تفسير القرآن
المائدة / من الآية 20 إلى الآية 26

 من الآية 20 الى الآية 26

الآيـــات

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخِلُونَ * قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}(20ـ26).

* * *

معاني المفردات

{المُقَدَّسَةَ}: التقديس: التطهير، وقيل للسطل الَّذي يتطهر به القدس، ومنه تسبيح الله وتقديسه، وهو تنزيهه عمّا لا يجوز عليه من الصاحبة والولد، وفعل الظلم والكذب.

{جَبَّارِينَ}: الجبار: هو الَّذي لا يُنال إلاَّ بالقهر، وأصله في النخل، وهو ما فات اليد طولاً، والجبّار من النَّاس هو الَّذي يجبرهم على ما يريد، والجبر: جبر العظم، وهو كالإكراه على الصلاح.

والجبّار في صفة الله تعالى صفة تعظيم لأنَّه يفيد الاقتدار، وهو سبحانه لم يزل جبّاراً، بمعنى أنَّ ذاته تدعو العارف بها إلى تعظيمها، والجبّار في صفة المخلوقين صفة ذم لأنَّه يتعظم بما ليس له، إذ العظمة لله سبحانه.

{فَافْرُقْ بَيْنَنَا}: أي افصل بيننا وبينهم.

{يَتِيهُونَ}: أصل التيه: التحيّر الَّذي لا يهتدى لأجله للخروج عن الطريق إلى الغرض المقصود، والتيهاء من الأرض: هي الّتي لا يهتدى فيها.

{تَأْسَ}: الأسى: الحزن.

* * *

صورة من صور انحراف بني إسرائيل

وهذه صورةٌ حيّةٌ من صور هذا الشعب المنحرف من بني إسرائيل، بعد أن خلّصهم الله من فرعون على يد نبيّه موسى(ع) الذي كان واحداً منهم أرسله إليهم واصطفاه برسالته، ليحرّرهم من العبوديّة المتعمِّقة في داخلهم من جرّاء استضعاف فرعون لهم، وذلك عبر قيم الحريّة المتمثِّلة في توحيد الله، والكفر بكل الطغاة والجبابرة من آلهة البشر، والشعور بالمعنى الإنساني الحرِّ لوجودهم..

وانطلق معهم نبيّهم موسى(ع) بأسلوب الرسالة الَّذي يخاطب فيهم إنسانيتهم، ليوحي إليهم بحسّ الكرامة في ذاتهم، ويعلمهم أنَّ العقيدة والالتزام والطّاعة كلّها لا تمثّل تعليمات يصدرها الكبار إليهم كما تعوّدوا في عهد عبوديتهم لفرعون، بل هي فكرةٌ وإرادةٌ ومعاناة، وحركةٌ داخليّةٌ تنطلق في رحاب الكون، ليتحول جهدها كله إلى فعل إيمان. ولذلك كان يدعوهم إلى التأمُّل والتفكُّر والتذكُّر والقراءة والحوار..

وهو قد خاض معهم الحوار في كل ما يطرأ عليهم من مشاكل، ليعلّمهم كيف يفكرون، وكيف يشاركونه الفكر، ولكنَّهم كانوا يبتعدون عنه كلما اقترب إليهم، وبدأوا يتمرّدون عليه في أكثر من موقف، وذلك بسبب ما اعتادوا عليه من عبوديّة، فكانوا ينتظرون منه(ع) أن يعاملهم كما عاملهم فرعون، فيستضعفهم ويستعبدهم من خلال حكمه، كي يشعروا بالاستقرار، وكانوا يعتبرون أنَّ معنى خلاصهم من فرعون، هو أن يعيشوا حالة استرخاء ودعة وطمأنينة بعيداً عن كل أجواء الصراع ومشاكله، فلم يكونوا مستعدين للقتال، بل كانوا يتحفزون للهرب عند أول دعوة للمعركة، ولكنَّ شخصيّة الرسول(ص) لا تلتقي بشخصيَّة فرعون من قريب أو من بعيد، فإنَّ هناك فرقاً بين من يريد النَّاس لنفسه، وبين من يريدهم لله ولأنفسهم من موقع صلاحهم، ولهذا لم يستطع موسى(ع) النجاح معهم، ولم يكن من خطّته أن يحقق النّجاح على هذا المستوى، لأنَّه كان يعمل على تغيير مفاهيمهم وروحيتهم وطريقتهم في التفكير والعمل. ولذلك كانت الموعظة الهادئة والانسجام مع مطاليبهم والعفو عن خطاياهم معه هو السبيل إلى الوصول إلى بعض هذا الهدف الَّذي استطاع أن يعطي الساحة بعض النماذج الّتي ارتفعت إلى مستوى الرسالة فعاشت مع موسى آفاقه وأحلامه...

وتمثِّل هذه الآيات أحد نماذج أسلوب موسى معهم في الحوار، وأسلوبهم في الهزيمة النفسيّة والتمرُّد عليه. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} [المائدة:20] فهو دعاهم إلى فترة من التأمُّل، ليستعيدوا فيها تاريخهم المظلم الغارق بالعبوديّة والظلام، وليقارنوا بينه وبين تاريخهم الجديد الَّذي منحهم الله فيه الحريّة على يد رسوله بالمعجزات الخارقة، وجعل منهم أنبياء فأكرمهم برسالته، وصيّرهم ملوكاً، ورزقهم من النعم ما لم يؤته لأحد من العالمين الَّذين عاصروهم. وقد كانت هذه الدعوى منه كي يواجهوا الحاضر والمستقبل من هذا الموقع، ليرتفعوا إلى المستوى الَّذي أراد الله أن يرفعهم إليه، فيتحملوا مسؤوليّة الرسالة معه، ويعملوا على التحرك من أجل التغيير بقيادته.

{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} وكانت القافلة تسير إلى بيت المقدس، ولاحت لهم الأرض المقدسة من بعيد، فهي الهدف الَّذي عاشوا له من خلال موسى، فطلب منهم أن يدخلوها ليستقروا وليعيشوا الحكم العادل على أساس النبوّة، ولكنَّهم رفضوا ذلك العرض، لأنَّ الدخول إليها سوف يكلفهم صراعاً وقتالاً وتضحيات لا يريدونها، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}، فقد كان يحكمها قومٌ جبّارون، ولم يكونوا على استعداد للدخول في صراع معهم. ولذلك كان ردُّ الفعل لطلب موسى أن قالوا له: إنَّ دخولهم معلّق على خروج الجبابرة بهدوء واستسلام، حتَّى إذا خرجوا من دون أن يكلفهم ذلك نقطة دم، كان الدخول معقولاً. وكان هناك رجلان لا ثالث لهما من الَّذين يخافون الله، أنعم الله عليهما بنعمة الإيمان، وعرفا ـ من خلال ذلك ـ معنى المسؤوليّة في مواطن التحدّيات، ووقفا في مواجهة هذا الجمع المهزوم ليقولا له: إنّنا نملك القوّة الّتي تستطيع أن تحكم الفكر والنَّاس والحياة، وكل هذه الأمور من وسائل القوّة الغالبة، فلندخل الباب عليهم ولنهاجمهم في عقر دارهم، ليكونوا في موقع الضعف، ونكون في موقع القوّة، فإنَّ القوم طلاب مُلك ونحن جنود رسالة، وستتغلب الرسالة على المُلْك إذا أخذت بأسباب القوّة الماديّة، مضافاً إلى ما تملكه من القوّة الروحيّة: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:23].

ولكنَّ هذه الكلمات ضاعت في هدير الهزيمة وضجيج التخاذل، وانطلق الصوت المهزوم يتكلم بلغة الهزيمة الّتي تحاول أن تعطي الكلمات صفة القرار الحاسم: {قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَها أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} تلك هي الكلمة الأخيرة الّتي لا تقبل نقاشاً. وامتد الصوت ليعلن الانفصال عن موسى (ع)، فهم غير ملزمين بطاعته في القتال، لأنَّهم يحبون الحياة أكثر مما يحبون المقدّسات. {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} أمَّا إذا كان موسى(ع) يُحدِّثهم عن الله، ويستعين به عليهم، ويملأ قلوبهم بالشعور بقوّته، فليذهب هو وربُّه فليقاتلا إذا كانا يريان القتال لازماً، ويريان المعركة منتصرة، فتلك هي مسؤوليتهما لخدمة الرسالة الّتي أرسلها الله وحملها موسى(ع)، أمّا هم؛ جنوده وأتباعه، فلا مسؤوليّة لهم في ذلك كله، فإنَّهم قاعدون منتظرون للنتائج الإيجابيّة أو السلبيّة.

وشعر موسى بالحرج، فلم يعد لديه أيّة سلطة أو قوّة يمكن أن يمارسها على هؤلاء النّاس، وكان يريد أن يُعذر إلى الله ليخرج من حدود المسؤوليّة، على رضى من الله ومحبة، فتوجه إلى الله ليعلن إليه ما يعلمه الله من ظروفه: {قَالَ رَبِّ إِنِّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وأَخي}، ولا أملك أحداً من هؤلاء في ما يملكه القائد من أمر جنوده، {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ }، الَّذين خرجوا عن طاعتك وتمردوا على رسولك. وجاءتهم العقوبة الّتي يستحقها الخائفون المهزومون الَّذين رفضوا الهدى، فلا يستأهلون النصر إذا لم يعملوا له، فكتب الله عليهم أن يظلوا في التيه أربعين سنة، {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرضِ} فلا يملكون دخول الأرض المقدسة، لأنَّهم هم الَّذين اختاروا لأنفسهم ذلك، وسيتحملون متاعب الضياع وأهواله، وسيعيشون آلام الاهتزاز ومشاكله. وذلك هو مصيرهم الَّذي استحقوه نتيجة فسقهم العملي، فلا تتألم ـ يا موسى ـ من موقع الرحمة في قلبك، فإنَّ هؤلاء لا يستحقون الرحمة، {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }.

* * *

وقفات أمام القصة

وقد نحتاج إلى بعض الوقفات في أجواء هذه الآيات:

1 ـ ما المراد من قوله: {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً}؟ هل المراد المعنى المتبادر من الكلمة أي السلطنة والحاكميّة، وذلك مما ذكره القرآن في ملوكهم من طالوت فداود إلى غيرهما، وهذا ما لم يتحقق لبني إسرائيل إلاَّ لفترة قصيرة، والظاهر من الآية أنَّه قد جعلهم ـ بشكلٍ شاملٍ ـ ملوكاً في مقابل قوله تعالى ـ قبل ذلك ـ {جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ} الأمر الَّذي يوحي بأنَّ الأنبياء فيهم معدودون، بينما كلمة الملوك شاملة للجميع، ما يبعد الكلمة عن هذا الاحتمال ظاهراً؟

أو أنَّ المراد ملك المصير والأمر والموقف والموقع، بحيث باتوا أحراراً بعد أن كانوا مستعبدين، وباتوا مستقلين بعد أن كانوا أتباعاً، وباتوا في حركةٍ من أمرهم بعد أن كانوا سادرين في الجمود؟

وبكلمة أخرى، باتوا يملكون شؤون أنفسهم وأمورها بعدما كانوا مملوكين من فرعون وزبانيته يتصرف فيهم كيفما شاء، ومتى شاء.. وبذلك باتوا في مقابل الحالة السابقة الّتي كانوا فيها مملوكين. والَّذي يجعل هذا المعنى محتملاً، بل وراجحاً، هو عدم المانعية من إطلاق كلمة الملك على من يملك نفسه وظروفه وحركته ومصيره.. لا سيما أنَّها في اللغة قد تطلق على السلطان، وقد تطلق على المالك لزمام الأمور، أو المالك لشيء خاص.

وقد جاء في تفسير الدر المنثور عن النبي(ص)، قال: «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً»[1].

وفيه: أخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في قوله: {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} قال: قال رسول الله(ص): زوجة ومسكن وخادم[2].

إلاَّ أنَّ هذا التفسير لا ينسجم وسياق الآية، ذلك أنَّ الآية واردة في مقام الامتنان على بني إسرائيل، والامتنان يفيد التخصيص دون الاشتراك، ولما كان اتخاذ المنازل والنساء والخدم عادة لا تخلو منها أمة من الأمم كما يفيد التاريخ، لم يعد هذا الأمر أمراً يخص بني إسرائيل حتّى يكون من موارد امتنان الله تعالى عليهم. هذا في جانب، وفي جانب آخر، فإنَّ إطلاق «الجعل» يتنافى وواقع حال بني إسرائيل أنفسهم، إذ من البديهي أنَّهم لم يكونوا كلهم ذوي منازل ونساء وخدم، وإنَّما كان بعضهم على هذا الوصف دون البعض الآخر.

ولعل التنبه إلى ما تقدم أوجب ورود بعض الرِّوايات الّتي تنسب إلى بني إسرائيل أنَّهم أول من ملك الخدم، كما ورد عن قتادة، وهذا ما يتنافى والتاريخ.

لكن إذا ما كانت هذه الأحاديث ناظرة إلى واقع حال بني إسرائيل الجديد ـ بعيداً عن تفسير الآية ـ ثُمَّ حملت عليها، عندها تكون في سياق تبيان المستوى الاقتصادي والاجتماعي لبني إسرائيل.

إذ من الواضح أنَّ وصف الملك في الأحاديث، وصف يحاكي مرتبةً اقتصاديةً ـ اجتماعيةً، وهو ـ بالتالي ـ وصف ناظر إلى الانقسام الاجتماعي داخل المجتمع الإسرائيلي بين من هم ملوك، ومن هم دونهم، وهو بذلك، إنَّما يعكس واقعاً اقتصادياً اجتماعياً جديداً لم يكونوا عليه ثُمَّ عملوا به، وهذا بدوره يؤثر على جانب من الاستقلالية الذاتية ذات المدخلية الاقتصادية الّتي تجعل الإنسان مالكاً لنفسه، ولا يخفى أنَّ الاستعباد غالباً ما يجد طريقه من بوابات الحاجة إلى الآخرين لإشباع الحاجات الذاتية.

2 ـ ما هي الأرض المقدسة المذكورة في الآية؟

قيل: هي بيت المقدس، وقيل: هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وقيل: هي أرض الطور وما حولها، وقيل: هي أرض الشام كلها. وربَّما كان هذا القول هو الأقرب للواقع التاريخي، لأنَّها أرض النبوات، ومهبط الرسالات، وساحة الأديان التوحيديّة الكبرى، ما يجعل صفة القداسة الّتي تنطلق من طهارتها من الشرك أكثر التصاقاً بها. والله العالم.

3 ـ ما المقصود من {جَبَّارِينَ} في الآية؟

قيل: إنَّهم العمالقة الَّذين يتميزون بضخامة الأجسام، وطولها غير العادي، حتَّى وضعت الأساطير في الحديث عن أحجامهم في العرض والطول ما يشبه الخرافات، وقد دخلت الإسرائيليات الخرافيّة ـ في هذا الموضوع ـ في الكتب الإسلاميّة، وقد ذكر المؤرخون في الحديث عنهم، فقالوا: «كان العمالقة قوماً من العنصر السامي يعيشون في شمال جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء، وقد هاجموا مصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالي (500) عام منذ عام 2213 قبل الميلاد حتَّى عام 1703 قبل الميلاد»، كما جاء في دائرة المعارف لفريد وجدي.

ويبدو أنَّ قوم موسى كانوا يعيشون الإحساس بالقوّة القاهرة لهؤلاء، ما يجعلهم يرتجفون رعباً من التفكير بأنَّهم سوف يواجهونهم في ساحة الحرب. وربَّما كانوا يحملون بعض الإشاعات الأسطوريّة عنهم مما اعتاد النّاس أن يتحدثوا به عن أرباب القوّة بطريقة المبالغة، ولهذا كان موقفهم حاسماً في رفض الدخول إلى الأرض المقدسة الّتي يسيطر هؤلاء عليها، من دون التفكير بما يملكونه ـ هم ـ من عناصر القوّة في مقابل ما يعيش فيه العمالقة من عناصر الضعف، لا سيّما أنَّ هؤلاء قد لا يملكون حريّة الحركة في داخل المدينة كنتيجةٍ للتعقيدات الّتي تفرضها ضخامة أجسامهم، كما أنَّ الهجوم المفاجىء قد يهزمهم من ناحية نفسيّة. وتلك هي مشكلة الَّذين لا يعيشون الإيمان الواعي بالله والثِّقة برسله، هذا الإيمان الذي من شأنه أن يوحي بالثقة بالنفس بما يفرضه من امتلاء العقل والقلب والحركة بالله وتفريغ الذات من الإحساس بقوّة الآخرين، ولهذا رأينا الرجلين اللذين يخافان الله، واللّذين أنعم الله عليهما بنعمة الإيمان القوي، يشجعان تلك الجماعات على الهجوم المباغت متوكلين على الله، ومنفتحين على عناصر النصر، من خلال الإيمان به وبرسله وبنصره، وأن يكون لديهم، بالتالي، ثقة كبيرة بالغلبة عليهم، لأنَّ المسألة هي في امتلاكهم لإرادة النصر والإيمان كي ينصرهم الله تعالى على الآخرين ولو بعد حين.

4 ـ لقد ورد في سياق قصّة موسى وقومه قوله: {الأرضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} حيث يبرز أمامنا سؤال عن المقصود بكلمة {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} فهل المراد بها القضاء بتوطينهم فيها، أم أنَّ المراد بها تمليكها لهم على نحو ما ينادي اليهود الان بأنَّ الأرض المقدسة هي ملك «إسرائيل» باعتبارها وعداً إلهياً؟

إنَّ جلّ ما يمكن لنا استيحاؤه من ظاهر قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أنَّ المراد بالكتابة هنا أنَّ الله قد وعد بني إسرائيل بعد خلاصهم من فرعون أن يسكنهم أرضاً يستطيعون الحياة فيها بكرامةٍ على أساسٍ من الإيمان والطاعة لله ورسله، ولهذا فإنَّ العرض الَّذي قدمه موسى(ع) إليهم هو أن يدخلوها ويجاهدوا القوم الجبابرة الكفرة الموجودين فيها بصفة الحكّام، من موقع إقامة حكم الله في الأرض على أيدي المستضعفين في مواجهة الجبارين. وليس في الآيات ما يدل من قريب أو من بعيد على حقٍ قانونيٍّ إلهيٍّ لهم في هذه الأرض، وبذلك يكون معنى الكتابة التقدير بأن يدخلوها ويسكنوها ويعبدوا الله فيها من خلال ما تمثِّله من معاني القداسة المتصلة بالأجواء العباديّة الروحيّة. وربَّما يتساءل البعض عن الجمع بين إرادة الله لهم باستيطانهم الأرض المقدسة وتحريمها عليهم أربعين سنة؟!

والجواب: إنَّ الحديث ـ في الآية ـ لم يحدد وقتاً ولا جماعة معينين، بل كان الحديث عن الأمة وعن المستقبل من حيث المبدأ وذلك باعتبارها المنطقة الّتي أراد الله لهم الاستقرار فيها بعد خروجهم من مصر وانتهاء فترة التيه الّتي كانت عقوبة لهم. والله العالم.

2 ـ نستوحي من هذه الآيات فكرة تربية الأمة على أساسٍ ينسجم مع الآفاق والأفكار الّتي تحملها القيادة أو تعيشها، وصولاً إلى تحقيق الأهداف والغايات الكبيرة. فقد كانت مشكلة النبيّ موسى(ع) أنَّه يقود أمّةً لا تؤمن بأفكاره، ولا ترتفع إلى مستوى أهدافه، بل كانوا يفكرون بالأمن والاسترخاء والراحة، ولو على حساب مبادئهم، بينما كان موسى يفكر بالحياة في حجم الرسالة، وهذا هو ما تعانيه الشعوب الإسلاميّة بفعل تزوير أفكارها وتصوراتها للواقع، وتربيتها على أساس الارتباط بحاجاتها اليوميّة واعتبارها الهمّ الكبير لها، وابتعادها عن كل القيم الروحيّة الكبيرة الّتي تحتضن كل مصالحها الحقيقيّة المستقبليّة كأمة تعيش مرفوعة الرأس بين الأمم، وبذلك تحوّلت إلى شعوب مستعمرة للكافرين والمستعمرين والظالمين من كل الأمم، في أجواء ذليلة تنمِّي في داخلها قابليتها للاستعمار، فيكون سلوكها وطريقتها في الحياة بمثابة دعوةٍ للمستعمر ليستعمرها ويحتوي بيديه كل حاضرها ومستقبلها في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لتكون لعبةً لكل لاعب، وطعمةً لكل طاعم، وهذا ما يجعلنا مسؤولين عن ربط الأمة بأهدافها الكبرى من أجل التقاء القاعدة والقيادة في الطريق إليها على حد سواء.

6 ـ في مناجاة موسى(ع) لله ـ في هذه الآيات ـ لسنا أمام موقف ضعف وهزيمة، بل هو موقف الرسول الَّذي يقدّم تقريره إلى الله من خلال شعوره بالمسؤوليّة أمام المشكلة الّتي تواجهه، وينتظر التعليمات الّتي تحدد له موقفه، وهذا ما نستوحيه من قوله: {لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسي وأخي} فكأنَّه يعرض ما يملكه أمام الله بأسلوب الإنسان الَّذي يقف مستعداً ليقدّم كل شيء، ويستعين بالله ـ بعد ذلك ـ في مواجهة الصعوبات الّتي تحيط به في موقفه الصعب، وتلك هي صورة الشخصيّة القياديّة الرساليّة الّتي لا تتنازل عن دورها الكبير أمام التحديات، بل تظل ثابتة القدم في وضوحٍ من الرؤيّة، واستقامة على الخط، وثبات على الطريق في اتجاه الهدف.

7 ـ إنَّ إطلاق كلمة {الْفاسِقِينَ } على تلك الجماعة الّتي تمرّدت على موسى(ع)، من جهة التمرّد العملي على الأمر الَّذي أصدره الله إليهم من خلال نبيهم(ع) بالدخول إلى الأرض المقدسة في تلك الفترة وطريقتهم في الاستخفاف به وبالله في قولهم: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ}، فكأنَّهم يستهينون بقدرة الله وبقدرته ـ من خلال ربِّه ـ على مواجهة الجبارين، ولعلّ هذا يكشف عن الضعف الإيماني بالله وبالنبيّ، بحيث يشبه الارتداد على أدبارهم، فيخسرون بذلك مصيرهم في إنذار موسى(ع) لهم بالنتائج السلبيّة في الواقع.

8 ـ لقد كان القضاء الإلهي عليهم بالتّيه مُدَّة أربعين سنة عقوبةً لهم على التمرّد، وهم بذلك لم يحصلوا على الاستقرار، ولم يطمئنوا في حياةٍ مدنيّةٍ مستقرةٍ في بلدٍ معين، ولم يعيشوا عيشة البدو، بل كانوا في حالة قلقٍ واهتزاز، ما أدى إلى حالةٍ مدمّرة من الضياع النفسي، والتّيه الحركي، ونلاحظ أنَّ هذه العقوبة الدنيويّة لم تقتصر على الَّذين تمرّدوا أو ظلموا أنفسهم بالمعصية، بل امتدت إلى موسى(ع) والمؤمنين معه، لأنَّ البلاء إذا حلَّ بالأمّة من خلال سلوكها عمَّ جميع أفرادها حتَّى الصالحين.

ــــــــــ

 

(1) الدر المنثور، ج:3، ص:46.

(2) م.ن.، ج:3، ص:47.