وهذا المعنى ـ القرآن ـ هو المراد ـ على الظاهر ـ من كلمة النور، لا ما ذكره قتادة واختاره الزجاج أنَّه النبي محمَّد (صلى الله عليه وسلّم} الَّذي يهتدي به الخلق كما يهتدون بالنور[3]، وذلك لأنَّنا في الوقت الَّذي نرى فيه النبي(ص) نوراً هادياً من خلال ذاته النورانيّة الّتي لا ظلمة فيها لأنَّها الحق كله، فلا مجال فيها لأي باطل في الفكر والقول والعمل، إلاَّ أنَّنا لا نجد أية كلمة وردت في القرآن بهذا المعنى، بل إنَّها وردت بمعنى القرآن كما في قوله تعالى: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن:8]، وغيرها من الآيات، وعلى ضوء ذلك، جاء الحديث عن القرآن بصفته النورانيّة تارة، وبصفته الكتابيّة الموضحة ثانية، كما في قوله: {وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}. والله العالم.
{يَهْدِى بِهِ} أي بالقرآن، {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} في حركة الإيمان في وجدانه الفكريّ، وفي التزامه العمليّ، وفي انفتاحه على الحياة من خلاله، بحيث يكون دوره في الانتماء القرآني دور الاتباع الَّذي يُمثِّل الخط الحركي الَّذي يفتح للإنسان أكثر من خط على الطريق المستقيم، {سُبُلَ السَّلامِ} لأنَّ الوحي الإلهي يُمثِّل الدعوة إلى السلام كله في سلام الإنسان مع ربِّه ونفسه، ومع الإنسان الآخر ومع الحياة في مفردات الشريعة ومفاهيم العقيدة ومناهج العمل، فلا يعيش الإنسان حالة القلق النفسي والتمزق الروحي والحرب الداخليّة والخارجيّة.. وهكذا ينطلق المتَّبع لرضوان الله ـ بواسطة الوحي القرآني ـ ليصنع السلام لنفسه في الدنيا والآخرة في جسده وروحه، وللإنسان كله، وللحياة كلها، لأنَّ الإسلام يفرض عليه ذلك، وهذا ما توحي به تحية الإسلام الّتي يوجهها كل مسلم إلى الآخرين «السلام عليكم» حتَّى في داخل الجنّة، وما يتمثّل في الاسم الَّذي جعله الله لها «دار السلام». {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} وعلمه وإرادته، لأنَّ كل ما يتعلّق بأحوال الإنسان خاضعٌ لقدرته، فيبتعدون عن ظلمة الجهل إلى نور العلم، وعن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وتدبيره، فالله سبحانه وتعالى هو مالك الإنسان على الحقيقة، وبالتالي مالكٌ لكل شؤونه وأحواله، لكن ذلك لا يخرج الإنسان من حد المسؤولية في عملية اختياره، فهو له الاختيار من ضمن ما ملّكه الله من القدرات والإمكانات، وهيأ له من الأسباب والظروف، فإذا كان لا استقلال للإنسان إزاء الله تعالى، بمعنى أنه لا يستطيع أن يتصرف خارج إرادة الله تعالى وعلمه، فإن ذلك لا يخرجه من عمليّة الاختيار الناشىء من أسبابه الطبيعيّة الخاضعة لله في حركتها العامة، ومن ظلمة الخرافة إلى نور الحقيقة، ومن كلمة العبوديّة إلى نور الحريّة، ومن ظلمة البغضاء والعداوة إلى نور المحبة والصداقة، وهكذا ينطلق النّاس الَّذين يتبعون رضوان الله إلى النّور المشرق في العقل والقلب والحركة والحياة من خلال إيمانهم، وليتم الله لهم نوره الَّذي قد تنقصه المعصية في يوم القيامة بإذنه من خلال ألطافه بعباده، بحيث يأذن لهم بهذا الانتقال من خلال ما يهيئه من وسائله الماديّة والمعنويّة، {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ} لا عوج فيه ولا التواء ولا ميل ولا انحراف، لأنَّه صراط {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
ــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:3، ص:219.
(2) البحار، م:1، ج:1، ص:254، باب:4، رواية:7.
(3) مجمع البيان، ج:3، ص:219.
تفسير القرآن