تفسير القرآن
المائدة / من الآية 27 إلى الآية 31

 من الآية 27 الى الآية 31

الآيــات

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ*لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ*إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ    أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ*فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ*فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ في الأرضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءة أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءة أَخي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـادِمِينَ} (27ـ31).

* * *

معاني المفردات

 {قُرْبَاناً}: القربان: الشيء الَّذي يتقرّب به إلى الله من الذبائح وغيرها.

 {بَسَطتَ}: البسط: المدّ، وهو ضد القبض.

 {تَبُوءَ} ترجع، يقال: باء، إذا رجع إلى الباءة: وهو المنزل.

 {فَطَوَّعَتْ}: فعَّلت من الطوع، والعرب تقول: طاع لهذه الظّبية أصول هذه الشجرة، وطاع لفلان كذا أي أتاه طوعاً، ولا يُقال: أطاعته نفسه، لأنَّ أطاع يدل على قصد موافقة معنى الأمر، وليس كذلك طوّع، لأنَّه بمنزلة انطاعت له أصول الشجرة، والمراد: زينت له نفسه.

 {يَبْحَثُ}: أصل البحث: طلب الشيء في التراب.

  {سَوْءة}: أصل السّوءة: النكرة، يُقال: ساءه يسوؤه سوءاً إذا أتاه بما يكرهه.

 {يَا وَيْلَتَا}: حلول الشر، والويلة تستعمل في الفضيحة، ولعلّ هذا هو المراد من اللفظ هنا، وقال سيبويه: الويل كلمة تقال عند الهلكة.

*  *  *

صراع الخير والشر في قصة قابيل وهابيل

 إنَّها قصة قابيل وهابيل الّتي سنتابع مشاهدها مع هذه الآيات بتأمُّل واستيحاء، مشهداً مشهداً، فنقف ـ بدايةً ـ مع المشهد الأول، لنجد فيه ابْنيْ آدم، وقد قرّب كل منهما قرباناً إلى الله، أملاً في قبول الله له للحصول على رضاه ومغفرته، أو لتحقيق ما يطلبه كلٌّ منهما من حاجات، فكانت النتيجة رفض قربان أحدهما وقبول قربان الآخر، ولم يتقبّل الأوّل رفض الله قربانه برضىً وخضوع، بل واجهه بتمرد واحتجاج، اتجه به إلى البغي والعدوان.

 ثُمَّ ننتقل إلى المشهد الثاني، فنرى فيه حواراً معبِّراً بين الأخوين، بدأه الَّذي رُفِضَ قربانه، بالتهديد والوعيد لأخيه المؤمن الَّذي تقبل الله منه القربان قائلاً له: {لاََقْتُلَنَّكَ} في لهجة تنضح بالحقد والحسد الطاغي الَّذي يتفجّر في صدره كالحمم، ولم يكن هناك أي مبرر لهذا الموقف منه، لأنَّ النتيجة ليست من صنع أخيه ليحسبها ذنباً من ذنوبه الّتي يستحق العقوبة عليها، بل القضيّة من صنع الله في هذا وذاك، فهو الَّذي رفض هذا وتقبّل ذاك، فليكن الحساب مع الله إذا كان يمكنه ذلك أو يحقّ له.. ولكنَّه الحسد الَّذي يواجه فيه الحاسد المحسود، من غير ذنبٍ جناه، إلاَّ أنَّ الله أنعم عليه ولم ينعم على الحاسد.

 فما كانت ردّة فعل الأخ المؤمن؟

 إنَّنا نلمح الوداعة الإيمانيّة والصفاء الروحي، والمشاعر الطاهرة المنسابة في عروق الحياة، كانسياب النّور في عروق الصباح، والسلام المنهمر كالشلال من كل كلماته في ردّه على تهديد أخيه له، من خلال ما نقله الله لنا عنه في الآيات المتقدمة، في قوله تعالى: {لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لاَِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}.

 إنَّه موقف «اللاعنف» أو «إرادة السلام» الَّذي يعبّر عن نفسه بهذه البساطة الموحية، فهو لم يواجه أخاه بموقف تهديدي مضاد، لأنَّه لا يؤمن بالمبدأ الَّذي يدفع الإنسان إلى قتل أخيه الإنسان قريباً كان أو بعيداً، لمجرّد نزوة عارضة أو مزاج انفعالي، بل يؤمن بإعطاء فرصة التراجع والمرونة لمن يتّخذ المواقف الحادّة ساعة الانفعال والغضب، بفضل هدوء فكره، ورحابة صدره، ليسيطر على السلبيات الّتي تفجر الموقف وتخلق المشكلة، ثُمَّ يحاول أن يربط ذلك كله بالإيمان بالله الَّذي يريد للإنسان السلام في الحياة، فيعبّر عنه بأنَّه يخاف الله ربَّ العالمين، الَّذي يطلع على كل أقواله وأفعاله، فيحاسبه على كل شيء.

إنَّه يقف ليحذّره كي لا يحمِّل نفسه مسؤوليّة إثم القاتل والمقتول، فيكون من أصحاب النّار، الّتي هي جزاء الظالمين. وهذا هو مضمون الكلمة المأثورة عن الإمام محمَّد الباقر(ع): «من قتل مؤمناً متعمداً أثبت الله عزَّ وجلّ على قاتله جميع الذنوب وبرىء المقتول منها»[1]. ومن هنا جاء موقفه من أخيه كعمليّة ردع في البداية وعقوبة في النهاية.

 وقد يخيّل لبعض النَّاس أنَّ الموقف ـ هنا ـ يوحي بالروح الاستسلاميّة الانهزاميّة التخاذلية الّتي تنكر على الإنسان حقّ الدفاع عن نفسه، ولكنَّ القضية ليست كما يُتخيَّل، فقد كان الحوار يدور ـ كما يبدو ـ حول مبدأ العنف في مواجهة خيبة الأمل وثورة الانفعال، باعتبارها لا تبرر شيئاً من ذلك، وليس في الآية أيّة إشارة إلى تفصيل ما حدث وكيف حدث. هل وقف المؤمن أمام أخيه الظالم موقف المستسلم، أو موقف الدفاع عن نفسه، أو أنَّ الجريمة حصلت بفعل المفاجأة وبطريقة الاغتيال؟ لقد أغفلت الآيات ذلك كله، لأنَّها لا تريد الدخول في التفاصيل البعيدة عن حركة الفكرة في الحوار، بل كانت تركّز على أصل الفكرة من حيث طبيعتها، أو من حيث تمثيلها لبداية الشر في الكون، ولسذاجة المجرم الشرير البدائي، وجهله بطريقة إخفاء جريمته أو دفن ضحيّته، حتَّى بعث الله له غراباً يعرّفه كيف يواري أخاه، ما جعله يخضع لحالات التأمل العميق الّتي تؤدي به إلى الندم على كل ما فعله.

*  *  *

نبأ قابيل وهابيل

 {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءْادَمَ بِالْحَقِّ} التلاوة من التلو وهي القراءة، سميت بها لأنَّ القارىء للنبأ يأتي ببعض أجزائه في تلو البعض الآخر. والنبأ هو الخبر إذا كان ذا جدوى ونفع.

 من هنا، فقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} يراد به قصة النبيّ آدم أبي البشر، وتقييده، سبحانه وتعالى، الكلام بقوله: {بِالْحَقِّ} ـ وهو متعلق بالنبأ ـ أو بقوله: {وَاتْلُ} لا يخلو من إشعار، بأنَّ نبأ هذه القصة كما هو معروف في الوسط الديني اليهودي لا يخلو من تحريف وإسقاط، وهذا ما هو عليه الأمر بالفعل، إذ إنَّ الفصل الرابع من سفر التكوين من التوراة المتصدي لخبر هذه القصة، أسقط منه الجزء المتعلق ببعث الغراب وبحثه في الأرض، كما أنَّ القصة، كما هي واردة في التوراة، صريحة في تجسيم الرب، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. ولا ريب أيضاً، أنَّ في هذا التقييد إشعاراً للنَّاس، بأن يكون تناقلهم للأخبار دقيقاً خالياً من التحريف والتشويه والإسقاط أو الإضافات.

 ويبقى أنَّ قصة هابيل وقابيل التي تمثل صراع الخير والشر، هي أول جريمة تعود إلى فجر التاريخ، حيث تشكل الإرهاصات الأولى للواقع الاجتماعي وللتجارب النفسية الشخصية..، الّتي قد تسهم تعقيداتها في إيجاد الدوافع الذاتية للجريمة. كما تظهر هذه الحادثة التأثيرات الّتي يمكن أن تتركها الدعوة الدينية حتّى ولو في صورتها الأولية على الإنسان الفطري الساذج، لا سيما في بُعدها القيمي والأخلاقي. فموقف الأخوين صريح في الكشف عن هذا التأثير سلباً أو إيجاباً.

 فبالرغم من أنَّ كليهما ينتميان إلى بيئة اجتماعية ساذجة هي أقرب وألصق بحياة الفطرة والطبيعة، حيث لم تتعقد العلاقات على أنواعها ولم تبلغ درجة عالية من التطور، بحيث إنَّ الأثر الاجتماعي، في ذلك الوقت، على سلوك الإنسان، كان لا يزال ضعيفاً، ما يترك هامشاً أكبر للنوازع الذاتية على الجوانب الغريزية في الإنسان في التأثير على السلوك الإنساني عموماً، لا سيما إذا ما توفرت الأجواء المناسبة لها، تماماً كما هي الحالة الّتي تكشف عنها قصة النّبيّ آدم(ع).

 فآدم(ع)، وبوحي من نبوته من جهة، ومن تجربته القريبة في الجنة، الّتي خاض فيها تجربة مرة مع إبليس ووسوساته وإغراءاته كان الثمن خروجه منها.. وهبوطه وزوجه إلى الأرض.. أراد(ع)  بوحي من ذلك كلّه، أن يوفر على ولديه مثل هذه المعاناة، فقام، ولا ريب، بوعظهما ونصحهما وإرشادهما وتعليمهما، بما يتناسب وإمكانياتهم الذاتية آنذاك، من قيم الإيمان وسلوكياته المتنوعة. ويبدو أنَّه كان هناك، على الأقل، قبول مبدئي بهذه التصورات الدينية الأولية من كليهما، يظهر ذلك من توجيههما معاً لتقديم القرابين لله تعالى، إلاَّ أنَّ تقديم هذه القرابين كان بمثابة الظرف المناسب للكشف عن حقيقة إيمان كلٍّ منهما.. إذ ما كاد الله تعالى يتقبل من هابيل حتّى انتفض قابيل ساخطاً محتجاً بفعل الحسد الَّذي أخذ بمجامع قلبه وضميره وعقله، فكان أن هدد أخاه بالقتل. وهذا من شأنه أن يكشف لنا عن أنَّ الإيمان ليس مجرد فكرة نعتنقها أو نتبناها، وإنَّما هو أولاً وأخيراً، استجابة مستمرة للتحديات، وثبات في الموقف إزاءها من موقع الإيمان نفسه.

* * *

التقوى هي الأصل

 ولذلك أراد الله لنبيّه أن يتلو على النّاس خبر هذين الولدين اللذين عاشا مع أبيهما آدم وتأثرا به في مسألة الإيمان، ولكنَّهما اختلفا في استقامة أحدهما وانحراف الآخر في نهاية المطاف، حيث قاما بتقديم القربان إلى الله ليتقربا إليه مما قد يكون ـ في ذلك الوقت ـ نوعاً من العبادة، ولم تكن بينهما أيّة مشكلة قبل ذلك، بل كانا يعيشان كأخوين في النسب والإيمان.. وكانت التجربة الأولى {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا} وهو هابيل كما تتحدث الرِّوايات، {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} وهو قابيل، ربَّما عرفا ذلك من خلال العلامة المذكورة في آية أخرى في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183]، فإنَّ الظاهر من هذا، أنَّ هناك ناراً إلهيّة يرسلها الله لتأكل القربان المقبول وتترك غير المقبول، وقد أكدت هذا المعنى الرِّوايات الإسلاميّة الواردة في هذا الموضوع، كما تحدثت عن الخلفيات النفسيّة لهذين الرّجلين في الإخلاص لله، وقالت كما في تفسير القمي نقلاً عن الميزان: لما قرب ابنا آدم القربان، قرب أحدهما أسمن كبش كان في صيانته، وقرب الآخر ضغثاً من سنبل، فتقبل من صاحب الكبش وهو هابيل، ولم يتقبل من الآخر، فغضب قابيل، فقال لهابيل: والله لأقتلنّك.. إلى آخر الحديث[2].

 وتكشف هذه الرِّواية عن الروح السمحة لهابيل في إخلاصه لربِّه، فيقدم في عبادته له أفضل ما عنده، بينما يعيش قابيل روح البخل الذاتي والتلوث الروحي ـ حتَّى في العبادة ـ فيقدم ما لا قيمة له عنده، وهكذا تقبّل الله من هابيل قربانه دون قابيل، وفوجىء قابيل بالنتيجة الّتي دلت على تميز أخيه، وتقدمه عليه، في الكرامة الّتي حصل عليها من الله، ما جعله يشعر بالإحباط والسقوط أمام إخوته، فتحركت في داخله عقدة الحسد الّتي بدأت تأكل قلبه وتقضُّ مضجعه، وتوحي إليه بالكثير من الأفكار الشريرة ضد أخيه الَّذي لم يكن له يد في ما حصل له من الرفض الإلهي لقربانه.

 وهكذا تحوّل الحسد عنده إلى إرادة بغي وعدوان وتهديد لأخيه، حتَّى أنَّه لم يملك نفسه من الإعلان عن عزمه على قتله، ما يعني أنَّه كان لا يتقن أساليب الإخفاء لما في قلبه من خلال السذاجة الفكريّة والعمليّة، فلم تكن له أيّة معرفة بوسائل اللف والدوران الّتي تمثل الحيل الخفيّة في الإيقاع بالآخر: {قَالَ لاََقْتُلَنَّكَ} لأنَّك أصبحت تُمثِّل الرمز الأفضل لأكون ـ أنا ـ في موقع الرفض والإهمال من قِبَل الله، وإني لا أطيق ذلك، ولا أتحمل رؤيتك تتحرك في الحياة في فضائلك الأخلاقيّة والروحيّة، لأنَّك تذكرني دائماً بهذا الموقف المهين، {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، فلم تكن المسألة في طبيعتها ـ في قبول قرباني ورفض قربانك ـ متعلّقة بالجانب الذاتي في شخصك أو شخصي، بل هي متصلة بالجانب الإيماني في العقل، والجانب العملي في الواقع، فقد سرت على خط التقوى في مراقبتي لله في السرّ والعلن في أموري كلها، وأطعته في أوامره ونواهيه، بينما كنت على النقيض من ذلك، أنانياً لا تفكر إلاَّ بنفسك، خاضعاً لشهواتك، ناسياً لربك، جاهلاً لمقامه، الأمر الَّذي أدّى بك إلى أن تكون علاقتك بالله خارج ذاتك من دون روح ولا إيمان، وهذا هو سرّ المسألة، فالله يتقبّل من المتقين ولا يتقبل من غيرهم، لأنَّ التقوى هي الّتي تقرّب الإنسان إلى ربِّه من خلال تقوى العقل والقلب واللسان والعمل بالجوارح كلها. فلماذا لا تتقي الله في حاضر أمرك ومستقبله؟ فلعلّ ذلك يحقق لك ما تريده من محبة الله لك، فيتقبل قربانك من جديد في أجواء التقوى عندك. و{لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَني} من خلال عقدة الحسد في نفسك التي تدفعك إلى الجريمة بقتل أخيك من دون تفكير بالأخوة الّتي تفرض عليك احترام رابطة الدم الّتي تربطك به، أو بالنتائج السلبيّة في غضب الله الَّذي يزداد عليك عندما تتحول إلى إنسان مجرم قاتل لأخيه من دون ذنب، {مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} فيمنعني ذلك من نيّة الشرّ، لأنَّ الله يبغض الَّذين يفكرون بالشرّ للنّاس، ويحب الَّذين يفكرون بالخير ويعملون له في القريب والبعيد، ولهذا فإنَّ إساءتك إليَّ في كلامك وحسدك لي في نفسك، وإعلانك عن عزمك على قتلي، لا يبرر لي الإقدام على قتلك، فإنَّ الله لم يأذن لي بذلك، وهذا ما يؤدي بي إلى الامتناع عن كل ما يجلب لي سخطه ويعرّضني لعذابه، {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وذلك جَزَآءُ الظَّالِمِينَ}، إنَّني لا أريد تحمّل الإثم بقتلك، فلن أقتلك، وإذا كنت أنت عازماً على قتلي فستتحمل الإثم في ذلك كما تتحمل مسؤوليّة آثامك الأخرى الّتي لا علاقة لها بموقفك مني، وبذلك تكون في أصحاب النَّار الّتي هي العقاب الإلهي للذين يظلمون النَّاس بغير الحقّ، بأي نوعٍ من أنواع البغي والعدوان.

* * *

لا استسلامية هابيل لقابيل

 وفي ضوء هذا التفسير، فإنَّ هابيل لم ينطلق من إرادة الاستسلام لأخيه ليقع أخوه في الإثم الَّذي يعرضه لدخول النَّار، لأنَّ ذلك يشفي غيظه منه حتَّى لو كان ذلك على حساب حياته، بل انطلق من المبدأ في رفض إقدامه على الاعتداء عليه الَّذي يجعل القضيّة في ساحة حركة قابيل الَّذي سوف يرجع بإثم أخيه وإثمه هو إذا بقي على عزمه في قتل أخيه، فلم تكن الإرادة لدى هابيل في موقع الإيجاب، لأنَّه ليس بالإنسان المعقّد الَّذي يُفكِر بتحريض أخيه على قتله ليلاقي جزاء عمله، فذلك ما لا يمكن أن يفكر به عاقل فضلاً عن المؤمن الواعي، بل كانت الإرادة من موقع السلب بمعنى عدم إرادة قتله لقابيل ما يجعل المبادرة في اختيار أخيه.

 ولم تكن المسألة استسلاماً، لأنَّ الآية لا توحي بأنَّ حركة القتل كانت سريعة بحيث بادر قابيل إلى قتل هابيل غدراً، بل الظاهر من الآية التالية أنَّ القضيّة أخذت وقتاً ـ طويلاً أو قصيراً ـ من التفكير حتَّى قادته نفسه الأمارة بالسوء إلى القيام بالجريمة في غفلةٍ من هابيل. هذا في جانب ، وفي جانب آخر، فإنَّه ليس في كلام هابيل لأخيه قابيل ما يفيد الاستسلام، سواء لنيّة أو فعل القتل لديه، فهو لم يقل له إنَّك إن أردت قتلي سأسهّل عليك الأمر وأضع نفسي في تصرفك، بحيث لا أدافع عن نفسي، ولا أتّقي القتل، وإنَّما قال: «ما كنت لأقتلك..» كما لم يقل: إني أرغب بأن تقتلني لتكون من الظالمين، لأنَّ هذا من قبيل التسبيب بضلال الآخر وشقائه، وهو من الظلم والضلال سواء في ناموس الفطرة، أو في أحكام الشرع، وإنَّما قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} ذلك على تقدير بسطك يدك لي لتقتلني. فحصيلة تقدير الأمر هنا هو دورانه بين أن يقوم هابيل بقتل أخيه فيكون هو الظالم الحامل للإثم الداخل في النَّار، أو يقتله أخوه فيكون هذا مصيره.. فمع دوران الأمر بين هذين الاختيارين، كان اختيار هابيل أن يكون مقتولاً على أن يكون قاتلاً مأثوماً ظالماً داخلاً في النَّار.

 وفي مطلق الأحوال لقد كان الحوار بينهما يتحرك في دائرة الحادثة القربانيّة على مستوى تهديد هذا بقتله ورفض ذاك القيام برد الفعل في هذا الاتجاه، ما جعل الحديث عن الإثم في القتل أمراً طبيعياً في أسلوب الحوار.

*  * *

إغراءات القتل

 {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} ليس المراد هنا أن طوّعت متضمنة لمعنى انقادت أو سوّلت، بل إنَّ التطويع يدل على التّدريج، كما تدل الإطاعة على الدفعة، كما هو الغالب في بابي الإفعال والتفعيل. فالتّطويع في الآية اقتراب تدريجي للنفس من الفعل بوسوسةٍ بعد وسوسة، وهمامة بعد همامة، تنقاد لها حتّى تتمّ لها الطاعة الكاملة. فالمعنى: انقادت له نفسه، وأطاعت أمره إياها بقتل أخيه طاعة تدريجيّة، فقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} من قبيل وضع المأمور به موضع الأمر، كقولهم: أطاع كذا في موضع: أطاع الأمر بكذا.

 وأمَّا ما ذهب إليه الكشاف من أنَّ معنى «طوّعت له نفسه»: «وسعته له ويسرته من طاع له المرتع إذا اتسع»[3]، إنَّما يندرج في سياق ما تقدم، لأنَّ التوسعة والتيسير إنَّما يتمّان من خلال الأفكار الّتي توحي بها النفس الأمارة بالسوء، فتسهّل له قتل أخيه بإبعاد المعوّقات الّتي تمنعه، وتهيئة الوسائل الّتي تقربه إلى ذلك، والإيحاء ببعض النتائج الإيجابيّة على مستوى الواقع النفسي والاجتماعي الّتي توحي له بما يُمكن أن يحققه من الراحة النفسيَّة والميزة الاجتماعيّة في ذلك. وهذا هو ما تقوم به النفس في غرائزها ومشتهياتها وتعقيداتها وأوضاعها الداخليّة في توجيه الإنسان إلى الشر، {فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} لأنه خسر الدنيا إذ خسر أخاه، ولم يحقق لنفسه ما تريده على مستوى تمنياته وأوضاعه، وخسر الآخرة لأنَّه استحق بقتله لأخيه عذاب النّار من خلال غضب الله عليه.

 ومن الطريف ما نقله صاحب مجمع البيان عن استدلال بعضهم بقوله: {فَأَصْبَحَ} على أنَّه قتله ليلاً، وردّه بأنَّه «ليس بشيء، لأنَّ من عادة العرب أن يقولوا: أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمراً كانت ثمرته الخسران، يعنون حصوله كذلك لا أنَّه تعلق بوقت دون وقت»[4].

* * *

منزلة الحس والتجربة في نظر القرآن

 {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض} أي يحفر فيها كأنَّه يطلب شيئاً في أعماقها، {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءة أَخِيهِ} أي عورته، كنايةً عمّا يمكن أن يتحوّل له أخوه، فيكون جيفة نتنة، أو يمكن أن يكون طعمةً للسباع، فيكره ذلك له.

 والظاهر من الآية أنَّ قابيل كان ساذجاً في معرفته للأشياء من خلال فقدان التجربة العمليّة الّتي يعرف بها خصائص الأمور، وعدم وجود أيّة وسائل تعليميّةٍ أخرى لما يتصرّف به الإنسان في قضاياه الخاصة، وربَّما توحي بعض كلمات المفسرين بأنَّ هابيل كان أوّل ميّتٍ من النّاس، فلم يُعهد في واقع ذلك المجتمع الصغير أيّة تجربةٍ مماثلةٍ سابقة، ليعرف قابيل ـ من خلالها ـ كيف يتعامل مع هذا الحدث الجديد، إلى أن بعث الله الغراب ليقوم بتجربة حفر الأرض ثُمَّ العودة إلى طمر الحفرة بالتراب من جديد، في الوقت الَّذي كان قابيل يتابع عمل الغراب. وقد ذكر بعض المفسرين ؛ اجتهاداً وتفسيراً أو رواية، أنَّ الله بعث غرابين أحدهما حيّ والآخر ميّت، أو كانا حيين فقتل أحدهما صاحبه، ثُمَّ بحث الأرض ودفنه فيها.

 فقد جاء في الرواية العامة ـ كما يقول صاحب مجمع البيان ـ عن جعفر الصادق)ع(  قال: «قتل قابيل هابيل وتركه بالعراء لا يدري ما يصنع به، فقصده السباع، فحمله في جراب على ظهره حتّى أروح[5] ، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، ثُمَّ حفر له بمنقاره وبرجله، ثُمَّ ألقاه في الحفيرة وواراه، وقابيل ينظر إليه فدفن أخاه»[6] . فإذا صحت هذه الرِّواية، فإنَّها تدل على أنَّ المسألة كانت تعليماً إلهياً من خلال الإلهام للغراب حتَّى يفعل ذلك مما لم يكن معتاداً للطيور، وربَّما يؤيد ذلك ما يمكن استفادته من قوله تعالى: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءة أَخي} أي كما وارى هذا الغراب سوءة الغراب الآخر، ولكن جاء في بعض كتب التفسير أنَّ الغراب من بين الطير من عادته أنَّه يدخر بعض ما اصطاد لنفسه بدفنه في الأرض، وبعض ما يقتات بالحب ونحوه من الطير، وربَّما بحث في الأرض للحصول على مثل الحبوب والديدان لا للدفن والادخار. والله العالم.

 وفي مطلق الأحوال، لقد عرف قابيل ـ من خلال تجربة الغراب ـ كيفيّة حفر الأرض وطمرها بالتراب، ما جعله ينفتح على فكرة الدفن الَّذي يحفظ به جثة أخيه من السباع، أو من التحوّل إلى جيفةٍ نتنة، وهكذا: {قَالَ يَـوَيْلَتَا} في تعبير عن الإحساس بالفضيحة أو بالهلاك. {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ} الصغير الحجم الَّذي يعرف ما لا أعرف، ويتصرف بدرايةٍ وخبرةٍ في إدارة أموره، وأنا العاجز عن القيام بمثل هذا الأمر البسيط الَّذي لا يحتاج إلى المزيد من المعرفة، أو الكثير من التفكير؟ {فَأُوَارِيَ سَوْءة أخي} وأدفنه في التراب لحمايته من السباع أو ظهور رائحته النتنة، {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} على جريمته بعد انفصاله عن الجو الانفعالي الذي عاش فيه من خلال تأثير عقدة الحسد عليه في قتل أخيه ظلماً وعدواناً من دون أيّ ذنبٍ جناه ضدّه، الأمر الذي جعله يستعيد طبيعة عمله من خلال كل النتائج السلبيّة الحاصلة من ذلك كله على مستوى الدنيا والآخرة. وربَّما كان الندم خوفاً من افتضاح أمره لدى أهله أو نحو ذلك.

 وهكذا استطاع قابيل تعلّم طريقة الدّفن من التجربة الحسيّة للغراب، ليكون ذلك منهجاً للمعرفة بواسطة الحواسّ مما يشاهده الإنسان من فعل المخلوقات الأخرى، أو مما يسمعه أو يلمسه أو يشمه أو يذوقه، ليكون ذلك سبيلاً لحركة الإدراك في إنتاج المعرفة، ليستخدم ذلك في الحصول على أغراضه وحاجاته الحيويّة في الدنيا، فإنَّ للحسّ دوراً كبيراً في عمليّة البحث العلمي، باعتبار أنَّ الحواس تزوّد الفكر بالمواد الخام الّتي يستعملها في حركته الفكريّة.

 وهذا ما يؤكده المنهج القرآني للمعرفة، فلا يقتصر على الطريقة العقليّة الّتي تعتمد على التأمل والاستنتاج العقلي، بل يمتد إلى الطريقة العلميّة التجريبيّة الّتي تتحرك من خلال الحسّ الَّذي يجمع للإنسان كل مشاهداته ومسموعاته وملموساته ومشموماته ومذوقاته ليحركها في اتجاه الإنتاج العقلي للفكرة العامة.

 وهذا ما ينطلق من خلال الواقع الإنساني في أفكاره التجريديّة العقليّة الّتي لا علاقة لها بالحسّ، وفي نظرياته التجريبيّة الّتي تنطلق من الحسّ إلى العقل، فلا صحة للّذين ينكرون العقل، ولا للّذين ينكرون التجربة في المعرفة.

*  *  *

كيف نستوحي القصة؟

 إنَّ هذه القصة القصيرة الّتي رواها القرآن لنا في إطار الحوار القصير، تجسّد لنا الصورة الحيّة لشخصيتي الإنسان الشرير والخيّر، لتربطنا بفكرة الخير وتبعدنا عن فكرة الشر، في موقف يوحي ـ للناظر والمستمع ـ بفظاعة موقف ذاك إزاء روعة موقف هذا، حيث نرى الجريمة خالية من كل مبرراتها وحيثياتها العادلة الّتي تجعل منها عملاً عادلاً، لأنَّها نشأت من حالة نفسيّة معقّدة بالحسد، إذ ليس للضحيّة فيها أي ذنب، بل نجد ـ في جو الآية ـ أنَّ الضحيّة لم تحاول أن تجعل من قبول قربانها ورفض قربان المجرم لها أساساً لأي تصرّف استعراضي يسيء إلى كرامته، بالشكل الَّذي يتبعه الرابحون أمام الخاسرين، لأنَّ خُلُق الأخ المؤمن كان بعيداً عن ذلك كل البعد.

 ولعلّ قيمة هذه القصة، أو بالأحرى عرض القرآن لهذه القصة، تتمثَّل في ما تخلقه في نفس القارىء أو السامع من تأثير نفسيٍّ ضد الجريمة والمجرم، وتعاطفٍ روحيٍّ مع الضحيّة، ما يترك آثاره على السلوك الإنساني العام في ما يريد أن يقدم عليه من عمل، أو يحكم عليه من أعمال الآخرين.

 أمَّا نحن، فنستطيع الاستفادة منها في مجالين:

 1 ـ المجال التربوي، الَّذي يعتبر القصة وسيلةً حيّةً للإيضاح عندما تتحول إلى عمل مسرحيٍّ أو ما يشبه ذلك، وأسلوباً من أساليب التوجيه والتربية، فقد نجد من الخير لنا، أن نجعلها إحدى القصص الدينية التربوية الّتي نقدمها للأطفال أو للشباب، بالأسلوب الَّذي يتناسب مع ذهنياتهم في عمليّةٍ تصويريّةٍ حيّة بالكلمة أو الصورة أو التمثيل.

في عمليّةٍ تصويريّةٍ حيّة بالكلمة أو الصورة أو التمثيل.

 2 ـ استيحاء هذه القصة في وضع قصصٍ متنوعةٍ قريبةٍ إلى مثل هذه الأجواء لتعالج قضيّة الجريمة والمجرم، في أيِّ جانب من جوانبها، سواءٌ منها الَّذي يتمثل بالقتل، أو بالسرقة، أو بالزنى، أو بالظلم والاعتداء على النّاس بشكلٍ عام، لأنَّ دور الأسلوب القرآني هو دور تخطيط المنهج التربوي ليسير عليه الآخرون في حركة اتِّباع أو استيحاءٍ وإبداع، لنكفل للعمل الإسلامي التربوي أن يعيش في أجواء القرآن فكرةً وأسلوباً، مستوحياً أفكاره وأساليبه في حركة العمل وفي فكره وأسلوبه.

ــــــــــــــ

(1) البحار، ج:101، باب:36، ص:377، رواية:42.

(2) تفسير الميزان، ج:5، ص:325.

(3) تفسير الكشاف، ج:1، ص:608.

(4) مجمع البيان، ج:3، ص:231.

(5) أروح: أنتن.

(6) مجمع البيان، ج:3، ص:232.