من الآية 41الى الآية 43
الآيـات
{يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْي وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ* سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَمَآ أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}(41ـ43).
* * *
معاني المفردات
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}: أي قابلون له، يُقال: لا تستمع من فلان قوله، أي: لا تقبل، ومنه: سمع الله لمن حمده: أي تقبل الله منه حمده، وفيه وجه آخر ـ كما في مجمع البيان ـ وهو أنَّ معناه أنَّهم يسمعون منك ليكذبوا عليك[1].
{سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ}: قيل معناه: سمَّاعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وجّهوهم عيوناً ليبلّغوهم ما سمعوا منهم.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ}: يميلونه ويزيلونه.
{فِتْنَتَهُ}: الفتنة: الاختبار، وأصله التخليص، من قولهم: فتنت الذهب في النَّار، أي خلصته من الغش.
{لِلسُّحْتِ}: الحرام، وأصل السُّحت الاستئصال يُقال: سحته وأسحته: أي استأصله. ويُقال للحالف: أسحت أي استأصل، وأسحت ماله: أفسده وأذهبه. ولعلَّ إطلاق السُّحت على الحرام لأنَّه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال، أو لأنَّه يعقب عذاب الاستئصال والبوار.
{فَاحْكُم بَيْنَهُم}: الحكم هو فصل الأمر على وجه الحكمة في ما يفعل به، وقد يفصل به لبيان أنَّه الحق، وقد يفصل بإلزام الحق والأخذ به، كما يفصل الحاكم بين الخصوم بما يقطع الخصومة ويثبت القضيّة.
{يَتَوَلَّوْنَ}: الانصراف عن الشيء. والتولّي عن الحق: الترك له، وهو خلاف التولّي إليه لأنَّه الإقبال عليه، والتولّي له: صرف النصرة والمعونة إليه.
* * *
القرآن والتصدي الواقعي لظاهرة النفاق
وهذه صورةٌ حيّةٌ من صور البلبلة الّتي كانت تسود مجتمع المدينة، بفعل ما كان يثيره المنافقون واليهود من مشاكل وأزمات داخل المجتمع الإسلاميّ، ممّا أثقل قلب النبيّ(ص) حزناً وقلقاً وألماً رسالياً إلى أقصى الحدود، فهموم النبوة لا يمكن فصلها عن هموم الرسالة، لأنَّ الهم الشخصي والذاتي للنبوة يذوب في الهم الرسالي، لدرجة أنَّه لا يمكن تفكيك أحدهما عن الآخر. فالنبيّ في كل حركاته ومواقفه وتطلعاته، في كل آماله وأشواقه، في كل آلامه وأحزانه.. في حضوره التاريخي، إنَّما يفعل وينفعل بانفعالات فعل الرسالة الّتي يحملها. فعلى صعيد النبوّة ثمّة تماهٍ مطلق بين ذات النبيّ ورسالته. ولعلّ هنا بالتحديد يكمن سر العصمة ومرتكزها. ولذا جاءت هذه الآيات لتؤكد للنبي(ص) الثقة بالمستقبل وبالهيمنة الرسالية، إذ قضى الله بذلك، حتَّى يكون الإسلام في موقع القوّة، ويكون المنافقون في موقف الضعف.
ولكن من هم هؤلاء؟ وما قصة هذا الجو الَّذي أرادوا خلق البلبلة من خلاله؟ وكيف واجه القرآن الموقف في ما أراد الله لنبيّه أن يواجههم به؟ إنَّهم {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} بالرسالة والرسول(ص)، والَّذين قد يتمادون بكفرهم فيسيرون إليه بخطوات واسعة، وذلك بإنكارهم وجحدهم للخالق تبارك وتعالى، فهم لم يؤتوا أنفسهم فرصةً للتّأمل والتفكر، ليكون موقفهم موقف الفكر المتأمّل، إذ القضيّة عندهم ليست قضيّة مواجهة المصير بقناعةٍ واطمئنان، بل هي أن يحرّكوا عقدتهم أو حقدهم أو نفاقهم الَّذي انطلقوا به ضدّ الإسلام والمسلمين، فهم {مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} وذلك رغبة أو رهبة أو تآمراً، {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} وهم المنافقون، {وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ} الَّذين عاشوا في تاريخهم الأسود كل ظلمات الجريمة والتآمر على رسالات الله ورسله(ع)، هؤلاء الَّذين كانوا يمثلون التحالف الأسود ضد الرسول(ص) ورسالته.
إنَّهم {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} احترفوه ممارسة، وانسجموا معه كأسلوب عمل، وأصغوا إليه بمسامع قلوبهم، فهم يقبلون على كل كلمة كذب، لأنَّها تمثل أداة التزييف للتصور وللموقف في حياة النَّاس. وذلك هو السبيل الَّذي تنجح معه مخططاتهم الشيطانيّة، وهم {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} لم يأتوا الرسول(ص) ولم يجلسوا إليه، ممن {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} فهم يريدون من النبي(ص) أن يسير وفق أحكامهم وتطلّعاتهم الباطلة، فإن فعل فلا مانع من الانسجام معه، أمَّا إذا عاش مسؤوليته كرسولٍ ٍيحكم بالحق والعدل، فلم يستجب لتصوراتهم المنحرفة ولأحكامهم المحرّفة، فإنهم يحذّرون أصحابهم ليبتعدوا ويتمرّدوا ويثيروا الضوضاء أمام حكم الله!
* * *
لا سبيل إلى هداية من لم يأخذ بأسباب الهداية
ويُتابع القرآن الصورة بطريقة استطراديّة، للإيحاء للنبيّ(ص) بأنَّ عقدتهم ليست هي العقدة القابلة للحل، بل هي العقدة المستعصية الّتي انطلقت من الرفض الذاتي الراقد في أعماقهم، لأنَّهم لم يأخذوا بأسباب الهدى، بل أغلقوا قلوبهم عن وعي الحق، وعن الدخول في حوار فكري من أجله، وأصمّوا أسماعهم عن سماع آيات الله، وأغمضوا عيونهم عن مشاهدة دلائل الله في خلقه، فسقطوا في امتحان التجربة الصعبة، فحقت عليهم كلمة الله من خلال الربط بين الأسباب والمسببات، فمن يأخذ بأسباب الكفر ويبتعد عن أسباب الهدى، فإنَّ إرادة الله تفرض نفسها في حصول النتائج السلبيّة، وذلك قوله تعالى: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} والظاهر أنَّ المراد منها ـ بقرينة المورد ـ فتنة الإنسان عن طريق الحق، وذلك بإدخاله في التجربة الصعبة الّتي يؤدي انحرافه عن سبيل الحق معها إلى السقوط في مهاوي الضلال. وعلى ضوء هذا، يكون معنى {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أنَّه لا يستطيع هدايته لعدم توفر أسباب الهداية لديه. والله العالم.
ويتابع القرآن الفكرة في إعطاء الصورة الحقيقيّة لهؤلاء، فهم {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} لأنَّهم لم يأخذوا بأسباب الطهارة، في ما أنزله الله من آيات وما منحهم من فرص وخلقه لهم من أجواء، لذا كان {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ}. ثُمَّ يكرر صفتهم الأولى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} لأنَّها هي الّتي تؤدي بهم إلى الانحراف والضياع والضلال، ويضيف إليها صفةً ثانية، {أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ} وهو الحرام، فهم يستبيحون كل شيء في سبيل مطامعهم وشهواتهم من دون التوقف على طبيعة الشيء الشرعيّة من حيث هو حلال أو حرام. تلك هي بعض ملامحهم الذاتيّة والعمليّة الّتي أراد الله من خلالها إعطاء النموذج الحي لهؤلاء النَّاس، ليكون المؤمنون في وضوح من الرؤية، عندما يلتقون في مراحل العمل بأمثالهم ليعرفوا كيف يتعاملون معهم، وكيف يجتنبون شرّهم.
أمّا قصة هذا الجو، فينقلها المفسرون في أسباب النزول كما جاء في مجمع البيان عن الباقر(ع) في تفسير هذه الآية، أن امرأةً من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم وهما محصنان، فكرهوا رجمهما، فأرسلوا إلى يهود المدينة وكتبوا إليهم أن يسألوا النبي عن ذلك طمعاً في أن يأتي لهم برخصة، فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد وشعبة بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم، فقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما؟ فقال: وهل ترضون بقضائي في ذلك؟ قالوا: نعم، فنزل جبرائيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به. فقال جبرائيل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، ووصفه له، فقال النبي: هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدكاً يقال له ابن صوريا؟ قالوا: نعم، قال: فأيّ رجل هو فيكم؟ قالوا: أعلم يهوديّ بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى، قال: فأرسلوا إليه، ففعلوا، فأتاهم عبد الله بن صوريا، فقال له النبي: إني أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى، وفلق لكم البحر، وأنجاكم وأغرق آل فرعون، وظلَّل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المنَّ والسلوى، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟ قال ابن صوريا: نعم، والذي ذكرتني به لولا خشية أن يحرقني ربُّ التوراة إن كذبت أو غيَّرت ما اعترفت لك، ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم، قال ابن صوريا: هكذا أنزل الله في التوراة على موسى، فقال له النبي: فماذا كان أول ما ترخصتم به أمر الله، قال: كنا إذا زنى الشريف تركناه وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا، فلم نرجمه ثم زنى رجل آخر، فأراد الملك رجمه، فقال له قومه: لا حتى ترجم فلاناً، يعنون ابن عمه، فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم يكون على الشريف والوضيع، فوضعنا الجلد والتحميم، وهو أن يجلد أربعين جلدة ثم يسوّد وجوههما ثم يحملان على حمارين ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما، فجعلوا هذا مكان الرجم، فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به وما كنت لما أتينا عليك بأهل ولكنّك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك، فقال: إنه أنشدني بالتوراة ولولا ذلك لما أخبرته به، فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجده وقال: أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأنزل الله فيه: {يَـأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عن كَثِيرٍ} فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثم قال: هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه، فأعرض النبي عن ذلك، ثم سأله ابن صوريا عن نومه فقال: تنام عيناي ولا ينام قلبي، فقال: صدقت، وأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه أمه شيء أو بأمه ليس فيه من شبه أبيه شيء، فقال: أيهما علا وسبق ماء صاحبه كان الشبه له، قال: قد صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منه، قال: فأغمي على رسول الله طويلاً ثم خلي عنه محمرّاً وجهه يفيض عرقاً، فقال: اللحم والدم والظفر والشحم للمرأة، والعظم والعصب والعروق للرجل، قال له: صدقت أمرك أمر نبي، فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال: يا محمد من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبرائيل، قال: صفه لي، فوصفه النبي(ص)، فقال: أشهد أنه في التوراة كما قلت وأنك رسول الله حقاً. فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه، فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريضة ببني النضير، فقالوا: يا محمد أخواننا بنو النضير، أبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد، إذا قتلوا منّا قتيلاً لم يُقد وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر، وإذا قتلنا منهم قتيلاً قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منّا وبالرجل منهم رجلين منا وبالعبد الحر منا وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم، فأنزل الله في الرجم والقصاص الآيات[2].
* * *
وإن حكمت فاحكم بالعدل
وإنَّنا نرى من خلال هذه القصة ـ الّتي اختلف المفسرون في بعض تفاصيلها ـ رجوع اليهود إلى الرسول(ص) ليتفادوا حكم التوراة بالرجم للزاني والزانية المحصنين، وذلك لتعارض هذا الحكم مع أوضاعهم الاجتماعية القائمة على الطبقيّة المقدسة أكثر من تقديسهم لحكم الله تعالى، وقد أجاز الله لرسوله بالحكم فيما بينهم أو الإعراض عنهم، {فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وذلك من أجل ملاحظة بعض الاعتبارات السلبيّة في هذه القضيّة أو غيرها، {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} لأنَّهم لم يكونوا بصدد الانسجام مع الخط الَّذي يريدهم أن يسيروا عليه. {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} أي بالعدل، الَّذي هو حكم الله الَّذي لا يتغير في التوراة، أو القرآن، و {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الَّذين يحكمون بالعدل، بعيداً عن الاعتبارات الشخصيّة والاجتماعية.
{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَما أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}. يستنكر القرآن لجوء هؤلاء إلى تحكيم الرسول1 الَّذي لا يؤمنون به، وهم يعرفون أنَّه الحكم الَّذي جاءت به التوراة، وهو حكم الله الَّذي لا يتغير ولا يتبدل مهما تغيرت الرسالات واختلف الرسل، لأنَّه الحكم الَّذي ينطلق من مصلحة الإنسان الحقيقيّة الَّتي لا يدخل في حسابها اختلاف الزمان والمكان، ثُمَّ يتولون بعد ذلك عن حكم الله ويعرضون عنه، وهذه نقطة سلبيّة يسجلها القرآن عليهم ليقدّم للمسلمين الصورة القلقة الّتي تُمثِّل واقع هؤلاء الَّذين آثروا الدنيا باسم التوراة، ليحصلوا على المواقع المتقدمة في حياة النَّاس باسمها، ولكنَّهم كانوا أوّل من يتنكر لحكم التوراة عندما اختلفت مصالحهم وأطماعهم معه.
* * *
ماذا نستوحي من هذه الآيات؟
إنَّنا نستوحي من هذه الآيات بضع نقاط:
أولاً: الانطلاق من مواقع هذه الآية، الّتي لم ترد أن تتوقف عند هذه الحادثة، إلى المواقع المماثلة لها، وفي ضوء ذلك يمكن لنا أن نرصد هذه النماذج في الكثير من الفئات الّتي لا تقف مع خط الصدق في حياتها وحياة الآخرين، بل تعمل على ممارسة الكذب في سلوكها وسلوك الآخرين، فهي تكذب وتستمع للكاذبين، ولا تتوقف عند حدود الله في حلاله وحرامه، بل تتجاوزها، فتأكل الحرام بطريقة الّلامبالاة أو التمرد، وقد يدفعها هذا الموقف إلى التذبذب والارتباك في المواقف، فإذا رأت هناك حالةً ضاغطةً على مصالحها من خلال التطبيق الدقيق لما تؤمن به من شريعةٍ أو تسير عليه من قانون، انحرفت عنه إلى شريعةٍ أخرى وقانونٍ آخر، لأنَّ القضيّة عندها ليست قضيّة حماية المبادىء من الاهتزاز والانحراف، بل قضيّة حماية المصالح من الضياع، ما يجعل حياتها مسرحاً لأكثر من شريعةٍ وقانون، مهما اختلفت قواعدها الفكرية والتشريعيّة، الأمر الَّذي يبعد المجتمع عن الاستقرار والاطمئنان.
ثانياً: وقد نستطيع استيحاء هذه الآيات في التأكيد على قيمة الصدق والالتزام بالحلول، في الاستقامة على الخط السليم في جانب العقيدة والعمل، وذلك من خلال ما يفرضه على الإنسان من التوازن والتماسك والاتزان، ليكون الأساس عنده رضى الله في ما يريده من مصلحة الإنسان العامّة بعيداً عن كل المحاور الشخصيّة والفئويّة، ما يجعله يواجه الآخرين من خلال هذا الموقع في ما يتحدثون به ويدعونه إليه من موقف، فلا يسمع للكاذبين، ولا يصغي للخائنين الَّذين يحرّفون الكلم عن مواضعه، ولا ينطلق في عملٍ أو معاملة إلاَّ إذا عرف أنَّه مما أحلّه الله لعباده. وبذلك ينطلق الإنسان من قاعدة الرسالة في قيمها الأصيلة، لا من موقع المزاج في شهواته المضطربة.
ثالثاً: إنَّ الآيات الكريمة، في قوله تعالى: {وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} توحي بأنَّ الشرائع الإلهيّة تتداخل في أحكامها، كما تتداخل في مفاهيمها، فليس هناك تعارضٌ واختلافٌ بين الرسالات، إلاَّ في ما كانت حيثياته خاضعةً لزمانٍ أو مكانٍ معينين، وهذا ما ينسخه الله في ما ينسخه من أحكامه، أمَّا الَّذي ينطلق من حالة الإنسانيّة في عمقها الإنساني بعيداً عن الزمن، فهو الحكم الثابت الَّذي يتحرك مع الرسالات ليمثِّل استمرار الشريعة وامتدادها مع كل الأنبياء. وفي هذا الجو، يمكن أن نواجه الحوار حول الأديان، وذلك بالروحيّة الّتي تعيش في داخل المؤمنين لتوحي لهم بأنَّ هناك أكثر من موطن لقاء بإزاء ما يخيّل إليهم من مواطن الخلاف. وإذا كان القرآن قد تحدَّث إلينا بأنَّ هناك تحريفاً في التوراة من قِبَل أهلها الَّذين ينتسبون إليها، فقد انطلق الحديث عن قضايا خاصة، أمَّا في غير ذلك، فإنَّ القرآن قد صرّح بأنَّها الكتاب الَّذي يلتقي بالقرآن في أكثر الأحكام والمفاهيم. وقد كان الرسول(ص) يحتج عليهم بالتوراة في مجال إثبات حكم الله الحق الَّذي يلتقي فيه القرآن بالتوراة.
رابعاً: إنَّ بداية هذه الآيات الّتي أكدت على الرسول(ص) بأن لا يحزن من خطوات هؤلاء الَّذي يسارعون في الكفر من المنافقين واليهود وغيرهم، توحي بأنَّ على الداعية لله، العامل في سبيله، أن لا يتعقد أو يشعر بالانسحاق إزاء الحالات الضاغطة التي تواجهه في خطوات الكفر والنفاق، بل عليه العمل على تفريغ نفسيته من كل الانفعالات السلبيّة ليواجه الموقف بالتخطيط العملي الَّذي يرصد السلبيات، ليتعامل معها بروح التحدي الَّذي يحولها إلى إيجابياتٍ عمليّة لمصلحة الدعوة والعمل الرسالي، فلا مجال للحزن الذاتي في حركة الداعية إلى الله، لأنَّه لا يعيش الأجواء الذاتيّة المجرّدة في حياته، لأنَّ كل حياته للعمل، وكل خطواته للعمل، فهي حركة في صعيد الواقع، لا حالة في داخل الذات.
* * *
هل يجوز تحاكم غير المسلم عند القاضي المسلم؟
هذا وقد أثار المفسرون والفقهاء مسألة وظيفة القاضي المسلم في النظام الإسلامي إذا تحاكم لديه شخصان من غير المسلمين، فهل يجب عليه أن يحكم بينهما، أو لا يجب عليه ذلك تعييناً، بل هو مخيّرٌ بين قبول الدعوى والنظر في تفاصيلها، وبين الإعراض عنها وترك قبوله الدعوى بحسب ما يراه من المصلحة في خصوصيّة القضيّة، أو في أصل موضوع الحكم في طبيعته؟
وقد ذكروا اتفاق الفقهاء على أنَّ غير الذمّيين إذا تخاصما لدى القاضي المسلم، فللحاكم الخيار بين الرفض للدعوى أو قبولها تبعاً لما يراه من المصلحة من خلال النتائج السلبيّة أو الإيجابيّة على الصعيد العام أو الخاص.
أمَّا إذا كان المتخاصمون من أهل الذمة، فقال علماء أهل السنَّة بأنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم إذا تحاكموا إليه، لكن في رأي مالك وأبي حنيفة ومحمَّد بن الحسن: لا يحدّ الذميون حدّ الزنى. ورأى الشافعي وأبو يوسف: أنهم يحدّون إن أتوا راضين بحكمنا.
وذهب أبو حنيفة والنجفي وعمر بن عبد العزيز إلى أن التخيير المذكور في الآية منسوخ بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِما أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وأنَّ على الحاكم أن يحكم بين أهل الذمة. وهو رأي ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة.
وقال فقهاء الشيعة الإمامية: بل هو مخيّر إن شاء حكم وإن شاء رفض. ولم يثبت نسخ الآية بالآية المذكورة، أمّا إذا كان أحد المتحاكمين مسلماً والآخر غير مسلم، فيجب على الحاكم قبول الدعوى.
ولا بُدَّ في حالة قبول الدعوى في جميع الحالات، من الحكم بالعدل بما أنزل الله، وربَّما يخطر في البال أنَّ المسألة قد تأخذ ـ في بعض المراحل ـ بعداً كبيراً في مصلحة النظام الإسلامي في نطاق الدولة الإسلاميّة من المسلمين وغير المسلمين، حيث تفرض المصلحة العليا عدم التفرقة بينهم.
وقد تكون المصلحة ـ في بعض الحالات ـ إعطاء أهل الذمة أو المعاهدين الحرية في أن يكون لهم نظامٌ خاصٌ في القضاء بحسب ما يدينون به، لأنَّ ذلك أقرب إلى تحقيق الحل للمشاكل من خلال اقتناعهم بالأحكام الصادرة عن مرجعياتهم.
إنَّ التخيير بين القبول والرفض قد يوحي ببعض ذلك في الحالة الجزئيّة الواحدة، أو في الحالات الكليّة مما قد يجد فيه ولي الأمر الفرصة الشرعيّة لإدارة الأمور بالطريقة المناسبة والمتناسبة مع المصلحة الإسلاميّة العليا.
ـــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:3، ص:242.
(2) مجمع البيان، ج:3، ص:242 ـ 244.
تفسير القرآن