تفسير القرآن
المائدة / من الآية 59 إلى الآية 63

 من الآية 59 الى الآية 63

الآيــات  

{قُلْ يَـأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ* قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ * وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ والأحْبَار عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(59ـ63).

* * *

معاني المفردات

{تَنقِمُونَ}: تنكرون، يُقال: نقم الأمر إذا أنكره، وسمي العقاب نقمةً لأنَّه يجب على ما ينكر من الفعل.

{مَثُوبَةً}: من ثاب إليه إذا رجع، والمراد بها ـ هنا ـ الجزاء والثواب. قال الراغب: أصل الثوب رجوع الشيء إلى حالته الأولى الّتي كان عليها، أو إلى الحالة المقدّرة المقصودة بالفكرة، وهي الحالة المشار إليها بقولهم أول الفكرة آخر العمل... والثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله، فيسمى الجزاء ثواباً تصوّراً أنَّه هو هو، ألا ترى كيف جعل الله تعالى الجزاء نفس العمل في قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ولم يقل جزاءه. والثواب يُقال في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف في الخير... وكذلك المثوبة»[1]. وقد استعملت هنا في الشر، كما استعملت في الخير، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ} [البقرة: 103].

{الطَّاغُوتَ}: من الطغيان وهو ـ كما قال الراغب ـ عبارة عن كل معتدٍ وكل معبود من دون الله، ويستعمل في الواحد والجمع[2].

{الإِثْمِ}: اسم للأفعال المبطئة عن الثواب أو الخير، وقوله تعالى: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] أي في تناولهما إبطاء عن الخيرات. والفرق بين الإث والعدوان، أنَّ الإثم هو الجرم كائناً ما كان، والعدوان هو الظلم.

{السُّحْتَ}: السحت القشر الَّذي يُستأصل، ومنه السُّحت للمحظور المحرم الَّذي يلزم صاحبه العار كأنَّه يسحت دينه ومروءته، قال تعالى: {أَكَّـلُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42] أي لما يُسحت دينهم.

{يَصْنَعُونَ }: جاء في المجمع: قيل: الصنع والعمل واحد، وقيل: الفرق بينهما أنَّ الصنع مضمنّ بالجودة، يُقال: صنع الله لفلان أي أحسن إليه[3].

* * *

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور للسيوطي، وأسباب النزول للواحدي، عن ابن عباس «أتى رسول الله نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وغازي بن عمرو، وزيد بن خالد وأزار بن أبي أزار، وأسقع، فسألوه عمن يُؤمِنُ به من الرسل؟ قال: أؤمن بالله {وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:84] فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى، فأنزل الله، {قُلْ يا أهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}[4].

وزاد الواحدي: فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً شراً من دينكم، فأنزل الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً}[5].

ونحن نلاحظ أنَّ الآيات واردةٌ في التنديد بأهل الكتاب ـ وهم اليهود ـ في رفضهم للإيمان بالإسلام الَّذي يؤكد على وحدة الرسالات بكل القيم الروحيّة والأخلاقيّة المتضمنة لها وبكل الشرائع المسنونة فيها، في الوقت الَّذي لا يُمثِّل الكتاب لديهم إلاَّ اسماً للانتماء مع انحرافهم عن أحكامه وقيمه في عبادتهم للطاغوت، وأكلهم السُّحت، الأمر الَّذي أدى إلى أن مسخ الله بعضهم قردةً وخنازير ولعنهم وغضب عليهم.

وعلى ضوء هذا، فإنَّ سياق الآيات ليس سياق حوار حول التفاصيل في نبوّة عيسى، بل هو في مواجهة اليهود للإسلام كله، لأنَّهم يرون أنَّ دينهم هو خاتم الأديان، ولا يعترفون بدينٍ بعده، ولا برسولٍ من بعد موسى، ولهذا فإنَّ سبب النزول أشبه بالاجتهاد منه بالرِّواية. والله العالم.

* * *

دعوة إلى محاورة أهل الكتاب

ويثير القرآن الحوار مع أهل الكتاب، في أسلوبٍ مميّزٍ يريد من خلاله أن يقودهم إلى التأمل في دوافعهم الخفيّة، بما يكشف لهم النوازع الذاتية المعقّدة من شخصيتهم، ويعرّفهم أنَّهم ليسوا بمنأىً عن الفضيحة، فمهما حاولوا الاختباء وراء بعض الأقنعة التي تخفي ملامحهم الحقيقيّة في ما ينوونه أو في ما يفعلونه، فإنَّ الله يكشف ذلك كله لرسوله وللمؤمنين. وقد جاء الأسلوب بلهجةٍ هادئةٍ هي أقرب إلى لهجة العتاب، في صيغة السؤال العميق: {قُلْ يَـأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} لماذا كل هذه الحرب؟ ولماذا كل هذا التآمر؟ وماذا فعلنا لكم حتّى نستحق كل هذا الضغط والكراهية، ولماذا تنقمون منّا؟ ماذا نريد، إلى أيّ شيء ندعو، هل تنقمون منّا إلاَّ أنَّنا سرنا في خط الهدى المستقيم؟! إنَّنا آمنا بالله وبرسالاته وكتبه الّتي أنزلت إلينا وإلى من قبلنا، وإنَّكم انحرفتم عنه إلى السير في خط الأنانية الذاتية والفئوية، والعمل على تحطيم كل الأشياء المقدسة التي تحول بينكم وبين الوصول إلى مطامعكم ومطامحكم في مركز الرئاسة. وربَّما كان الأسلوب بمثابة الإشارة إلى أنَّ الموقف الَّذي اتخذه أهل الكتاب لم يكن ناشئاً من خطة فكرية، بل هو ناشىء من عقدةٍ ذاتية، فهؤلاء المسلمون لا يعيشون الأفق الضيق في الإيمان، ولا يدورون في محورٍ محدود، بل تتسع آفاقهم لتشمل كل الرسالات وكل الرسل، فلا يتركون مجالاً لحالةٍ عدائيةٍ في خط المجابهة، لأنَّهم يحترمون ما يحترمه الآخرون، بينما يسيء الآخرون إلى ما يحترمونه، ما يفقد الآخرين حجّة اللجوء إلى الخصام والنزاع، ويحوِّل موقفهم بالتالي إلى عقدةٍ مرضيّةٍ مستحكمةٍ، ويظل الجوّ الَّذي أثاره الحوار يبحث عن جواب، ولا جواب.

ويعنف الأسلوب، وتتغير اللهجة، فهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً، ولا يريدون السير في خط الحوار، فلا بُدَّ من تصفية الموقف معهم، وإعلان الحرب عليهم، والوصول من خلال ذلك إلى النتيجة الحاسمة، فكانت المسألة هي الحديث عمّا ينتظر هؤلاء من عذاب وما يمثله ذلك من موقع، {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ} والمثوبة هي الجزاء بالخير، ولكنَّ الله أراد بها ـ هنا ـ الجزاء بالشر، على سبيل التهكم والاستهزاء، {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} فقد لعنهم الله وأبعدهم عن ساحة رحمته، وغضب عليهم، لما واجهوه به من التمرّد، {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} في عملية المسخ، {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} وقد عبدوا الطاغوت الَّذي أرادهم الله أن يكفروا به، في ما يُمثِّله من انحرافٍ في العقيدة والعمل وخط الحياة، {أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً}، لأنَّ مواقعهم الّتي يقفون فيها لا تُمثِّل أيّ جانبٍ من جوانب الخير بل هي الشر كله، في ما يُمثِّل من خلفياتٍ ذاتيةٍ وأعمالٍ ضالةٍ، ومواقف منحرفةٍ، وسعيٍ في إقامة الفساد في الأرض، {وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ}. وأيُّ ضلالٍ أشدّ من التمرُّد على الله في ما أمر به من طاعة رسله، وإقامة شريعته في الأرض، وأيُّ انحراف عن الخط المستقيم أكثر من الانحراف عن الحجج الواضحة والبراهين القاطعة الّتي تضع الحقيقة في نصابها الصحيح بعيداً عن كل حالات الريب والشك؟!

ويعود الحديث إلى ملامح النفاق في سلوكهم، فهم يتلونون بكلمات الكفر والإيمان، تبعاً لمطامعهم وشهواتهم، {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ} لأنَّهم كانوا يحملونه في جوانحهم، وفي أعماق قلوبهم، وفي آفاق أفكارهم، {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} لأنَّ تلك الكلمات الاستعراضية لم تكن موقفاً يلتزمونه، بل كانت نفاقاً يمارسونه، ليتخلصوا من إحراج الأجواء المحيطة بهم، ولينفذوا إلى داخل المجتمع من موقع قوي حميمٍ، ولكنَّ حيلتهم لا تخفى، وخططهم لا تنجح {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ}، لأنَّه الرب {لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شيء فِي الأرْضِ وَلاَ في السَّمَآءِ } [آل عمران: 5] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأرض يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[غافر:19].

{وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} في ما ينطلقون به من كلمات الشر والفساد ويتحركون فيه من حركات الضلال والإضلال والعدوان، بما يثيرونه من أقاويل السوء ضدّ الأنبياء والأولياء ودعاة الصلاح والإصلاح، وبما يتآمرون به ضد الإسلام والمسلمين، وبما يعتدون به على حقوق النَّاس الضعفاء ممن حولهم بكل أساليب الاعتداء في القول والفعل، {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} وهو الحرام، في ما يأكلونه من الرّبا الحرام، والرشوة المحرمة، والغش والسرقة والخيانة، وغير ذلك من أنواع أكل المال بالباطل، {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لأنَّ تلك الأعمال تُمثِّل أكثر الأعمال بُعداً عن خط الخير والإنسانيّة، وأشدّها قرباً من غضب الله وسخطه.

وكان لهم ربانيون، يتخذون لأنفسهم مواقع النَّاس المخلصين لله، وأحبار يملكون من العلم ما يرتفع بمنزلتهم إلى الدرجات العليا، ولكنَّهم كانوا يسكتون عنهم، ولا ينهونهم عن قولهم الإثم وأكلهم السُّحت، خوفاً ومجاملةً وغير ذلك من النوازع الذاتية الّتي تمنع المصلحين من الجهر بكلمة الإصلاح {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}. فما قيمة الربانية في داخل الإنسان إذا لم تتحول إلى ممارسةٍ عمليّةٍ ضاغطة، ضد كل الَّذين يعملون بعيداً عن الله؟! وما دور العلم الَّذي يحمله صاحبه إذا لم يتحرك في خط التوعية الفكرية والعملية الّتي ترفع مستوى النَّاس وتقربهم إلى الله وتبعدهم عن خط الشيطان في الضلال والفساد؟!

* * *

ماذا نستوحي من هذه الآيات؟

ماذا يوحي لنا ذلك كله؟ وهل هذه قصة اليهود في ملامحهم الذاتية في التاريخ؟ أم هي قصة كل هؤلاء المنحرفين عن خط الله، الَّذين يتلونون في كل يوم بألف لونٍ انطلاقاً من مطامعهم وشهواتهم، ويسارعون في الإثم والعدوان في كل عصر وكل مكان، ويأكلون الحرام بمختلف الأساليب والحجج القانونيّة الّتي يلعبون فيها على الشرائع والقوانين، ويتعقّدون من النَّاس الَّذين يؤمنون بالله وبرسالاته، وينقمون عليهم هذا الإيمان لأنَّه يكشف خداعهم وزيفهم وفسقهم وفجورهم؟ عندما يتطلع النَّاس إلى الفوارق الكبيرة الّتي تحكم ساحة الموازنة بين الفريقين اللذين ينتسبان معاً إلى الوحي وإلى الرسل، يجدون المؤمنين الحقيقيين هم الَّذي يعتبرونها التزاماً وعملاً وصدقاً في الكلمة والموقف، أمَّا الَّذين يواجهون القضيّة على أساس اللاّمبالاة واللعب على الحبال ـ كما يقولون ـ والكذب في الكلام والممارسة، فإنَّهم الفاسقون الَّذين لا تقترب شخصياتهم من أجواء الإيمان، بل تظل سادرةً في خط الضلال البعيد.

وهكذا تمتد هذه الآيات إلى جميع العلماء الَّذين يملكون العلم الَّذي يُمكن له أن يفتح عقول النَّاس على الحقّ ويتحرك ليواجه تحديات الباطل وانحرافات الواقع، ولكنَّهم يتقاعسون عن ذلك ويتثاقلون خوفاً على بعض دنياهم، أو رغبةً في الحصول على بعض دنيا المنحرفين الَّذين قد يملكون المال أو الجاه أو السلطة، أو حبّاً بالراحة الّتي يبتعدون بها عن التعب والجهد الَّذي يُثقل حياتهم ويرهق أوضاعهم، فإنَّ مسؤوليّة الساكتين عن الحقّ كمسؤوليّة الناطقين بالباطل، لأنَّ النتيجة معهما سواء في إفساح المجال للضلال في زيادة النمو والامتداد في الحياة العامّة والخاصة، وقد ورد في الحديث المأثور عن النبيّ محمَّد(ص): «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله»[6].

وجاء في الحديث عن الإمام عليّ(ع) في نهج البلاغة في خطبته (192) قوله(ع): «فإن الله سُبحانهُ لم يَلعنِ القرن الماضي بين أيديكُم إلاَّ لِتركِهمُ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المنكرِ. فلعنَ الله السُّفهاء لِركوبِ المعاصي والحُلماء لِتركِ التَّنَاهي»[7].

ولعلَّ هذا إشارة إلى قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [المائدة: 78].

* * *

التمايز بين العمل والصنع

وقد لاحظ بعض المفسرين الفرق بين كلمة {يَعْمَلُونَ} في الحديث عن سواء النَّاس، وكلمة {يَصْنَعُونَ } في الحديث عن العلماء، وذلك من خلال أنَّ الصنع هو كل عملٍ استخدمت فيه الدقة والمهارة، بينما العمل يطلق على جميع الأفعال حتَّى لو كانت خاليةً من الدقة، تأكيداً على أنَّ النَّاس العاديين يذنبون من موقع الجهل، بينما العلماء يرتكبون الذنب عن درايةٍ وعلمٍ وتفكير.

وهذه ملاحظةٌ طريفة، ولكنَّنا لا نتصور أنَّ هذه النكتة ملحوظةٌ في الآية، لأنَّ المطروح في عمل الجاهلين المعصية، أمَّا في عمل العلماء فهو ترك النهي عن المنكر، وهما سيّان في الخلفيات الكامنة وراء العمل من حيث الرغبة في الحصول على المنفعة أو الاجتناب عن المضرّة، من دون أن يكون لنوعيّة الممارسة للعمل دورٌ في ذلك. وبعبارة أخرى، لو كانت القضيّة قضيّة عملٍ يقوم به العلماء لكان لهذا الكلام مجالٌ سلبيّ أمام هذا العمل من قِبل العلماء، فلا وحدة في الموضوع ليكون الفارق في الخصوصيّة. والله العالم.

وفي ضوء ذلك، قد يكون من الضروري للرساليين أن يدققوا في النماذج المحيطة بهم من المنحرفين عن خط الله، ومن أهل الكتاب الَّذين يكيدون للإسلام ولأهله المكائد، ليتعرّفوا ملامح الآيات في ملامحهم، ليبتعدوا عن جو الخديعة الَّذي يُراد لهم أن يعيشوا فيه، وليكونوا على حذرٍ في ما يأخذون ويدعون ويقتربون ويبتعدون، في نطاق العلاقات الإنسانيّة المتحركة في أكثر من صعيد، وبذلك يُمكن لهم أن يستلهموا الوعي القرآني في تركيز الوعي الحياتي الإنساني.

ــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:80.

(2) م.ن.، ص:314.

(3) مجمع البيان، ج:3، ص:270.

(4) الدر المنثور، ج:2، ص:108.

(5) أسباب النزول، ص:112.

(6) البحار، م:105، ص:12، إجازة:28.

(7) نهج البلاغة، ص:299، خطبة:192.