من الآية 51الى الآية 53
الآيــات
{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ* وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهُـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ}(51ـ53).
* * *
معاني المفردات
{لاَ تَتَّخِذُواْ}: الاتخاذ هو الاعتماد على الشيء لإعداده لأمره، وهو افتعال من الأخذ، والأخذ يكون على وجوه؛ تقول: أخذ الكتاب إذا تناوله، وأخذ القربان إذا تقبّله، وأخذه الله من مأمنه إذا أهلكه. وأصله: جواز الشيء من جهةٍ إلى جهةٍ من الجهات.
{أَوْلِيَآءَ}: جمع وليّ، وهو النصير لأنَّه يلي بالنصر صاحبه.
{دَآئِرَةٌ}: الخط المحيط بالشيء، والمراد بها الدولة الّتي تتحوّل إلى من كانت له عمن في يده، وهي تطلق في المكروه باعتبار أنَّه يحيط بالإنسان إحاطة الدائرة بمن فيها، فلا سبيل لهم إلى الانفكاك منه بوجه، كما في مفردات الراغب[1].
{فَعَسَى}: قال في مجمع البيان: وعسى موضوعة للشك، وهي من الله تعالى تفيد الوجوب، لأنَّ الكريم إذا أطمع في خير يفعله، فهو بمنزلة الوعد به في تعلّق النفس به ورجائها له، ولذلك حقّ لا يضيع ومنزلة لا تخيب[2].
والظاهر أنَّ إطلاقها وارد بالنسبة إلى طبيعة الشيء من حيث كونه مستقبلياً لا يتيقن بحصوله، ما يجعله في دائرة الشك، بقطع النظر عن القائل، فلا يكون الوجوب المذكور في كلام المجمع مدلولاً عليه باللفظ، بل هو أمر مستنبط من دراسة كرم الله وجوده في ما يعد به من الخير.
{بِالْفَتْحِ}: القضاء والفصل، والمراد به هنا النصر.
{حَبِطَتْ}: قال الراغب في المفردات: حَبْطُ العمل على أضرب: أحدها: أن تكون الأعمال دنيويّة فلا تغني في القيامة غناءً، والثاني: أن تكون أعمالاً أخرويّة لكن لم يقصد بها صاحبها وجه الله تعالى، والثالث: أن تكون أعمالاً صالحة، ولكن بإزائها سيئات توفى عليها، وذلك هو المشار إليه بخفة الميزان. وأصل الحبط من الحَبَطِ، وهو: أن تكثر الدابة أكلاً حتّى ينتفخ بطنها[3].
* * *
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزول للواحدي: «قال عطيّة العوفي: جاء عبادة بن الصامت فقال: يا رسول الله، إنَّ لي موالي من اليهود كثير عددهم، حاضرٌ نصرهم، وإني أبوء إلى الله ورسوله من ولاية اليهود، وآوي إلى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبيّ: إني رجل أخاف الدوائر، ولا أبرأ من ولاية اليهود، فقال رسول الله(ص): يا أبا الحباب ما تجلب به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه، فقال: قد قبلت، فأنزل الله تعالى: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} إلى قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} يعني عبد الله بن أبيّ {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} وفي ولايتهم، {يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ}[4].
وجاء في الدر المنثور عن السدي: قال: «لما كانت وقعة أحد اشتد على طائفة من النَّاس، وتخوّفوا أن يدال عليهم الكفَّار، فقال رجل لصاحبه: أمّا أنا فألحق بفلان اليهودي، فآخذ منه أماناً وأتهوّد معه، فإنّي أخاف أن يُدال على المسلمين، وقال الآخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام، فآخذ منه أماناً وأنتصر معه، فأنزل الله فيهما ينهاهما: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}[5].
وأخرج ابن جريج وابن المنذر عن عكرمة قوله:{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} قال: بعث رسول الله(ص) أبا لبابة بن عبد المنذر من الأوس، وهو من بني عمرو بن عوف، فبعثه إلى قريظة حين نقضت العهد، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه الذبح الذبح[6].
ونلاحظ في هذا الاختلاف في الرِّوايات في سبب نزول هذه الآية، أنَّ من الممكن أن تكون المسألة اجتهاداً من الرواة من خلال روايتهم للأحداث المذكورة المتنوعة الّتي اعتبروها مناسبة للآية مما يستوحون منه أنَّها أسباب نزول. والله العالم.
وعلى أيّ حال، فإنَّها تُمثِّل أموراً متصلة بالآية من الناحية التطبيقيّة، باعتبار أنَّها قد تكون لوناً من ألوان التولي لليهود وللنصارى من قِبل بعض المسلمين، وقد لا يكون من المستبعد أن تكون الآية واردة في اتجاه تأكيد القاعدة العامة للعلاقات الّتي تربط بين المسلمين وغيرهم من اليهود والنصارى على أساس إبعادهم عن النتائج السلبيّة الحاصلة من ذلك.
* * *
أسس العلاقة مع اليهود والنّصارى
يفرض الإسلام على المسلم أن يؤمن بالرسل أجمعهم وبالرسالات كلها، ولكنَّه يريد له أن يكون واقعياً في علاقته بالَّذين ينتمون إليها، وذلك من موقع السلوك العدواني الَّذي التزموه في علاقتهم بالمسلمين، لأنَّهم يعتقدون بطلان عقيدة المسلمين في ما يعتقدونه من رسول وفي ما يتبعونه من شريعة، ولأنَّ طبيعة التحرك الإسلامي في مجال الدعوة الّتي قد تعارض بعض مفاهيمهم الخاطئة للرسالات الّتي ينتمون إليها، أو في مجال السلطة الّتي كان الإسلام يعمل من أجلها على أساس عقيدته وشريعته، قد تخلق بعض العقد الداخليّة، وقد تثير بعض المشاكل العمليّة والفكريّة، ما يفرض فرزاً في المواقع وتعقيداً في المواقف، والتقاءً على المعارضة للإسلام، وقد أثبتت الممارسات التاريخيّة في حال ظهور الإسلام وبعده بعض ذلك. ولهذا أراد الإسلام للمؤمنين أن يعيشوا في داخل حياتهم وخارجها الخطوط الفاصلة العازلة، بين المواقع المتنوعة والمواقف المختلفة، من أجل الحفاظ على الجانب الفكري للعقيدة، فلا يتأثر بالانحراف الَّذي قد يأتي من المجاملات الّتي تساهم في تمييع الموقف، من أجل التأكيد على سلامة المسيرة، فلا تهتز أمام الأوضاع العاطفيّة والعلاقات الذاتيّة البعيدة عن التركيز.
* * *
المحبة والتعاون أساس قوة العلاقات الإنسانية
وربَّما كان الإسلام يتحرك في هذا التأكيد من قاعدةٍ إنسانيّةٍ ثابتة، وهي أنَّ الأساس في قوة العلاقات بما تفرضه من محبةٍ ومودّةٍ ونصرةٍ وتعاون، هو القاعدة الفكريّة والروحيّة الّتي ينتمي إليها النَّاس، فهي الّتي تمنح الثبات للعلاقة، وتثبت المواقف في العمل، سواءٌ في ذلك الحالات الّتي تُمثِّل التوافق في كل التفاصيل، أو الحالات الّتي تتوافق فيها القواعد العامّة على أكثر من تفصيل، فإذا كانت العلاقات تقوم على أساس التوافق، أمكن لها أن تساهم في إيجاد صيغةٍ للوحدة أو للتنسيق، أمّا إذا كانت تقوم على أساس التحالف، وكان التحالف يتحرك في اتجاه النوازع الذاتيّة الّتي تحكم الذات، فلا بُدَّ من أن يكون الموقف قائماً على أساس الحذر الَّذي يدعو إلى الترقّب والتأمُّل في رصد الأوضاع والعلاقات على أساس من الواقعيّة، لأنَّ الاستسلام للثقة في الأجواء الّتي لا تدعو إلى الثقة بل تدعو إلى العكس، يعتبر لوناً من السذاجة العمليّة. وقد كان التاريخ الَّذي عاشه المسلمون مع اليهود مليئاً بالمشاكل والتآمر والكيد والفتن وبالمستوى الَّذي كاد أن يربك المسيرة الإسلاميّة في العهود الّتي رافقت حركة الرسالة، كما كان السلوك الَّذي أحاط بالمسلمين من قبل النصارى يوحي بشيء من هذا القبيل في ما يختزنه المستقبل.
* * *
المناعة الداخلية ضرورة إزاء العلاقة مع اليهود
وفي ضوء ذلك كله، أراد الإسلام من المسلمين أن يتحفظوا في إيجاد علاقة الولاية بينهم وبين هؤلاء، لتبقى الحواجز النفسيّة الفكريّة سبيلاً من سبل المناعة الداخليّة البعيدة عن حالة الميوعة والذوبان، ولتبقى التحفظات العمليّة أداة من أدوات الحماية الواقعيّة للحياة الإسلاميّة من خلفيات الخطط الخفية المضادة المرسومة من قبل الآخرين. وهذا ما نستوحيه من جو هذه الاية: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فقد نلاحظ ـ في الفقرة الأخيرة ـ نوعاً من أنواع الإيحاء الخفي بوجود محوريةٍ داخليةٍ بين هؤلاء، سواء أريد من كلمة البعض اليهود فيما بينهم، أو النصارى فيما بينهم، كما يفهمه بعض المفسرين الَّذين يرجحون ذلك على أساس العداوة التاريخيّة بين اليهود والنصارى، ما يبعّد تقرير الولاية فيما بينهم، أو أريد منهم اليهود والنصارى فيما بينهم، لأنَّهم إذا افترقوا في خلافاتهم الذاتيّة، فإنَّهم يتفقون عندما يكون المسلمون الهدف المشترك الَّذي يتوحدون حوله. إنَّ هذا التأكيد على هذه الولاية المحورية، يؤكد عدم استجابتهم للولاية في ما يتعلق بعلاقتهم بالمسلمين، وانطلاقهم في خط السلبيّة تجاههم بكل ما لذلك من نتائج وآثار. وفي هذا الجوّ، نعرف أنَّ القضيّة الّتي يؤكدها الإسلام، لا تعيش في خط الروح العدوانيّة الّتي يعمل على تعبئة المؤمنين بها ضدّ غيرهم من أصحاب الديانات لتعميق الشعور بالحقد والبغضاء في أوساط المجتمع المؤمن في مواجهة المجتمعات الأخرى، بل القضيّة هي إيجاد الفواصل الفكريّة والروحيّة الّتي تساعد على المنع من وقوع المسلمين في قبضة الميوعة الفكريّة والسذاجة العمليّة، اللتين قد تحصلان من انجذابهم إلى ظواهر الأشياء وابتعادهم عن خلفياتها وجذورها، ليكون التعايش ـ عندما يفرضه الواقع ـ منطلقاً من حالة وعيٍ واقعيّةٍ، في ما يتعاون عليه المجتمع من الشؤون العامّة والقضايا المشتركة، لا من حالة استغفالٍ لأحد الفرقاء للآخر في ما يريده من أوضاع وعلاقات.
ولهذا رأينا الإسلام يؤكد في أكثر من آيةٍ قرآنيّةٍ على بعض الجوانب الإيجابيّة لدى النصارى في سلوكهم العملي، من خلال الخطوط الأخلاقيّة الموجودة لديهم في تعاليمهم، في مقابل اليهود الَّذين اعتبرهم {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ} [المائدة: 82]، لانطلاقهم من كل المواقع السلبيّة ضدّهم. ونراه يؤكد أنَّ الخط الفاصل الَّذي يحكم إيجابيّة العلاقات وسلبياتها هو السلام الَّذي يشعر به الآخرون تجاه المسلمين وعدم العدوان في ما يُمثِّله من تصرفات وأعمال، الأمر الَّذي يدعو المسلمين إلى البر والعدل في التعامل معهم، فليست القضيّة أنَّ هناك حقداً يُراد تأجيجه في الصدور، بل القضيّة أنَّ هناك وعياً يُراد تعميقه في العقول، وأنَّ هناك واقعيّةً يُراد تأكيدها في المواقف، ولعلّ هذا هو السر في هذا التشديد على الَّذين يتولونهم من المسلمين، {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} لأنَّ ذلك يوحي بالَّلامبالاة لدى هؤلاء في ما يفكر به الآخرون من أفكار، وفي ما يتخذونه من مواقف، ويؤدي بالنتيجة إلى ابتعاد اللاّمبالين عن مجتمع المسلمين، واقترابهم من مجتمع الكفر، كما نجده في بعض الفئات الّتي قد تنجذب إلى خط الأعداء على أساس ما تأمل لديهم من أطماعٍ وشهوات، لتكون في النهاية سلاحاً بيد الكافرين ضد المسلمين، فيظلمون أنفسهم بالانحراف عن خط الحق، ويظلمون إخوانهم بالسير في خط الأعداء {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الَّذين اختاروا لأنفسهم السير في طريق الانحراف العقيدي والعملي بالتولي لغير المسلمين، فتركهم لاختيارهم السيىء الَّذي تمردوا فيه على خط الهداية الطبيعيّة والإيحائيّة الإلهيّة، وأوكلهم إلى أنفسهم، ولم يتدخل لإرجاعهم إلى خط الهدى بطريقةٍ غير اعتياديّة،لأنَّ الله لا يفرض الهداية على الَّذين يرفضونها بإرادتهم.
* * *
المراد من كلمة الولاية
ولكن، ما المراد من كلمة «الولاية»؟ هل المراد بها المحبّة والمودّة؟ أو المراد بها النصرة والمعاونة؟ قد يختلف المفسرون في ذلك، لأنَّ الكلمة تتسع لهذا المعنى ولذاك، كما تتسع لغيرهما، ولكنَّ الظاهر من الجو الَّذي تعيش فيه الآية أنَّ المراد بها العلاقة الوثيقة الّتي تُمثِّل لوناً من ألوان الالتزام بالجماعة على أساس العوامل الذاتيّة الّتي توحي بذلك، ما يجعل المحبة والنصرة والمعاونة بعضاً من آثارها، لا معنىً من معانيها، وهذا ما نفهمه من كلمة الموالاة الّتي تستعمل في علاقة الأمة بقيادتها، أو ببعضها، فإنَّها تعني العلاقة الشديدة المنطلقة من خط الالتزام بالشخص أو الجماعة، فلا يبقى هناك مجال للاختلاف المذكور، والله العالم.
* * *
المنافقون وتولّي غير المسلمين
هذه هي القاعدة الإسلاميّة الّتي تفرض الجانب السلبي في الولاية بين المؤمنين وبين غيرهم من أهل الكتاب. ولكنَّ بعض المسلمين ينحرفون عن هذه القاعدة، لأنَّ في قلوبهم مرضاً ناشئاً من ضعف الإيمان وفقدان الثقة بالله، فتراهم يلهثون خلف هؤلاء ويسارعون فيهم، فيندمجون في داخل مجتمعاتهم حتّى يحسبهم الناظر أنَّهم منهم، في أسلوب العلاقة والتعامل والموقف، لأنَّهم يخافون أن ينهزم المسلمون أمام اليهود والنصارى وتدور الدائرة عليهم، ما يعرّضهم للخطر ويؤدّي بهم إلى الهلاك. ولذلك كانت الخطة أن يتنازلوا ويخضعوا ويقدموا لهم فروض الطاعة والعبوديّة، ليحصلوا على الأمن والطمأنينة، وتلك هي حجّة المنافقين في كل زمانٍ ومكان، فهم لا يتحركون من مواقع العقيدة، ولا ينطلقون من مواقع التضحية، بل يواجهون القضيّة بمنطق المنفعة والطمع والشهوة، في الوقت الَّذي يفرض عليهم الإيمان بالله أن يظلوا على خط الأمل الأخضر برعاية الله للمؤمنين {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} للمسلمين على الكافرين {أو أمْرٍ منْ عنده} في ما يدفع به عنهم من ضرٍّ أو يجلب لهم من نفع، وحينئذٍ تنكشف أوضاع هؤلاء المنافقين أمام الحقيقة الواضحة، {فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}. ويقف المؤمنون ليسجلوا هذا الموقف ضد المنافقين الَّذين قد تفاجئهم الهزيمة الّتي يقع فيها الكافرون، فيظهر عليهم الألم والهلع، فينكشف أمرهم للمؤمنين {وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهُـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} فماذا يُمثِّل هؤلاء الآن أمام الهزيمة الّتي كشفت زيفهم ونفاقهم، وماذا تُمثِّلون أنتم في مواقفكم المهتزة بفعل النتيجة المريرة من خيبة الأمل؟ إنَّ النهاية الأليمة هي التي تنتظر الجميع{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} وتحولت كل جهودهم إلى جهود ضائعة، فلا مجال لديهم إلاَّ للحيرة والقلق والضياع..
* * *
عبر لا بُدَّ منها للمسلمين
ويبقى للمسلمين الدرس العملي المتحرك في الواقع الَّذي يبعث فيهم روح الوعي والحذر للفئات الأخرى الّتي تختلف معهم في الدين والقضايا الحيويّة المتصلة بالعلاقات العامّة، فلا يستسلمون للسذاجة العاطفيّة الّتي قد تجعلهم يسقطون تحت تأثير الخوف من المستقبل، الَّذي قد يدفع الآخرين إلى الواجهة من السلطة ويرجع المسلمين إلى الخلف، فيحاولون الارتباط بهم لحماية أنفسهم، فيفقدون الكثير من صلابة الموقف واستقامة الخط، في الوقت الَّذي لا يحصلون فيه على شيء مما قصدوه، بل قد يحصلون على العكس من ذلك إذا انتصر المسلمون وانهزم الكافرون. إنَّ الارتباط السياسي والاقتصادي والديني بالأجانب أمر مرفوض من الإسلام نفسه، لأنَّه قد يعرض المسلمين للوقوع في التهلكة السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، ويؤدي بهم إلى فقدان استقلالهم وقدرتهم على تقرير مصيرهم، وهذا ما نلاحظه في هذه الأيام من تحوّل المسلمين إلى وجودٍ منسيٍّ في الواقع السياسي العالمي الَّذي يقوده المستكبرون في الأرض، فلا يسمحون لهم بحريّة الحركة في سياستهم واقتصادهم وأمنهم في قليلٍ أو كثير.
ــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:176.
(2) مجمع البيان، ج:3، ص:258.
(3) مفردات الراغب، ص:105.
(4) أسباب النزول، ص:110.
(5) الدر المنثور، م:4، ج:6، ص:99.
(6) تفسير الطبري، م:4، ج:6، ص:178.
تفسير القرآن