تفسير القرآن
المائدة / من الآية 57 إلى الآية 58

 من الآية 57 الى الآية 58

الآيتــان

{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ}(57ـ58).

* * *

معاني المفرادت

{هُزُواً}: الهزو: السخرية وهو إظهار ما يلهي تعجباً مما يجري. وقال الراغب في المفردات: الهزو: مزحٌ في خِفيةٍ[1].

{وَلَعِباً}: الأخذ على غير طريق الحقّ ومثله العبث، وأصل الكلمة اللُّعاب: وهو البزاق السائل لأنَّه يخرج إلى غير جهته، فلذلك اللاعب يمر إلى غير جهة الصواب.

{نَادَيْتُمْ}: النداء: الدعاء بمدّ الصوت على طريقة: يا فلان.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال ابن عباس: «كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام، ثُمَّ نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما»[2].

وجاء في الدر المنثور، عن ابن عباس في سبب نزول الآية الإلهية قال: «كان منادي رسول الله(ص) إذا نادى بالصَّلاة فقام المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا فإذا رأوهم ركّعاً سجداً استهزأوا بهم وضحكوا منهم»[3].

* * *

الحرب المعنوية ضد المسلمين

وهذا نداء للمؤمنين يؤكد الفكرة الّتي أوضحناها قبل قليل، في اعتبار النهي عن الموالاة، انطلاقاً من السلوك العدواني الَّذي يمارسه هؤلاء من أهل الكتاب والمشركين ضد المسلمين، فقد كان من طريقتهم أن لا يدخلوا مع المسلمين في حوار قائم على الاحترام المتبادل كما يأمر الإسلام أتباعه به، بل كانوا يعملون على إثارة أجواء السخرية والاستهزاء واتّباع أساليب العبث واللعب بالمفاهيم والأحكام والشعارات الدينية. فإذا قام المسلمون إلى الصَّلاة ليعبدوا الله بذلك، واجهوهم بأساليب السخرية واللعب، ليسيئوا بذلك إلى نفسيتهم ويحطموا معنوياتهم وروحيتهم، فيكون ذلك أداةً من أدوات التأثير على موقفهم في الثبات على هذا الدين، في ما يوحيه ذلك من فقدانهم لاحترام الآخرين على تقدير التزامهم به، وعلى هذا الأساس، جاءت هاتان الآيتان من أجل تنبيه المسلمين لهذه الروحيّة العدوانيّة الّتي يحملها هؤلاء أداة ضدهم وضد الإسلام، ما يجعل من الموقف الَّذي يُراد من المسلمين القيام به في رفض موالاتهم، موقفاً يرتبط بالاحترام الَّذي يحمله المسلمون لأنفسهم ولدينهم، ويؤكد لهم أنَّ هؤلاء ليسوا في الموقع الَّذي يسمح بقيام علاقة موالاة بينهم وبين المسلمين، لأنَّ مثل هذه العلاقة تقوم ـ في شروطها البديهيّة ـ على الاحترام المتبادل والمحبة المشتركة، اللتين لا تلتقيان مع أساليب السخرية واللعب بالدين وبشعائره.

وقد أثارت الآية الأولى مشاعر الإيمان الّتي تدفع المؤمنين إلى الاستجابة إلى الله في هذا النداء بالمقاطعة ورفض الموالاة، باعتبار أنَّ ذلك مظهرٌ من مظاهر التقوى الّتي يلتزمها المؤمنون في مواقفهم الإيمانيّة الحاسمة، {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} فهم لا يواجهون الدين بالفكر الَّذي يناقش مفاهيمه ويتدبر عقائده وأحكامه ومناهجه، كأية دعوةٍ جديدةٍ صادرة من الله في وجه رسله، ما يثير الكثير من التساؤل لدى النَّاس الَّذين يتحملون مسؤوليّة الالتزام الفكري في ما يقبلونه أو يرفضونه من الأفكار والعقائد الماضية والحاضرة، بل يواجهون ذلك كله بالهزء والسخرية واللعب تماماً كما لو كان الموقف يوحي بالمزاح والعبث، ما يدل على أنَّ المطلوب هو الدخول في حربٍ نفسيةٍ ضد الإيمان والمؤمنين تستهدف إسقاط روحيتهم وإضعاف موقعهم ودفعهم إلى الإحساس بالضعف أمامهم.

وهؤلاء هم الَّذين عاشوا في عهد الدعوة الإسلاميّة الأول {مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّار} الَّذين لا يملكون الحجّة البالغة على رفض الإسلام وتكذيب الرسول، والذين خافوا أن يفتح الرسول عقول النَّاس على الحقّ فيؤدي بهم إلى الانحسار عن مواقعهم، ويدفع النَّاس إلى اتباعه والالتزام به، فلجأوا إلى الأساليب الموحية بالاستخفاف والاستهانة به، كالسخرية والاستهزاء، وهذا ما أراد الله للمؤمنين أن يواجهوه بالرفض الحاسم لكل أنواع العلاقات الإنسانيّة الحميمة أو الروابط الوثيقة، لأنَّهم ليسوا في مستوى المسؤوليّة الفكريّة الّتي تبعث على الاحترام وتفرض الدخول في التزام فكري وعملي، وهكذا نهى الله عن اتخاذهم {أَوْلِيَآءَ} بكل ما تعنيه كلمة الولاية من الانفتاح عليهم والسماع منهم والاتباع لهم، لأنَّ أسلوبهم هو أسلوب العداوة الّتي تفرض الحذر البالغ أمام كل ما يخفونه من خطط مشبوهة، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } في مواقفكم وعلاقاتكم مع الآخرين، بحيث تراقبونه في كل ذلك انطلاقاً مما يريد أن تقفوا عنده أو تتحركوا نحوه، لأنَّكم تتحملون مسؤوليّة المحافظة على الدين من موقع الاحترام له والعمل له، كما تتحملون المسؤوليّة في المحافظة على أنفسكم وأهاليكم وأموالكم، وهذا هو دليل الإيمان الَّذي يوجهه إليكم الله عبر النداء الَّذي يحرّك عقل المؤمن وقلبه وحركته في خط الالتزام بكل مضمونه الفكري والروحي والعملي من بعد قوله {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} فإذا أذّن المؤذن للصَّلاة ووقفتم أمام الله لأداء الصَّلاة المفروضة، وقف هؤلاء ـ بكل أحقادهم وعداوتهم وجهلهم وتخلفهم ـ ليتخذوها مادةً للتسلية العبثيّة وفرصةً للاستهزاء بالمسلمين وبعباداتهم، لإثارة الخوف والشعور بالمهانة في أنفسكم {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ}.

* * *

الكفر ومشكلة الجهل

وقد جاءت الآية الثانية لتصور لنا صورة هؤلاء الَّذين يواجهون المبادىء والرسالات الإلهيّة بهذا الأسلوب الَّذي يوحي بالجهل والسفه والاهتزاز الفكري والروحي، فتصفهم {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ}، وتعتبر أنَّ هذا هو السبب الَّذي دعاهم إلى هذا التصرّف، لأنَّهم لو أخذوا بأسباب العقل، لفكروا جيداً في مضمون هذا الدين، وأدركوا أنَّه الحق الَّذي لا محيد عنه، وعرفوا المعنى الَّذي توحي به الصَّلاة في ما تُمثِّله من عبادة الله الواحد الأحد، والانفتاح عليه بالروح الخاشعة الخاضعة التقيّة، الأمر الَّذي يؤدي إلى المزيد من الخشوع والروحانيّة أمام هذا المشهد الروحي العبادي الَّذي يقف فيه المؤمن أمام الله ليلتقي بالحياة الرحبة الواسعة القائمة على الأسس الثابتة الَّتي تركز للإنسان إنسانيته وتقوده إلى الالتزام بالقيم الكبيرة في الكون. وهكذا يريد القرآن أن يؤكد الحقيقة الّتي أثارها في أكثر من آية، وهي أنَّ مشكلة الكافرين ليست مشكلةً فكريةً ناشئةً من الشبهات المحيطة بخط الإيمان، بل هي مشكلة الجهل وغياب العقل عن الساحة.

ــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:540.

(2) أسباب النزول، ص:111.

(3) الدر المنثور، ج:3، ص:107.