تفسير القرآن
المائدة / الآية 19

 الآية 19

الآيـــة

{يَـأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(19).

* * *

معاني المفردات

{فَتْرَةٍ}: الفَتْرة: فَعْلة، من فتر عن عمله يفتر فتوراً: إذا سكن فيه، وفترته عنه. والفترة: انقطاع ما بين النبيين عند جميع المفسرين. والأصل فيها: الانقطاع عمّا كان الأمر عليه من الجدّ في العمل، وفتر الماء إذا انقطع عمّا كان عليه من البرد إلى السخونة، وامرأة فاترة الطرف، أي منقطعة عن حدَّة النظر.

* * *

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور ـ للسيوطي ـ بإسناده عن ابن عباس قال: «دعا رسول الله(ص) يهود إلى الإسلام فرغبهم فيه وحذرهم، فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب: يا معشر يهود، اتقوا الله، فوالله إنَّكم لتعلمون أنَّه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا: ما قلنا لكم هذا، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده، فأنزل الله: {يَـأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ}»[1].

وقد نلاحظ على هذه الرِّواية، أنَّ الآية ليست ظاهرة ـ بحسب سياقها ـ في أسلوب رد الفعل على ما قاله اليهود، بل هي ظاهرة في التأكيد على إقامة الحجَّة على النَّاس بإرسال النبيّ محمَّد(ص)، ليكون بشيراً ونذيراً حتَّى لا يقولوا ما جاءنا بشيرٌ، فلا حجَّة علينا في مسألة الإيمان والعمل، في حين أن المسألة التي تثيرها الرواية تتعلق بمسألة ختم النبوّة بموسى(ع) أو عدم ختمها به. والله العالم.

* * *

إلقاء الحجة على أهل الكتاب بمجيء البشير والنذير

ويأتي النداء من جديد إلى أهل الكتاب تذكيراً لهم بأنَّ الرسالات لا تتجمّد عند حدود فترة معينة من الزمن، وأنَّ الرسل لا يغيبون عن ساحة الحياة ما دامت الحاجة إليهم ملحّةً، وأنَّ الله ـ برحمته ـ لا يُغفل عباده ولا يبعدهم عن لطفه وعنايته، إذا عاشوا بعض ألوان الضياع، واندفعوا في أجواء الغفلة عنه وعن رسالاته، وقد جاء رسول الله(ص) بعد غياب طويل للرسل، ليبيِّن للنَّاس ما جهلوه، ويفصِّل لهم إجمال ما عرفوه، ويخطط لهم الطريق إلى الله من جديد على أساس من وحي الله، ويبشرهم ثوابه في جنته، وينذرهم عقابه في ناره، لئلا يتعلل النَّاس بالفراغ من البشير والنذير، فيتمرّدون ويبررون كل انحراف ـ باسم الجهل والغفلة ـ فهذا هو البشير النذير، فاستجيبوا له، لأنَّ الاستجابة له تمثل الاستجابة لله الَّذي هو على كل شيء قدير.

{يَـأَهْلَ الْكِتَابِ} الَّذين تملكون في الكتاب الَّذي أنزله الله عليكم قاعدة معرفة الحجَّة الّتي يحتجُّ الله بها على عباده في إنزال الرسل، ما يفرض عليكم تأمله بوحي من العقل الواعي المؤمن لا بوحي من العصبيّة العمياء الّتي تبادر إلى الإنكار من دون أساس، {قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} الَّذي أرسلناه للنَّاس كافة ـ وأنتم من بينهم ـ وهو محمَّد )ص({يُبَيِّنُ لَكُمْ} يوضح لكم أسس العقيدة وامتدادات الشريعة ومناهج الفكر والعمل، ممّا أنزل الله عليه من وحيه، وحباه بعلمه، واصطفاه لرسالته، فكان النبيّ المعلّم المبيّن للحق كله، {عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ} أي على انقطاع منهم، فقد غاب الرسل عن الساحة مدّة طويلة بحيث كاد النَّاس ينسون دين الله ورسالاته. وقد اختلف المفسرون في مقدار هذه المدّة، فجاء عن قتادة قوله ـ على ما رويَ عنه ـ: «كان بين عيسى ومحمَّد خمسمائة سنة وستون، وفي رواية أخرى عنه قال: وكانت الفترة بين عيسى ومحمَّد(ص)، ذكر لنا أنَّها كانت ستمائة سنة أو ما شاء الله من ذلك، وقال معمر، قال الكلبي: خمسمائة سنة وأربعون سنة، وعن ابن جريج: كانت الفترة خمسمائة سنة، وعن الضحّاك: قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمَّد أربعمائة سنة وبضعاً وثلاثين سنة»[2].

وجاء في الكافي ـ للكليني ـ بإسناده عن أبي الربيع قال: «حججنا مع أبي جعفر(ع) في السنة الّتي كان حجَّ فيها هشام بن عبد الملك، وكان معه نافع ـ مولى عمر بن الخطاب ـ فنظر نافع إلى أبي جعفر(ع) في ركن البيت وقد اجتمع عليه النَّاس، فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الَّذي قد تداكَّ عليه النَّاس؟ فقال: هذا نبيّ أهل الكوفة، هذا محمَّد بن عليّ. فقال: أشهد لآتينَّه فلأسألنّه عن مسائل لا يجيبني فيها إلاَّ نبيّ أو ابن نبيّ أو وصي نبيّ. قال: فاذهب إليه وسله، لعلك تخجله. فجاءنا نافع حتَّى اتكأ على النَّاس ثُمَّ أشرف على أبي جعفر(ع) فقال: يا محمَّد بن عليّ، إنّي قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت حلالها وحرامها، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلاَّ نبيّ أو وصي نبيّ أو ابن نبيّ، قال: فرفع أبو جعفر(ع) رأسه فقال: سل عمّا بدا لك، فقال: أخبرني كم بين عيسى وبين محمَّد(ص) من سنة؟ قال: أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعاً، قال: أمّا في قولي فخمسمائة سنة، وأمّا في قولك فستمائة سنة»[3].

والظاهر من هذا الحديث أنَّ المشهور عند المسلمين ـ غير الشيعة ـ رقم الستمائة.

{أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} أي لئلا تقولوا في يوم القيامة عندما تقفون للحساب، لم تقم علينا الحجَّة في الزمن الَّذي عشنا فيه، لأنَّ الله لم يرسل لنا رسولاً يعرفنا على ما أسرفنا فيه على أنفسنا من السيئات، {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ} يبشركم بنعمة من الله ورضوان وجنَّة فيها نعيم مقيم، {نَذِيرٍ} ينذركم بعذاب الله في ناره، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ } فهو الَّذي يملك إرسال الرسل متى شاء، وانقطاعهم في فترة من الزمن كما يشاء.

وربَّما يُثار سؤال:

كيف يمكن أن يترك الله النَّاس بدون رسولٍ يبشرهم وينذرهم فترةً من الزمن قد تناهز الخمسمائة سنة أو تزيد، وهل هذا إلاَّ إهمال الخالق لخلقه في الوقت الَّذي يحملهم فيه مسؤوليّة انحرافهم عن الخطّ المستقيم؟

والجواب: إنَّ الله لم يهمل خلقه، بل إنَّه أنزل عليهم الرسالة الشاملة وهي رسالة موسى وعيسى في التوراة والإنجيل، وأراد لهم الأخذ بها وإطاعة أوامرها ونواهيها، والتعبُّد له من خلالها. ولم تكن المرحلة مرحلة فراغ من المبلّغين والمرشدين من أوصياء الأنبياء وأوليائهم، مما يمكن أن تقوم الحجَّة بهم على النَّاس بالدرجة الّتي يمكن أن يواجهوا المسؤولية فيها، بحيث يستحقون الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة، ولكنَّ المرحلة قد امتدت إلى الفترة الّتي أرسل بها النبيّ محمَّد(ص)، بحيث تحوّل الفراغ الرسالي إلى ما يشبه حالة النسيان للنبوّات، والضياع للنَّاس، فكانت الحاجة ماسّة إلى تجديد الرسالة بالرسول الجديد الَّذي جاء بالكتاب مصدِّقاً لما بين يديه من الكتب والرسل، وأطلق البشارة والإنذار لأهل الكتاب الَّذين يعرفون ذلك، ولغيرهم ممن لا يعرفونه ليهتدوا به إلى الطريق المستقيم. والله العالم.

ـــــــــــ

(1) الدر المنثور، ج:3، ص:45.

(2) م.س.، ج:3، ص:45 ـ 46.

(3) الكافي، ج:8، ص:120، باب:8، رواية:93.