تفسير القرآن
المائدة / من الآية 44 إلى الآية 50

 من الآية 44 الى الآية 50

الآيــات  

{إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحبار بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شهداء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِـآيَاتي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ والأذن بالأذن وَالسِّنَّ بالسِنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِما أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * وَقَفَّيْنَا عَلَى آثارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ في مَا آتاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(44ـ50).

* * *

معاني المفردات

{وَالرَّبَّانِيُّونَ}: جمع رباني نسبة إلى الرب، أي يرضي الرب بأقواله وأفعاله، وهم العلماء البصراء بسياسة الأمور وتدبير النَّاس.

{وَالأحبار}: جمع حبر، وهو العالم، مشتق من التحبير وهو التحسين، فالعالم يحسّن الحسن ويقبّح القبيح. قال الفراء: أكثر ما سمعت فيه حِبر بالكسر[1].

{وَقَفَّيْنَا}: القفو اتباع الأثر يُقال: قفاه يقفوه. والتقفية: الاتباع، يقال: قفيته بكذا: أي أتبعته، وإنَّما سميت قافية الشعر قافية لأنَّها تتبع الوزن.

{آثارهم} : جمع الأثر، وهو العلم الَّذي يظهر للحس، وآثار القوم ما أبقوا من أعمالهم، والمأثرة المكرمة التي يأثرها الخلف عن السلف لأنَّها علم يظهر فضله للنفس، والأثير الكريم على القوم لأنهم يؤثرونه بالبر. ومنه الإيثار للاختيار، فإنَّها إظهار فضل أحد العملين على الآخر.

{وَمَوْعِظَةً}: الموعظة: هي الزجر عمّا يكرهه الله إلى ما يحبه والتنبيه عليه.

{وَمُهَيْمِناً}: المهيمن على شيء: القائم على شؤونه.

{شِرْعَةً}: الشرعة والشريعة واحدة وهي الطريقة الظاهرة، والشريعة هي الطريقة الّتي توصل منه إلى الماء الَّذي فيه الحياة، فقيل: الشريعة في الدين: الطريق الّتي توصل منه إلى الحياة في النعيم، وهي الأمور الّتي يعبد الله بها من جهة السمع.

{وَمِنْهَاجاً}: المنهاج الطريق الواضح، وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستقيم.

{لِّيَبْلُوَكُمْ}: الابتلاء: الاختبار.

{فَاسْتَبِقُوا}: بادروا.

{يَفْتِنُوكَ}: أي يميلوا بك عن الحق.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول للواحدي، قال ابن عباس: إنَّ جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمَّد عليه الصلاة والسلام، لعلَّنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمَّد، قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم، وأنّا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولن يخالفونا، وإن بيننا وبين القوم خصومةً ونحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى فيهم {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ ما أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[2].

* * *

التوراة والإنجيل والقرآن كتب هدىً ونور

في هذه الآيات حديث تفصيلي عن الرسالات الثلاث، الّتي أرسل الله بها أنبياءه موسى وعيسى ومحمَّد ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ تأكيداً على أنَّ كل واحدة منها هي خط الحقّ الَّذي رسمه الله لعباده، وشرعة العدل الّتي أقامها للحياة، من أجل أن ينفتح النَّاس على الحلول الواقعيّة العادلة لمشاكلهم الّتي يتخبطون فيها. فهي الصورة الحيّة المشرقة لحكم الله الَّذي يريد الله للنَّاس أن يحكموا به في ما يتنازعون فيه من قضايا وأعمال، فليس لهم أن يتجاوزوه إلى غيره، استجابة لأي ضغط داخلي أو خارجي، لأنَّ مصلحتهم في الحياة الدنيا من جهة، وعبوديتهم المطلقة لله من جهة أخرى، تفرض عليهم الالتزام الدقيق به على كل حال، واعتبر الانحراف عنه وعدم الحكم به كفراً وفسقاً وظلماً. وحذّر الأنبياء ـ في عمليّة إيحائية بخطورة القضية ـ من أن يخضعوا للضغوط الّتي يمارسها الآخرون عليهم، لينحرفوا بهم عن الخط المستقيم في إقامة حكم الله بين النَّاس، وأمرهم بأن يعرضوا عن كل من أعرض عن حكم الله، لأنَّ الله هو الَّذي يتكفل بحسابهم في الدنيا والآخرة.

مدخـل عــام

{إِنا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} مما بيّناه من عقائد ومفاهيم وأحكام تهديهم إلى الحقّ وتبعدهم عن الباطل وتنير لهم السبيل إلى المعرفة الحقّة الصافية الّتي لا ظلمة فيها ولا غموض، وتلك هي صفة كتب الله الّتي ينزلها على رسله ليخرجوا النَّاس من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، ولتمثِّل القانون العادل الَّذي يرجعون إليه في كل خلافاتهم ونزاعاتهم في شؤون الحياة العامة والخاصة، وقد أنزل الله التوراة على موسى(ع) هدىً وأنواراً تمتد إلى مدى الزمن في شرائعها الباقية؛ {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} وأذعنوا له وخضعوا لوحيه بكل ما يشتمل عليه ممن جاء من بعد موسى(ع).

{لِلَّذِينَ هَادُواْ} الَّذين آمنوا بموسى(ع) والتزموا بالتوراة كتاباً منزلاً من الله ليفصل بينهم في ما اختلفوا فيه من الحقّ في العقيدة والشريعة، لأنَّ هؤلاء الأنبياء يملكون علم التوراة كما أنزلها الله، فلا يملك اليهود المنحرفون إخفاء ذلك أو تحريف ما فيها من أحكام لمصالحهم الخاصة، لأنَّ الأنبياء يفضحون ذلك بما أعطاهم الله من علم الكتاب.

{وَالرَّبَّانِيُّونَ} وهم العلماء المنقطعون إلى الله علماً وعملاً الَّذين يقومون بمهمة التربية للنَّاس بما يملكون من علم، {وَالأحْبَارُ} وهم الَّذين يملكون الخبرة من علماء اليهود السائرين على خط التوراة، فهؤلاء وأولئك يحكمون بين النَّاس {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ} الَّذي أرادهم الله أن يحفظوه بكل حقائقه من دون تحريف أو تغيير كوديعةٍ مضمونة، {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ} من خلال المعرفة التفصيليّة الّتي يملكونها، والمسؤوليّة الّتي يتحملونها في إبلاغها للنَّاس فلا يكتمونها عنهم، {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} في كتاب الله ورسالته، لأنَّ الله أرادكم أن تأخذوا الكتاب بقوّة، وأن تبلغوا الرسالة بصلابة، فلا تأخذكم في الله لومة لائم، لأنَّ ذلك هو دور رسل الله بما حمّلهم من رسالته، أن يجاهدوا في الله حقّ جهاده بلا خوف ولا وجل، لأنَّ الله ينصر عباده المؤمنين، {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا تستبدلوا ولا تستعيضوا بحيث تبيعون دينكم بالثمن البخس الَّذي لا يسمن ولا يغني من جوع، أو بمالٍ تحصلون عليه أو جاهٍ تصلون إليه، فذلك هو دليل الإيمان بالله ورسالاته، لأنَّ الإيمان ليس مجرد كلمةٍ يقولها المؤمن ويتابع سيره من دون التزام عمليّ، بل هو التزام حركي حاسم يقف فيه الإنسان مع أحكام الله، فلا يقدِّم رجلاً ولا يؤخر أخرى حتَّى يعلم أنَّ في ذلك لله رضى.

* * *

للكافر درجات ومراتب

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} بالمعنى العملي للكفر في إيحاءاته والتزاماته ونتائجه، فإنَّ للكفر درجات ومراتب تبعاً لما في الإيمان من درجات تبدأ من الإيمان القلبي، لتمتد إلى الإعلان عنه باللسان، لتصل ـ في الدرجة العليا ـ إلى الإيمان العملي الَّذي يعمل على تغيير واقع الإنسان من الضلال إلى الهدى، ومن الانحراف إلى الاستقامة، هذا كله إذا كان عدم الحكم بما أنزل الله ناشئاً من حالة الخوف أو من حالة الطمع، أمَّا إذا كان ذلك ناشئاً من إنكار شرعيته وواقعيته أو الاستهانة به من جهة عدم الإيمان بكتاب الله ورسوله، فإنَّه يكون كفراً التزاميّاً يشمل العقل واللسان والحركة.

وهذا هو الخط المستقيم الَّذي لا بُدَّ للدعاة إلى الله من رسل وعلماء ومفكرين أن يلتزموه، وأن يواجهوا بالتالي، كل التحديات الكافرة والضالة والمنحرفة، بالحقائق الإيمانيّة الواضحة بالقوّة الفكريّة والعمليّة، لأنَّ القوّة لا بُدَّ من أن تقابل بمثلها.

* * *

شرعة القصاص في التوراة

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ} أي في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فمن قتل نفساً كان لوليه أن يقتله به قصاصاً، {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} فمن قلع عين شخص كان له أن يقلع عينه، {والأنفَ بالأنف} فمن قطع أنف إنسانٍ كان له الحقّ أن يقطع أنفه، {وَالأذُنَ بِالأذُنِ} فمن قطع لأحدٍ أذنه كان من حقِّه أن يقطع له أذنه، {وَالسِّنَّ بِالسنِّ} فمن قلع سنَّ إنسانٍ فله أن يقلع سنه، {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي ذات قصاص، والمراد به حقّ المقاصة في كل ما يمكن فيه ذلك مما يتحقق فيه المساواة بدقةٍ مثل الشفتين والذكر والأنثيين واليدين والرجلين وغيرهما، ويجري هذا التماثل في القصاص بالجراحات: «الموضحة بالموضحة»، وتسمّى الواضحة من الشجاج التي بلغت العظم فأوضحت عنه، والهاشمة بالهاشمة «الّتي هشمت العظم فتشعب وانتشر وتباين فراشه وهي قشوره الّتي تكون على العظم دون اللحم»، والمنقلة بالمنقلة «الّتي تنقل العظم أي تكسره. ولا قصاص في الضربة المأمومة والجائفة، وهي الّتي تبلغ أم الرأس، والّتي تبلغ الجوف في البدن»، لأنَّ القصاص قد يؤدي إلى هلاك النفس لصعوبة التحديد الدقيق في القصاص.

وجاء في مجمع البيان: «وأمَّا ما لا يمكن القصاص فيه من رضة لحم، أو فكة عظم، أو جراحة يخاف معها التلف، ففيه أروش مقدرة»[3]. وقد أقرَّ الإسلام هذه الشريعة التوراتية[4] التي لا تميز بين النَّاس في القصاص، فالشريف والوضيع سواء أمام القانون، وبالتالي لا طبقية في التشريع الإلهي، ولذا كل من يقترف جريمةً يؤاخذ بمثل عدوانه من دون زيادةٍ أو نقيصة.

وهذا ما يحمي الضعفاء الَّذين يتعرضون للقهر من قبل الأقوياء، فإنَّ الإسلام يؤاخذهم بمثل ما ارتكبوا، وقد جاء عن الإمام عليّ(ع): «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحقّ له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه»[5].

* * *

التشديد في القصاص لحفظ الأمن الاجتماعي

وإذا كان البعض يرى في تشريع القصاص قسوةً وتشديداً، فإنَّ الإسلام يريد لهم أن يفكروا بالنتائج الإيجابيّة الّتي يحصل عليها المجتمع في استقراره وسلامه وأمنه وطمأنينة أفراده من هذه التشريعات، ليقارن بينها وبين النتائج السلبيّة الّتي يتعرّض لها النّاس من خلال إهمال القصاص، في الاهتزاز الاجتماعي، وفي الخوف والقلق والخطر الَّذي يتعرّض له الأفراد والمجتمعات مما قد يؤدي إلى الهلاك والفساد.

إنَّ مشكلة الكثيرين من النَّاس في حكمهم السلبي على الشرع الإسلامي أنَّهم ينظرون إلى الأمور من جانبٍ واحدٍ ولا يدرسونها من جميع الجوانب، ليعرفوا كيف يحركونها في موقع العقل الَّذي يوازن بين المصالح والمفاسد والحسن والقبح في دراسته للأمور، لا في مواقع العاطفة الّتي تنفتح على السطح في المشاعر والأحاسيس من دون تدقيقٍ بالنتائج.

* * *

العفو كمبدأ للعلاقات الإنسانية

ويبقى للمعتدى عليه الحقّ في العفو عن المعتدي في عدوانه، انطلاقاً من السموّ الروحي الَّذي يرتفع فيه الإنسان عن مستوى الثأر لنفسه، أو من الواقع الاجتماعي الَّذي يفرض عليه التنازل عن حقِّه، أو من المصالح الخاصة أو العامّة الّتي تدفعه إلى ذلك، أو من الشفاعة الّتي يقوم بها بعض الأشخاص القريبين إليه لمصلحة المسيء لاعتباراتٍ خاصةٍ أو عامة، وهكذا أراد الله أن يمنح هذا النوع من التنازل عن الحقّ عنوان الصدقة الّتي يستحق بها الثواب عند الله في الحصول على الحسنات والعفو عن السيئات، تشجيعاً لهذه المبادرة الإنسانيّة بالعفو {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} أي بالقصاص الَّذي هو حقّ له {فَهُوَ} أي التصدّق به، {كَفَّارَةٌ لَّهُ} عن ذنوبه. وقد جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) في ما رواه الكافي بإسناده إلى الحلبي قال: سألته عن قول الله عزَّ وجلّ: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} قال: «يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره»[6]، وربَّما كان تأثير العفو من الناحية النفسيّة ـ في السمو الروحي للعافي، وفي الانفتاح الإنساني على الندامة لدى المعتدي، إشارةً واضحةً على ضرورة إقامة العلاقات الإنسانيّة على الإحسان، لمردوده الخيّر على الحياة.

* * *

ظلم الحاكم أخطر من ظلم المحكوم

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الَّذين يساهمون في تعميق واقع الظلم في النَّاس، بالامتناع عن الحكم بمعاقبة الظالم، مما يشارك في امتداد الظلم في المجتمع من خلال إعطاء الحريّة للمعتدي أن يتحرّك في عدوانه بكل حريّة من دون خوف من عقاب.

ونلاحظ ـ في هذا المجال ـ أنَّ ظلم الحاكم الَّذي لا يحكم بما أنزل الله من الحقّ والعدل، أكثر خطورةً من ظلم المعتدي، لأنَّ المعتدي يتحرّك في ظلمه من الموقع الفردي الخاص في الجريمة الّتي ارتكبها، أمّا الحاكم، فإنَّه يقوّي الظلم في المجتمع كله في مبادرات الظالمين من خلال منعه عن الحكم على الظالم لمصلحة المظلوم، ما يؤدي إلى انتشار الظلم في النَّاس، حيث يزداد الظالمون قوّةً وجرأةً على الظلم، ويزداد المظلومون ضعفاً وسقوطاً بفعل الواقع الظالم الَّذي لا يملكون له دفعاً من ناحية ضعفهم، ومن ناحية الحكم الَّذي يقف ضدهم لمصلحة الظالمين.

* * *

الإنجيل كتاب هدى أيضاً

{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} روح الله وكلمته الّتي ألقاها إلى مريم، أي أتبعنا على آثار النبيين الَّذين أسلموا لله بهذا الرّسول المميّز في خلقه وفي دلائل الإعجاز في شخصيته، فقد جاء ليكمل المسيرة الرساليّة في خط الرسالات الإلهيّة، لا ليهدم الخط الَّذي سار عليه الرسل، لا سيّما موسى الَّذي جاء بالتوراة وحياً من الله، فكان {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ} فأكد للنَّاس أنَّها الحقيقة الإلهيّة الّتي لا بُدَّ لهم أن يؤمنوا بها ويلتزموها في أفكارهم وشرائعهم، لأنَّها كتاب الله الَّذي {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصّلت: 42]، وهكذا كانت النبوّات تتتابع ليصدق بعضها بعضاً، تأكيداً لتآخي الرسل والرسالات، لأنَّ النور لا ينقلب إلى ظلمة، ولأنَّ الهدى لا يتحول إلى ضلال.

{وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} الَّذي أنزلناه على عيسى {فِيهِ هُدًى} مما يرفع عن النَّاس غشاوة الضلال، ويفتح لهم آفاق الهدى، {وَنُورٌ} يضيء لهم ظلمات الطريق، فلا يترك مشكلة إلاَّ ولها حل عنده، ولا شبهة إلاَّ ولها مزيل لديه، وهكذا رأينا التوراة الرساليّة تشمل الكتب الإلهيّة، فالتوراة نور والإنجيل نور والقرآن نور على ما جاء به قوله تعالى: {يَـأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَـبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [المائدة: 15].

فهذه الكتب جاءت من أجل أن تعطي الإنسان النور لعقله وقلبه وإحساسه وحياته في الخط الفكري والشعوري والعملي، فلا يبقى متخبّطاً في ظلمات الشك والشبهة والضلال، بل ينفتح على كل الإضاءات التوراتيّة والإنجيلية والقرآنيّة لتحل له كل مشكلة ولتزيل كل شبهة، ولترفع أيّة ظلمة.

{وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} وهكذا كان الإنجيل مصدقاً بالتوراة، كما كان عيسى مصدقاً بها، فالتقى الرسول بالرسالة في هذا الجانب، وربَّما كان في التكرير إشارةٌ إلى أنَّ الإنجيل تابع لشريعة التوراة، فلم يكن في الإنجيل إلاَّ الإمضاء لشريعة التوراة والدعوة إليها، إلاَّ ما استثناه عيسى المسيح في قوله: {وَلاُِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] {وَهُدًى} يهدي به الله من اتبعه إلى الحقّ وإلى صراط مستقيم، {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } تلين القلب بذكر الله، وترقق الشعور بآياته، وتفتح العقل على آفاق القرب منه، فتدفع النَّاس إلى الطاعة، وتبعدهم عن المعصية، وتقرّبهم منه، وتبعدهم عن الشيطان.

{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} من الحقّ، لأنَّه يمثِّل كلمة الله فلا يحرّفوه عن مواضعه، وقد جاء في تفسير الميزان في تفسير هذه الفقرة قال: «وقد أنزل فيه تصديق التوراة في شرائعها إلاَّ ما استثني من الأحكام المنسوخة الّتي ذكرت في الإنجيل النازل على عيسى(ع)، فإنَّ الإنجيل لما صدَّق التوراة في ما شرّعته، وأحلّ بعض ما حرّم فيها، كان العمل بما في التوراة في غير ما أحلّها الإنجيل من المحرّمات عملاً بما أنزل الله في الإنجيل وهو ظاهر»[7]. وما ذكره ليس ظاهراً، لأنَّ الظاهر أنَّ مضمون الحكم موجود في التوراة الّتي أمر الإنجيل بالأخذ بها، وربَّما كان المقصود بالحكم بما في الإنجيل هو الخطوط العامّة للعدل وللخير والمحبة وغيرها من المفاهيم الأخلاقيّة والروحيّة الّتي تتمثل في مسألة السلوك الإنساني على صعيد العلاقات.

* * *

هل لأحكام الإنجيل سيادة في وقتنا الحاضر؟

وقد أثار المفسرون حديثاً أنَّ الآية لا تأمر أهل الإنجيل ـ وهم النصارى ـ أن يواصلوا العمل بأحكام الإنجيل في عصر الإسلام، لأنَّ ذلك مناقض لآيات القرآن الأخرى، ولوجود القرآن نفسه الَّذي أعلن نسخ الدين القديم بالإسلام.

ولذلك فإنَّ المراد ـ حسب قولهم ـ أنّ الآية تتحدث عن مرحلة نزول الإنجيل، فقد أمر الله النَّاس آنذاك أن يعملوا به وأن يحكِّموه في جميع قضاياهم. ولهذا قالوا بالتقدير: «وقلنا: وليحكم أهل الإنجيل... الخ».

ولكنَّ الظاهر أنَّ الآية واردةٌ في مقام إقامة الحجَّة على المنتمين إلى الإنجيل في التزاماتهم الفكريّة والعمليّة من حقائق الإيمان والأخلاق، ومفاهيم الكون والحياة، مما يثبت حقائق الإسلام الّتي تلتقي بها ومنها نبوّة النبي(ص) الّتي بشر بها عيس(ع). وليس من المعلوم أنَّ الإنجيل قد تعرّض للنسخ في آياته، لا سيّما أنَّ مضمونه ليس متضمناً للشريعة المفصّلة، بل هو أخلاقٌ ومبادىء وقيمٌ عامّةٌ في البعد الروحي والإنساني، فلا مانع من أن يتوجّه القرآن إليهم بالحكم بما في الإنجيل لأنَّه يلتقي بالحكم بما في القرآن، الأمر الَّذي يشدّهم ـ من مواقع اللقاء ـ إلى ما في القرآن على أساس «الكلمة السواء». والله العالم.

* * *

اليهود والنصارى سواء في رفض الدين الحق

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } الَّذين خرجوا عن خط الاستقامة في الدين، لأنَّ الحكم بما أنزل الله هو النتيجة الطبيعيّة للالتزام العقيدي العملي الَّذي يتجسَّد في السير على نهج العقيدة في مفاهيمها وأحكامها وخطوطها العامّة في حركة الإنسان والحياة، فإذا كان الإنسان ملتزماً بدين الله، فلا بُدَّ من أن يستهدي أحكام الدين وقوانينه في أحكامه، لأنَّ هذا هو معنى الانتماء الَّذي يُمثِّل الارتباط العضوي بالخط الديني، ولهذا كان الخروج عنه فسقاً وانحرافاً عن خط الطاعة إلى خط المعصية.

* * *

وقفه مع صاحب الميزان

وقد ذكر صاحب الميزان أنَّ الوجه في ذكر الفسق عند التعرّض لما يرجع إلى النصارى، والكفر والظلم في ما يعود إلى اليهود، «أنَّ النصارى بدَّلوا التوحيد تثليثاً ورفضوا أحكام التوراة بأخذ بولس دين المسيح ديناً مستقلاً منفصلاً عن دين موسى مرفوعاً فيه الأحكام بالتفدية، فخرجت النصارى بذلك عن التوحيد وشريعته بتأوّل، ففسقوا عن دين الله الحقّ، والفسق خروج الشيء من مستقره كخروج لبّ التمرة عن قشرها.

وأما اليهود، فلم يشتبه عليهم الأمر في ما عندهم من دين موسى(ع) وإنَّما ردوا الأحكام والمعارف الّتي كانوا على علم منها، وهو الكفر بآيات الله والظلم لها»[8].

ونلاحظ على ذلك أنَّ اليهود والنصارى يستوون في رفض الدين الحقّ وهو الإسلام، وفي التحريف المتصل بنبوّة النبيّ(ص)، ولذلك أطلق عليهم جميعاً كلمة {الَّذِينَ كَفَرُواْ} في قوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105] كما أنَّ ابتعاد بولس عن دين موسى(ع) يُمثِّل نوعاً من الكفر والظلم للحقيقة.

كما أنَّ الآيات كانت في مقام إطلاق الحكم بالكفر والظلم والفسق على الَّذين لا يحكمون بما أنزل الله من حيث انطباق العناوين الثلاثة عليه، أمَّا اختلاف التعبير، فقد يكون منطلقاً من الأسلوب القرآني الفني في تنويع الصفات في الموارد المتعددة في الذكر، الموحدة في العنوان، لتذكر كل صفة في كل آية، لأنَّ ذلك أقرب إلى البلاغة، وربَّما يؤكد هذا المعنى أنَّ الصفات لم تنطلق من الخصوصيّة بل من العنوان العام، وهو عدم «الحكم بما أنزل الله من دون تفريقٍ بين موارده». والله العالم.

* * *

القرآن مهيمن على ما عداه

{وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} وجئت ـ يا محمَّد ـ في ختام الرسالات لتكون خاتم الرسل الَّذي يجمع في الكتاب، الَّذي أنزل عليه بالحق، في كل آياته، كل ما يبقى من خطوط الكتاب الأول الَّذي هو التوراة في بعدها التشريعي، والإنجيل في بُعده الروحي الأخلاقي، ليصدقه في كل المضمون الفكري والاتجاه العملي، باعتبار أنَّه كلمة الله المنفتحة على الحقّ كله.

وربَّما كان المراد الكتاب كله الَّذي يضم الكتب المنزلة على الأنبياء، ومنها صحف إبراهيم وزبور داود ونحوهما، {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أي أميناً وشاهداً عليه وحافظاً له، فهو الَّذي يرتفع بالقيمة الأخلاقيّة والروحيّة إلى المستوى الأعلى الَّذي يصل بالإنسان ـ من خلالها ـ إلى درجة الكمال، باعتبار أنَّه يُمثِّل الخط التصاعدي الَّذي يرافق التطوّر الإنساني في حاجاته الروحيّة والماديّة ليخطط له المنهج الَّذي يتحرك فيه في انفتاحه على الواقع بما لا يبتعد به عن المثال، وفي توازن القيمة في العناصر الفرديّة الّتي تغذي في الإنسان ذاتيته الاجتماعيّة الّتي تحدد له مكانه في المجتمع من خلال مسؤولياته فيه، وهكذا تتمثل الهيمنة في الحفاظ على أصالة الكتاب وإبعاده عن التحريف، وفي صيانة القيم الّتي تضمّنها الكتاب والارتفاع بها إلى الأفق الأوسع، والمجال الأرحب.

* * *

وجوب التزام الحق في الحكم

وعلى ضوء ذلك، كان القرآن هو الَّذي تنطلق منه القاعدة ويتحرك معه الخط المستقيم، ويدفع بالحكم إلى مواقع الحقّ {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} من الكتاب عليك، لشموليته لما في الكتب السماويّة، فلا يشعر اليهودي بغرابة الحكم الشرعي الَّذي يصدره الحاكم المسلم عليه، لأنَّ التوراة ليست غريبة عنه، ولا يجد النصراني أيّ إشكال في القضاء الإسلامي في القضايا الّتي يتحاكم فيها إليه، لأنَّها لا تبتعد عن أجواء المفاهيم العامّة في الإنجيل، {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ} فقد يحاولون أن يجتذبوا عاطفتك لبعض رغباتهم وأهوائهم وأوضاعهم الّتي لا ينطلقون فيها من كتاب، ولا يرتكزون فيها على قاعدةٍ من الحق، ولا بُدَّ لك من أن تكون حذراً من كل أساليبهم وإغراءاتهم، لأنَّ المسألة ليست مسألة حالةٍ اجتماعيّة أو شخصيّة خاضعة للمجاملة، بل هي مسألة حقّ يراد إقامته، وباطل يراد إبطاله، وهو خط الرسالات الَّذي يريد من الناس كلهم تحكيم الحق فيما بينهم.

* * *

المراد بالشرعة والمنهاج

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فلكل نبيٍّ شريعةٌ وطريق، والمراد بالشرعة أو الشريعة ـ في الأصل ـ الطريق الَّذي يؤدي إلى الماء وينتهي به، وهي في هذه الآية الدين المشتمل على الحقائق والتعاليم والشرائع المؤدية إلى تطهير الإنسان من رذائله وعيوبه وانحرافاته، فكأنَّه يسير به إلى ينبوع المعرفة الَّذي يغسل له كل قذارات الجهل والتخلّف. أمَّا المنهاج، فهو الطريق الواضح الَّذي يوصل الإنسان إلى الهدف الكبير في دنياه وآخرته، وهو السعادة الروحيّة والماديّة.

* * *

موقع شرعة اليهود والنصارى من شريعة الإسلام

وقد يرد هنا سؤال:

هل أنَّ هذه الشرعة أو المنهاج الَّذي جعله الله لهذه الفئة أو تلك من اليهود والنصارى يمثل امتداد اليهوديّة أو النصرانيّة كشرع ومنهج إلى مدى الزمن، بحيث لا يكون لهاتين الفئتين أيّ دور في الشرعة الإسلاميّة لأنَّها تخص الفئة الّتي تتمثَّل بالمسلمين، بحيث لا يكون للإسلام أيّة علاقة باليهودي والنصراني ولا يُمثِّل أيّة دعوة لهما للإيمان به؟

والجواب عن ذلك، أنَّ الدين ـ في الرسالة الإلهيّة الواحدة في خط التنوّع ـ لا يريد أن يجعل من نفسه وسيلة من وسائل تأكيد الانقسام التاريخي الديني الّذي حوّل الأديان في أتباعها إلى طوائف مغلقة لا مسؤوليّة لإحداها بالأخرى، بل إنَّه يعمل على توحيد الإنسان كله في أيّة مرحلةٍ زمنيّة، أو موقعٍ مكانيّ، على رسالة الله التي عنوانها العريض، الممتد في كل مراحل الرسالات، هو الإسلام لله تعالى، لتكون كل رسالةٍ، في دور أيّ نبيّ، تجسيداً للإسلام، باعتبار أنَّها كلمة الله في تلك المرحلة الّتي يمثِّل الالتزام بها معنى الإسلام في علاقة الإنسان بالله، في الوقت الَّذي كانت فيه الرسالات المتتابعة مفتوحةً على بعضها البعض لتكمل الأخيرة ما ابتدأت به الأولى، فكان عيسى(ع) مكمّلاً للناموس، وكان النبيّ محمَّد(ص) متمماً لمكارم الأخلاق، كتعبيرٍ عن إكمال ما نقص من التشريع في الحاجات الجديدة الّتي فرضتها تطورات الواقع الإنساني، أو تبديل بعض الأحكام الّتي كانت خاضعةً لظروفٍ محدودةٍ على صعيد الزمان والمكان، وأصبح من الضروري استبدالها بأحكام جديدة تتناسب مع الظروف الجديدة. وعلى ضوء هذا، فلا نجد هناك إلغاءً من الرسالة اللاحقة للرسالة السابقة، بل إنَّنا نلاحظ امتداداً لأيّ منها في داخل الأخرى، وإذا كان هناك حديثٌ عن النسخ، فإنَّه لا يشمل الرسالة كلها بل يختص ببعض أحكامها، تماماً كما يقع النسخ في داخل الرسالة نفسها، وذلك مثل نسخ القبلة ـ في الإسلام ـ من بيت المقدس إلى الكعبة.

وليس هناك إلغاءٌ للكتاب، فلم يلغ الإنجيل التوراة، ولم يلغِ القرآن التوراة والإنجيل، بل إنَّه أوحى ـ كما لاحظنا في الفقرات المتقدمة من الآيات ـ بأنَّ للنبي أن يحكم بما أنزل الله فيها من أحكامه الّتي لم ينسخها في القرآن، وهذا ما نلاحظه في الإيمان الإسلامي الَّذي يؤمن بالرسل كلهم {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285]، وبالكتاب كله {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران:119]، في إيحاء بأنَّ الكتاب واحد في مدى الرسالة في فصول متعددة، أو أجزاء متنوعة. وعلى هدى ذلك كله، فإنَّنا نفهم من قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} أنَّ الخطاب فيها للأنبياء، فلكل نبيّ شرعة ومنهاج يحرّكه في مرحلته تبعاً لحاجاته وظروف الواقع الإنساني آنذاك، من دون أن ينفي امتداد كل شرعةٍ ومنهاج في الشرعة الأخرى والمنهاج الآخر، وربَّما نستوحي هذا الخط الممتد في الرسالات من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَعَمِلَ صَـلِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: 62] فإنَّ فيها إيحاءً بأنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح الَّذي يفرض نفسه على الإنسان من خلال أمر الله، يشكل منطلقاً ليطلب من المؤمنين ـ بتنوعاتهم التاريخيّة ـ الانفتاح على كل مواقع العمل الصالح المحدّدة من الله في رسالته، ليلتقي الجميع على الإسلام الشامل في الرسالة الواحدة الّتي تجمع الرسالات كلها في عناصرها الحيويّة في نهاية المطاف.

وربَّما يرى بعض المفسرين أنَّ الخطاب هو للأمم الثلاث؛ أمّة موسى وأمّة عيسى وأمّة محمَّد، ولا يعني به قوم كل نبيّ، ولا بُدَّ لنا ـ بلحاظ هذا القول ـ من أن نحمل المسألة على التسلسل التاريخي في مهمة كل نبيّ في رسالته في خصوصيتها الزمنيّة، في امتدادها الزمنيّ، وفي خطها الشمولي في انفتاحها على الرسالة الأخرى. والله العالم.

* * *

فكرة الابتلاء وتعدد الشرائع

{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لجمعكم على ملةٍ واحدة في دعوة جميع الأنبياء، لتلتقوا عليها في الرسالة الخاتمة الّتي تجمع الخطوط العامّة للرسالات كلّها، وذلك بطريقة القدرة الحاسمة التي لا يملك فيها الإنسان اختياره في الانتماء، {وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ} أي ليمتحنكم، {فِى مَآ ءَاتَـكُم} من تعدّد الشرائع حسب اختلاف الزمن، ليظهر عمق الإخلاص له لدى المؤمنين، وسطحيّة الإيمان به من المتعصبين المتخلفين، فينجح المؤمنون بالله وكتبه ورسله ورسالاته، ويفشل المتعصبون الَّذين يتجمدون في المرحلة الزمنيّة الّتي بعث بها رسولهم، فلا ينفتحون على رسول آخر ورسالةٍ أخرى، فيحيا من حيى عن بيّنةٍ ويهلك من هلك عن بيّنةٍ، {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} الّتي انطلقت من الله في رسالاته، وتنافسوا في الحصول على الدرجة العليا فيها، لأنَّ ذلك هو الَّذي يمنحكم المواقع المتقدمة في القرب من الله والوصول إلى رضوانه في مرحلة الوفادة إليه، {إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} فيجمعكم يوم الجمع في موقف المسؤوليّة والحساب {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمور دينكم، مما أحصاه ونسيتموه، ليجزي الَّذين استقاموا على خط الإيمان والعمل الصالح باستقامتهم، ويجزي الَّذين انحرفوا وابتعدوا عن الخط المستقيم بانحرافهم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وليبادر المبادرون.

* * *

تأكيد على الحكم بما أنزل الله

{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} في نداءٍ تأكيديّ لتقرير المبدأ وتعميق المسؤوليّة في كل الموارد الّتي يختلفون فيها، ويتحاكمون إليك في حلّها، وإعطاء الحكم الحاسم فيها، {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} لأنَّك تُمثِّل الحقّ في الرسالة الّتي أنزلها الله لتحرّك الإنسان في مسيرة الحقّ بامتداده في الزمن كله والإنسان كلّه، لأنَّ الله هو الحقّ الَّذي خلق السماوات والأرض بالحقّ، ويريد للإنسان أن ينسجم مع الوجود كله في قيامه ـ في الأرض ـ في حياته الفرديّة والجماعيّة على أساس الحقّ، فلا مجال للخضوع للحالات العاطفيّة الّتي تستجيب لرغبة هذا لمصلحةٍ هنا، أو تبتعد عن ذاك لمشكلةٍ هناك، أو لإغراء يندفع في أحلامٍ وتمنياتٍ ووعودٍ ببعض المكاسب الصغيرة والكبيرة، فقد أرسلك الله لتركز للنَّاس أهواءهم على أساس رضى الله لا على أساس السقوط أمام تأثيراتها العاطفيّة في وجدانك الشخصي، فإنَّك لا تملك نفسك، ولكن رسالتك هي الّتي تؤكد حركتك مع النَّاس كلهم.

* * *

تحذيرٌ للرسول من مغبة الافتتان

{وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، وذلك بالمراقبة الدائمة لكل الخلفيات الّتي تكمن وراء كلماتهم وحركاتهم، والدراسة العميقة للتطلعات الّتي يتطلعون إليها في مواقفهم من الرسالة والرسول، والمتابعة الواعية لكل الخطط الّتي خططوها أو يخططونها للوصول إلى غاياتهم الشريرة، لأنَّهم لا يريدون بك وبالرسالة خيراً، انطلاقاً من عصبيتهم للباطل واستعلائهم على النَّاس.

إنَّ من واجب الرسول الداعية إلى الله، العامل في سبيل هداية النّاس إلى الحقّ وشموليّة سلطة الله على الواقع كله، أن يأخذ بكل أسباب الحذر في حركته في الساحة العمليّة، لأنَّ الآخرين يخططون ويتآمرون ويتلوّنون بألوان مختلفة، ليحصلوا على مآربهم وليبتعدوا بالرسول وبالداعية عن الحق الَّذي أنزل من الله، ببعض الأساليب الخادعة والوسائل المغرية ليفتنوه عن دينه وليقترب منهم ومن باطلهم.

* * *

الآثار الاجتماعية للذنوب

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} وأعرضوا عن القبول بالحقّ الَّذي تقضي به، أو رفضوا التحاكم إليك، فلا تحزن ولا تأس عليهم، ولا تسقط أمام انفعالات الإحباط من خلال سلبيات الواقع، لأنَّ المسألة ليست مسألة فشلك في حركة الدعوة بالحقّ، ولكنها مسألة انحرافهم الذاتي والفئوي عن رسالة الله، وابتعادهم عن مصالحهم الحقيقيّة في السير على خط العدالة في حكم الله والرسول، ما يؤدي بهم إلى الكثير من المشاكل الّتي تصيبهم في كلِّ مواقع حياتهم الخاصة والعامّة، فإنَّ ذلك هو سنة الله في خلقه إذا انحرفوا وابتعدوا عن الحق.

{فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}، ويعاقبهم عليها في الدنيا من خلال الارتباط العضويّ بين الأفعال السيئة وعناصرها السلبيّة بحسب العلاقة بين المقدمات والنتائج، فإنَّ الذنب يختزن في داخله السلبيّة الّتي تصيب صاحبه، فتتعبه في حياته وتعقّد له أموره، وتوقعه في الكثير من المشاكل، وتؤدي به إلى المزيد من الخسائر، وهذا ما حدث لليهود الَّذين تتحدث عنهم هذه الآيات في تعاملهم مع النبيّ(ص) وخيانتهم له ونقضهم لعهودهم معه، وتحريك الفتنة بين المسلمين، وغير ذلك من الذنوب الّتي تفصلهم عن المجتمع، وتعزلهم عن قضاياه، وتباعد بينهم وبينه في المصالح المشتركة الّتي تقرّب النَّاس إلى بعضهم البعض.

وفي ضوء هذا، نعرف كيف تحدث الله عن إصابتهم ببعض ذنوبهم، لأنَّ القضيّة قد لا تكون عقاباً من الله لهم بشكلٍ مباشر، بل القضيّة هي العقاب الذاتي الَّذي يكمن في داخل الذنب مما يحدث للخاطئين في الدنيا من خلال أعمالهم، كما جاء في قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الروم: 41]، فإنَّ الله يتحدث عن الاختلال في النظام الاجتماعي للنَّاس بسبب كسبهم السيئات الّتي تحمل في داخلها عناصر الفساد الَّذي يصيب العاملين به، فيذوقون النتائج السيئة الكامنة في داخل أعمالهم، كحقيقةٍ واقعيّةٍ في علاقة العمل السيىء بالنتيجة السلبيّة في حياة الإنسان، {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } خارجون عن خط الحقّ إلى متاهات الباطل في إصرارهم على الانحراف عن الرسالة والرسول، ما يجعلهم في موقع الفسق العملي الَّذي يخرج به الإنسان عن قاعدة التوازن في الحياة.

وقد يرد هنا سؤال:

لماذا هذا التحذير للنبيّ(ص)ـ وهو المعصوم ـ من أن يفتنه الآخرون عن بعض ما أنزل الله إليه، والنهي له عن اتباع أهوائهم؟

فهل كان النبيّ محمَّد(ص) في الموقع الَّذي يمكن فيه أن يتبع أهواء هؤلاء اليهود، أو أن يفتنه هؤلاء عن دين الله؟

والجواب: إنَّ هذه الآية ـ والآيات المماثلة في القرآن ـ لا تتحدَّث عن الحالة الشخصيّة للنبيّ(ص) في اهتزازها بالعناصر الضاغطة الّتي يحركها هؤلاء، وفي انفعالها وتأثرها بالإغراءات والأساليب الحميمة الّتي يثيرونها في وجدانه، بل هي ـ والله العالم ـ واردةٌ في تصوير الواقع الموضوعي في الوسائل والأساليب الّتي يحرّكها هؤلاء في ساحته، مما يخططون فيه لإخضاعه لأهوائهم ولفتنته عن بعض ما أنزل الله إليه، بما تشتمل عليه من الضغوط الهائلة الّتي تزلزل الإنسان العادي الَّذي لا يملك قاعدة نفسيّة من العصمة الروحيّة المانعة عن الاهتزاز والانحراف، ما يجعل النهي عن اتباع أهوائهم، والتحذير من فتنتهم، مرتبطين بالمسألة الموضوعيّة في العناصر المثيرة الّتي يوجهونها إليه، لا بالحالة الذاتيّة الّتي يعيشها في وجدانه الرسالي الَّذي يملك القوّة الّتي لا تضعف أمام التحديات.

* * *

الحكم حكمان: حكم الجاهلية وحكم الله

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أي يريدون منك إصداره في القضيّة الّتي تحاكموا إليك فيها، وهم ـ في أجواء الآية ـ اليهود الَّذين كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحدّ كما في قصة أسباب النزول، بحيث كان للمركز الاجتماعي للشخص دور كبير في طبيعة الحكم الصادر له أو ضده، تبعاً للامتيازات الطبقيّة والأهواء الذاتيّة أو الفئويّة، بعيداً عن حكم الله في التوراة الَّذي أكده الإسلام في القرآن والسنَّة، وهو الحكم العادل الَّذي ينظر إلى طبيعة القضيّة من خلال عناصر الإثبات فيها، من دون الالتفات إلى طبيعة الشخص في دائرتها الواقعيّة، وهذا ما يشعر فيه النَّاس بالأمن على حقوقهم وقضاياهم، لأنَّهم متساوون أمام الشريعة في ساحة الواقع والقضاء، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} في عناصره الحيّة من حيث انسجامه مع المصلحة الإنسانيّة في صعيد القيم الروحيّة والأخلاقيّة والحاجات الحيويّة للإنسان، مما يفرض الخضوع له، والانفتاح عليه، والثقة به، {لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالعدالة الإلهيّة في الحكم والتشريع من موقع إيمانهم بالربوبية المطلقة لله الّتي ترعى كل المخلوقين بالحكمة واللطف والرحمة على صعيد العدل الَّذي ينطلق من الجانب الموضوعي للمسألة في الواقع الإنساني العام، من دون تفريقٍ بين قويٍّ وضعيف وكبير وصغير وغنيّ وفقير، لأنَّ الجميع عباده، فلا حاجة لديه إلى أحد دون أحد ليظلم هذا أو ذاك، فإنَّ الظلم شأنُ الضعيف الَّذي يعيش الضعف أمام الآخر والخوف منه فيلجأ إلى ظلمه، والله هو القويّ القادر على كل شيء.

وقد ورد في أكثر من حديثٍ التأكيد على حكم الله في مقابل حكم الجاهليّة، فقد ورد الحديث عن الإمام جعفر الصادق )ع( أنَّ رسول الله(ص) قال: «الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهليّة، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهليّة»[9].

وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم): أبغض النَّاس إلى الله مبتغٍ في الإسلام سنّة جاهليّة، وطالب امرىء بغير حقّ ليريق دمه».

ونستفيد من ذلك أنَّ الجاهليّة ليست مرحلةً زمنيّةً تتمثَّل في شرائعها وعاداتها وتقاليدها وأحكامها، بل هي نهج في الخط الفكريّ الَّذي يتحرّك في كل قضاياه وأوضاعه بعيداً عن الله بحيث لا يستهدي الله في ذلك، ولا يخضع لرسالاته ورسله، بل ينطلق في تشريعاته وأحكامه من العوامل الذاتيّة، ومن المواقع السلطويّة الّتي تفرض نفسها على النَّاس بالقوّة من دون أن تملك أيّة شرعيّة في مواقعها وتحرّكاتها.

وعلى ضوء ذلك، فإنَّ النظرة الإسلاميّة تؤكد أنَّ أيّ حكم في المجال التشريعيّ أو القضائيّ لا ينسجم مع حكم الله هو حكم الجاهليّة، ولو كان صادراً في العصر الحاضر، فإنَّ كلمة الجاهليّة تتحوّل ـ من خلال هذه النظرة ـ إلى ذهنيّة ماديّة متحركةٍ مع الواقع المادي في الحياة في الاتجاه الَّذي لا يجد للدين أيّ دورٍ في أحكامه وقضاياه، تماماً كما لو لم يكن موجوداً في حياة النَّاس.

وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في موردٍ آخر في تعبير آخر وهو حكم الطاغوت، وذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّـغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَـنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـلاً بَعِيداً}[النساء: 60]. وفي ضوء ذلك، يمكن لنا أن نواجه كل الواقع التشريعي الوضعي الَّذي يتحرّك في بلاد المسلمين في خط العلمانيّة لنعتبره داخلاً في حكم الجاهليّة أو حكم الطاغوت، وخارجاً عن حكم الله وعن ولايته، وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يحذروا منه، وأن يلتفتوا إلى الموقف الَّذي يجب أن يتخذوه ويلتزموه في رفضهم وتأييدهم، لا سيّما في المشاركة في المجالس النيابيّة بتأييد الَّذين يعيشون ذهنيّة الجاهليّة في أحكامها وقوانينها لا ذهنيّة الإسلام.

ماذا نستوحي من هذه الآيات؟

وقد نستوحي من هذه الآيات بعض اللمحات الفكريّة والعمليّة الّتي تفيدنا في حركة العمل الإسلامي في الدعوة إلى الله:

أولاً: إنّا نأخذ من هذه الآيات النموذج الحي للنَّاس الَّذين يقفون ضد العاملين في سبيل الله ويعملون على إقامة الحواجز النفسيّة والماديّة ضد التحرك الإيماني، سواء كانوا من الَّذين يختلفون معنا في الدين، أو من الَّذين لا يدينون بأي دين، بل يلتزمون الإلحاد كمنهج للحياة، أو من الَّذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، لنتخذ منهم الموقف الَّذي أراد الله لرسوله أن يتخذه من معاصريه من هؤلاء، فلا نضعف ولا نهون أمام كل الأوضاع السلبيّة الّتي نواجهها منهم، بل نتعامل معهم وفق قاعدة التعامل الواقعي الّتي تقتضي الانتباه جيداً لكل وسائلهم وأوضاعهم، في كل ما يريدون إثارته في الساحة من قضايا ومواقف، لنضع الأمور في نصابها الصحيح، ولنكون في وعيٍ دائمٍ لكل ما يحيط بنا من أمور وأوضاع، وبذلك تتحول هذه الأيام إلى حركةٍ متنوعة الاتجاهات في طريق العمل الإسلامي الطويل، فلا تقتصر على الوقائع والفئات في حدود الزمان والمكان اللذين عاشا في داخل التاريخ.

ثانياً: إنَّ هذه الآيات تؤكد ما في الكتب المنزلة من حقيقةٍ فكريّةٍ وتشريعيّة، وتعتبر الانسجام مع تلك الحقيقة أساساً للخط الإيماني الصحيح في مسيرة الإنسان، ما يوضح القاعدة الصلبة للشخصيّة الإيمانيّة الّتي ترتكز على المنهج في الفكر، وعلى الخط في السير، سواءٌ في ذلك الَّذين يتبعون التوراة أو الإنجيل أو القرآن، وتؤكد ـ في بعض لمحاتها ـ على تداخل هذه الكتب في مفاهيمها العامة وآفاقها الواسعة، بحيث لا يعتبر الإيمان بكتاب، منافياً، في إيحاءاته الفكريّة والعمليّة، للإيمان بالكتب الأخرى، لأنَّ الخصوصيات الّتي تختلف فيها هذه الكتب لا تمسّ الخطوط العامّة، بل تمس التفاصيل الّتي أوضحت هذه الكتب على أنَّها قد تتغيّر وتتبدّل تبعاً للحاجات الّتي يفرضها عامل الزمان، مما ينتهي فيه حدّ المصلحة الباعثة إلى الحكم تارة، أو مما تتبدّل فيه المفسدة إلى مصلحة أخرى. وعلى ضوء هذا، كانت الدعوة إلى أن يحكم أهل الإنجيل والتوراة والقرآن بما فيه من الحقّ، لأنَّ ذلك هو الَّذي يلتقي عليه الجميع، فيكون الابتعاد عنه ظلماً وفسقاً وكفراً، ولهذا كان الإلزام القرآني لكل فريقٍ من الفرقاء الَّذين ينتمون إلى هذا الكتاب أو ذاك، بالمعاني الّتي يلتزم بها الكتاب، لأنَّ كل واحدٍ منها يمهّد الطريق للآخر ويدعمه في كل الجوانب الحيّة فيه.

ثالثاً: إنَّ على الدعاة لله والعاملين في سبيله، أن يكونوا في حالة حذرٍ دائمة ورصد مستمر لكل الأساليب الملتوية الّتي يحاول دعاة الكفر وأولياؤهم أن يضللوا بها المؤمنين عن دينهم، في ما يثيرونه حولهم من الأجواء المحمومة الّتي تثير المشاعر وتهز النفوس، أو في ما يحشدونه من المعلومات الكاذبة الّتي يريدون من خلالها توجيه الأمور في غير وجهتها الصحيحة، لينحرفوا بالحكم عن الحقّ، وذلك من أجل اكتشاف اللعبة الملتوية المزخرفة الّتي تتمثل في أكثر من أسلوب، وأكثر من وجه.

رابعاً: إنَّ الحكم حكمان؛ حكم الجاهليّة، وهو الحكم الَّذي يرتكز على الباطل ويبتعد عن وحي الله، مما يصنعه البشر لأنفسهم انطلاقاً من مصالحهم ومنافعهم وأنانيتهم، بعيداً عن الله؛ وحكم الله الَّذي شرعه لعباده في ما أوحى به لرسله، مما ينسجم مع مصالح الإنسان كإنسانٍ بعيداً عن كل الخصوصيات الّتي ترهق إنسانيته وتعطل مسيرته نحو الخير. ولا بُدَّ لنا من الدخول في عمليّة المقارنة دائماً بين هذين الحكمين، ليبقى النَّاس على وعيٍ عميقٍ منفتحٍ بما يمثله حكم الله من خير وبركة ورحمة للإنسان وللحياة ـ كما توحي به الآية الأخيرة ـ وليبقى الهاجس الَّذي يعيش في همّ المجتمع من أجل تأكيد استمراره في حركة الحياة في ما يحكم به الحكام، وفي ما يطبقه النَّاس، من أجل حفظه ورعايته وإصابته، وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق(ع): "إنَّ الحكم حكمان: حكم الله وحكم الجاهليّة، ثُمَّ قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} قال: فأشهد أنَّ زيداً قد حكم بحكم الجاهليّة، يعني في الفرائض"[10].

ــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:3، ص:247.

(2) أسباب النزول، ص:110.

(3) مجمع البيان، ج:3، ص:250.

(4) جاء في الفصل الواحد والعشرين من سفر الخروج: "إن النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن واليد باليد والرّجل بالرجل والحرق بالحرق والجرح بالجرح والصفعة بالصفعة" سفر الخروج، الجمل33 و34 و35.

(5) شرح نهج البلاغة، خطبة:37، ص:81.

(6) البرهان في تفسير القرآن، ج:1، ص:477.

(7) تفسير الميزان، ج:5، ص:355.

(8) تفسير الميزان، ج:5، ص:355.

(9) البرهان في تفسير القرآن، ج:1، ص:478.

(10) البحار، م:37، ج:101، ص:498، باب:35، رواية:6.