تفسير القرآن
المائدة / من الآية 64 إلى الآية 66

 من الآية 64 الى الآية 66

الآيــات  

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ}(64ـ66].

* * *

معاني المفردات

{يَدُ}: لليد معانٍ عدّة، منها الجارحة، وهي اليد العادية الّتي يستعملها الإنسان لحاجاته الطبيعية، ومنها النعمة، تقول: لفلان عندي يد أشكرها أي نعمة، ومنها القدرة: كقول الله تعالى: {أُوْلِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ} [ص:45] أي ذوي القوى والعقول؛ ومنها الملك، كقوله: {الَّذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] أي يملك عقدة النكاح، ومنها التولي للشيء نحو قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [ص: 75] أي لما توليت خلقه تخصيصاً له وتشريفاً، وإن كان هو الَّذي خلق جميع المخلوقات. والظاهر أنَّها تستعمل بأجمعها في اليد العادية، ولكن على نحو الكناية للتعبير عن المعاني الأخرى المذكورة من خلال أنَّ اليد هي آلة العطاء والقدرة ومظهر الملك والتولي للأشياء وليست من قبيل المعاني الحقيقيّة، وبهذا يبطل قول الزجاج حيث أنكر على من ذهب إلى أنَّ معنى اليد في الآية بمعنى النعمة بأن قال: إنَّ هذا ينقضه قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فيكون المعنى بل نعمتاه مبسوطتان، وذلك لأنَّ الظاهر أنَّه استعمل اليدين على نحو الكناية على الكرم والعطاء في بذل النعمة للنَّاس، كما لو كانت له يدان مبسوطتان ينفق منهما بما يشاء كيف يشاء[1]. والله العالم.

{مَغْلُولَةٌ}: أي مقيّدة فلا يعطي بها، كناية عن البخل، لأنَّ البخيل يمسك يده عن العطاء تشبيهاً له بالمقيّد، لكونها فارغة.

{وَلُعِنُواْ}: اللعن: الطرد والإبعاد على سبيل السّخط، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبةٌ، وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه، ومن الإنسان دُعاءٌ على غيره ـ كما في المفردات ـ[2].

{لَكَفَّرْنَا}: التكفير: التغطية، وهو وارد على سبيل الكناية عن إزالة الذنب فلا يظهر أبداً.

{أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}: أي عملوا بهما بالالتزام العملي بما فيهما.

{مُّقْتَصِدَةٌ}: معتدلة، الاقتصاد: الاستواء في العمل الَّذي يؤدي إلى الغرض، واشتقاقه من القصد، لأنَّ القاصد يقصد ما يعرف مكانه، فهو يمر على الاستقامة إليه خلاف الطالب المتحير في طلبه.

* * *

مناسبة النزول

جاء في الدر المنثور عن ابن عباس: «قال رجل من اليهود يُقال له النباش بن قيس: إنَّ ربَّك بخيل لا يُنفق، فأنزل الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ}»[3].

والظاهر أنَّ هذا اليهودي ـ إذا صحّت الرِّواية ـ يعبّر عن منطق يهوديّ شائع وكلام معروفٍ عندهم يتداولونه فيما بينهم، وليس كلاماً فردياً، وذلك من خلال ظاهر الآية في نسبة القول إلى اليهود لا إلى شخصٍ معين.

* * *

الله في التصوّر اليهودي

كيف يتصوّر اليهود الله، وكيف يتحدثون عنه؟! لا يجسد الله في تصوّر اليهود تلك الذات الجامعة لكل صفات الجلال والجمال والكمال والعلم والقوّة والقدرة اللامتناهية، بحيث لا يكون ثمة مجال للحديث عنه إلاَّ بصفات التعظيم والتقديس، لأنَّه الرّب العظيم الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} [الشورى:1] في الأرض ولا في السماء، ولكنَّهم يتصورونه كما يتصورون أي كائن آخر محدود، وما يلزم عن المحدودية من نواقص وسلبيات، الأمر الَّذي يفقد الصورة الإلهيّة حيويتها وبريقها في عيون الآخرين. وفي هذا الاتجاه جاء قولهم كما ذكر الله تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وإغلال اليد يكنّى به عن العجز، سواء في الحركة أو في العطاء، لأنَّ من شأن تقييد اليد أن يعيق من حركتها وعطائها، وهذه الرؤية منهم، لأنَّهم ينظرون إلى فقر عباد الله، فإذا كان الله قادراً على العطاء وعلى نصرة عباده، فكيف يتركهم للفقر ينهش أجسادهم، وللظلم يخنق حياتهم؟! ويشعرون أمام ذلك بالعلو والرفعة بما يملكونه من مال وجاه وقوّة إزاء ما يفقده الآخرون من ذلك كله، ولكنَّ الله يقابل منطقهم الأعوج هذا بالدعاء عليهم بأن تُغَلَّ أيديهم بالمرض الَّذي يمنعها من التحرك والقدرة، أو بالحديث عن الإمكانات المستقبليّة الّتي قد توحي بشيء من هذا القبيل، ليكون الجو أشبه شيء بالتهديد الخفي، {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} وشُلَّت ومُنعت من التحرك الَّذي يمليه عليها إرادتها ومعتقدها.

ثُمَّ يواجههم باللعنة {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} وذلك بسبب ما قالوه من كلامٍ ينطلق من جهل وسوء معرفة بالله الَّذي خلقهم ورزقهم وأفاض كلَّ نعمه عليهم وعلى جميع خلقه، وبشكل دائم لا انقطاع له، مما يكشف عن تمرّدهم وانحرافهم واستغراقهم في أجواء الضلال، وابتعادهم عن الحقيقة الإلهيّة الّتي تفرض نفسها على الوجود كله {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} بالخير المتدفق في كل مجاري الحياة ومواردها كالينبوع المتدفق المتفجر بالعطاء المستمر والممتد، وجاءت اليد هنا لتدل على النعمة والرزق والعطاء على سبيل الكناية، وربَّما كانت التثنية سبيلاً من سبل التعبير عن الشمول في العطاء من خلال كل الوسائل الّتي ينزل فيها الخير على خلقه[4]، {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} فليس لأحد من خلقه أن يحدد له المورد والطريقة والمقدار، بل هي مشيئته الّتي تحدد للخلق أرزاقهم كما تحدد أعمارهم.

* * *

حقد اليهود المستعصي

{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} وهذا يمثل حركة العقدة المستعصية في النفس، فنحن نلاحظ أنَّ كثيراً من النَّاس المعقّدين بالحقد والحسد ضد أُناسٍ آخرين يزدادون حقداً وحسداً كلما ازداد هؤلاء إحساناً ولطفاً وعملاً صالحاً، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الأشياء بعين مفتوحةٍ بالنور لتبصر الأمور على حقيقتها، كما هي في الحياة، بل ينظرون إليها من موقع حقدهم وحسدهم الَّذي يحوِّل الحسنات إلى سيئات والفضائل إلى عيوب، وهكذا كان هؤلاء اليهود الَّذين لم ينظروا إلى الإسلام من موقع الفكر الباحث عن الحقيقة، بل من موقع الحقد الَّذي يعمل على إخفائها وتغطيتها وتشويهها، وعلى إبعاد النَّاس عنها بمختلف أساليب التشويه، ولهذا فإنَّهم يعيشون في حالة استنفارٍ دائمٍ أمام كل انتصار للإسلام، وكل انطلاٍق لآياته، وكل حركة لمفاهيمه، فإذا انتصر الإسلام في معاركه، أو تنزلت آيات الله على نبيه من أجل إيضاح الخط والهدف، فإنَّ هناك عقدةً جديدةً تولد، وحقداً أسود يصعد، ويبدأ هذا وذاك ليدفعهم إلى زيادة طغيانٍ حاقدٍ في مشاعرهم وتصرفاتهم، وليزيدهم كفراً على كفر في ما يريدون السير على أساسه من التمرّد على الله ورسالاته! وبهذا نعرف أنَّ نسبة زيادة الطغيان والكفر إلى الآيات المنزلة من الله، من خلال إثارتها لتفاعلات العقد النفسيّة الكامنة في الداخل، في ما يريد الإنسان إثارته في عمق ذاته. وفي ضوء ذلك، لا نجد هناك مجالاً للحديث عن موضوع الجبر في ما يستفيده البعض من سببية الآيات المنزلة في زيادة طغيانهم وكفرهم، ما يجعل الموضوع مرتبطاً بالله بشكلٍ مباشر، لأنَّ القضيّة لا تخرج عن نطاقها الطبيعي من ارتباطها بالأسلوب الأدبي في الفن التعبيري القرآني الَّذي يسند الأشياء إلى أسبابها العادية الّتي تُمثِّل سبباً للإثارة أو لخلق جوٍ معين، أو لإيجاد مشاعر معينةٍ في جانب الإيجاب والسلب في علاقة الأشياء بالأشياء.

* * *

اليهود محكومون بالعداوة فيما بينهم إلى يوم القيامة

{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وذلك من خلال الأسس الّتي ارتكز عليها بنيانهم الذاتي، والمفاهيم الّتي تحكم طريقتهم في التفكير والعمل والعلاقات، لانطلاقها من جذورٍ ماديةٍ لا تتحرك فيها أيّة نبضةٍ روحيةٍ للمشاعر، ولا تنساب في أعماقها أيّة عاطفةٍ إنسانيّةٍ للقلوب، حتَّى العلاقات الحميمة الّتي قد تنشأ فيما بينهم، لا ترتكز على المعنى الحميم، بل تنطلق من الحسابات المادية القائمة على الربح من جهة، وعلى العصبيّة من جهة أخرى، وإذا كانت المسألة تعيش في هذا الجو المادي الخانق، فإنَّ النتائج ستكون مزيداً من الصراع على النفوذ والأرباح والمطامع والامتيازات، ما يولّد المزيد من العداوة والبغضاء اللتين تمتدان إلى يوم القيامة تبعاً لامتداد الأجواء المعقدة الّتي تدفع إليهما، بما يتعمّق في داخل شخصياتهم من عقدٍ حاقدةٍ ضد بعضهم البعض.

* * *

حروب اليهود لن تحقق أغراضها

ويظلون ينتقلون من حرب إلى حرب، ولكنَّهم لا يحققون الانتصار النهائي الأخير الَّذي يريدون فيه السيطرة على مقدرات الأمور في الحياة، فإنَّ الله يبطل كل مقاصدهم ومخططاتهم، بما يثيره حولهم من بوادر وظروف وأسباب تطفىء ما أوقدوه، وتهدم ما بنوه.

وتلك هي قصّة حروبهم الّتي تتجدد ولكنَّها لا تصل إلى النتائج النهائيّة المقصودة، بل تحاصرها الأوضاع المتنوعة الّتي تقف بها في بدايات الطريق أو منتصفاتها، وهذا ما عبّرت عنه الفقرة القرآنيّة: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} وذلك هو أسلوب القرآن في إسناد كل الأمور إلى الله من حيث استنادها إلى القوانين الطبيعيّة الّتي أودعها الله في حركة قانون السببية للأشياء. وربَّما كانت الاستيحاءات الّتي استوحيناها من هذه الفقرة، جواباً على بعض التساؤلات الّتي يتساءل فيها النَّاس عن مدى انطباق هذه الفقرة أو اختلافها، مع الانتصارات الّتي حققها اليهود في حروبهم ضد العرب والمسلمين في فلسطين في عصرنا الحاضر، فقد يلوح لنا أنَّ الآية تركز على عدم بلوغهم الأهداف النهائية لما يريدون في خطواتهم العسكرية والسياسيّة من السيطرة على العالم، وبذلك تُمثِّل الآية نبوءةً لمستقبلٍ قادمٍ يؤدي إلى هزائم مستقبليّة، من خلال انتفاضاتٍ إسلاميّةٍ قادمة. وربَّما جاء في بعض التفاسير، أنَّ الآية تتحدث عن الحروب الدينية الّتي يطلقها اليهود في حياة الديانات الآخرى، لا عن الحروب السياسيّة الّتي قد لا يتقمّص فيها اليهود شخصيتهم اليهوديّة، بل يتحركون في نطاق التيارات السياسيّة المطروحة في العالم لتكون شخصيتهم مجرّد سلاح للمعركة، ولكنَّ الباحث المدقق قد يستطيع التحفظ على هذا التفسير من خلال الطروحات الّتي تحكم الساحة اليهوديّة الّتي تؤكد على الصفة الدينية كأساس للقوميّة الإسرائيليّة، وتتحدث عن التوراة كمنطلق للطموحات اليهوديّة في ما تدعي شرعيته من الأرض والحكم والسيادة في الماضي والحاضر والمستقبل. ويبقى لنا مع التاريخ القادم، القيام برصد للمستقبل من خلال ما نصنعه من تاريخٍ جديدٍ يبسط سيادة الإسلام على العالم.

* * *

اليهود سعاة فساد

{وَيَسْعَوْنَ فِي الأرضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} بما يثيرونه من قلاقل ومؤامرات في مجال الحرب والسياسة على مستوى العالم، وبما يعملون له من إفسادٍ للعقائد والأخلاق والعلاقات الإنسانيّة، وتشويهٍ للتاريخ في قوانينه وأوضاعه وحقائقه، وتحليلٍ مزيّفٍ لتطلعات الإنسان المستقبليّة، لأنَّ قصة القيم عندهم، في ما يطرحونه من شعارات القيم الأخلاقية، لا تثير أيّ إحساسٍ أخلاقيٍ في ما يتعلّق بالآخرين، بل هي محدودةٌ بحدود الشعب اليهودي الَّذي يملك كل الامتيازات والحقوق بالنسبة إلى العالم، بينما يتحمّل العالم بالنسبة إليهم كل المسؤوليات والواجبات. وهكذا يرون في فساد العالم وتدميره الفرصة الّتي يحاولون من خلالها فرض نفوذهم، وإظهار تفوقهم وحضاريتهم في مجال الأخلاق العامّة والخاصة، وبهذا كان تاريخهم في خط حركة الرسالات، هو التآمر عليها، وإفساد حياة أتباعها في تصوراتهم وفي سلوكهم العملي.

أمَّا في خط السياسية والاقتصاد والاجتماع والأخلاق، فإنَّهم يلجأون إلى كل ما يملكون من أدوات الإفساد والبلبلة والإرباك والتمييع من أجل إيجاد حالة من الاهتزاز والضياع في حياة النَّاس، وخلق وضعٍ داخليّ نفسيٍّ يوحي بالتمرُّد على كل المبادىء والأعراف والتقاليد، بقطع النظر عن الموازين الهادئة، لما هو خيرٌ أو شرٌ، أو مصلحةٌ أو مفسدةٌ، في هذا الجانب أو ذاك، وذلك بطرق وأساليب خفية، تتخذ من الواجهات السياسيّة والاجتماعيّةٍ والدينية ستاراً تختفي وراءه، بحيث يبدو الأمر كما لو كان حركةً تطورية عفوية، بما تحفل به الحياة من حركات التطور الاجتماعي والفكري. وعلى ضوء هذا العرض القرآني لصفات اليهود، في تجاوزهم كل الحدود في التعدي على حرمات الله بالمستوى الَّذي لا يتورّعون عن القول بأنَّ {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وفي هذا الجو النفسي الداخلي والبغيض، وفي خطواتهم العمليّة المستمرة على مدى التاريخ في إفساد البلاد والعباد، لا بُدَّ لنا من الحذر في التعامل والتعايش معهم في عملية رصدٍ واعيةٍ ذكية، تهدف إلى تفشيل كل مخططاتهم، وتحجيم كل قوتهم، وتهديم كل أوضاعهم، لنحفظ للحياة سلامها وصلاحها لإطلاقها في طريق الله بأمانٍ وإخلاص.

* * *

الله لا يحب المفسدين

{وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} لأنَّ الله يريد للحياة السير على خط الصلاح والإصلاح بما يُمثِّله ذلك من مصلحة الإنسان الحقيقيّة على مدى الزمن، ولذلك، فإنَّه يحب الصالحين والمصلحين الَّذين ينفذون تعاليمه ويخضعون لإرادته، ولاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون على النَّاس حياتهم، ويبعدونهم عن سلامة المصير في الدنيا والآخرة، ويتمرّدون على أوامر الله ونواهيه، وينحرفون عن الخط المستقيم في ما تفرضه إرادة الله من السير على طريق الاستقامة في سلوك الإنسان في الحياة. وإذا كان الله لا يحب المفسدين، كان من اللازم على المؤمنين أن يرفضوا التعاطف مع هؤلاء، لأنَّ بناء شخصيّة المؤمنين يرتكز على قاعدة الانسجام مع خط رضى الله في مشاعره وعواطفه، فيحب من أحبه الله ويبغض من أبغضه، وبذلك يُمكن للاستقامة في الجانب العاطفي في داخل الإنسان، أن تفرض نفسها على طبيعة العلاقات الإنسانيّة الّتي يتحرك فيها الشعور، وتفرضها العاطفة، فلا يكون هناك فاصل في شخصيّة الإنسان الازدواجية بين نوعين من الشخصيّة، بل يعيش الوحدة التامة الّتي تجعل تصوّراته الذاتية على هيئة تصوّراته الرسالية الإسلاميّة، في ما يتحرك فيه الفكر والعاطفة والعمل.

* * *

الإيمان مدخل لتكفير الذنوب

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} فليست هناك عقدةٌ ضدّ أهل الكتاب، لأنَّ ذلك ليس معقولاً في ما يتعلّق بعلاقة الله بخلقه في ثوابه وعقابه، فليس له مصلحةٌ في طاعة من أطاعه، على مستوى الذات، وليس عليه خسارةٌ في معصية من عصاه، بل كل ما هناك هو حكمة الله ورحمته بما يصلح أمرهم، ويسهل لهم حياتهم، وليس أهل الكتاب بدعاً من النَّاس الَّذين يعصون الله، ولن يكونوا بدعاً من النَّاس الَّذين يتوبون إلى الله عندما يتوبون، بل هم بشرٌ ممن خلق، فإذا تابوا وأصلحوا وأنابوا، فإنَّ الله يتوب عليهم، ويكفّر عنهم سيئاتهم، ويدخلهم جنّات النعيم. وفي ضوء ذلك، يتبلور المفهوم الإسلامي في العلاقات السلبيّة الّتي يعيشها المسلم مع الآخرين الَّذين يختلف معهم في الخط، فليست هناك عقدةٌ ذاتيةٌ ضد الشخص أو الجماعة، بل هناك موقفٌ ضد الخط الفكري والعملي، فإذا تغيّر الخط في الاتجاه الإيجابي، تغيّر الموقف في هذا الاتجاه من دون أن يخلِّف الماضي عقدةً لدى الحاضر أو المستقبل في ما كان يعيشه من تصرّفات سلبية متشنِّجة.

* * *

إقامة حكم الله أساس للرخاء الاجتماعي

{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ} لقد جاءت الرسالات الإلهيّة من أجل إقامة العدل على الأرض بين النَّاس وإشاعة الرخاء والأمن والطمأنينة في الحياة من خلال ذلك، لأنَّ العدل كلما امتد في الأرض، كلما تساقطت الامتيازات المصطنعة والأنانيات المعقدة، وتحولت الأوضاع من حالة تخلُّفٍ وضياعٍ إلى حالة تقدمٍ وانطلاقٍ وامتداد في رحاب الله. وهكذا كانت رسالة التوراة والإنجيل في مفاهيمهما العامّة الّتي لا تختلف مع حركة الرسالة الأخيرة، وهي الإسلام، وإن كانت تختلف معه في بعض التفاصيل، فهي سبيل رخاء في ما تستهدفه من بناء الشخصيّة الإنسانيّة على أساس متين، فلا مجال لأي انحراف أو اهتزاز وارتباك يحاول إفساد العلاقات، وبالتالي، إفساد الحياة العامة والخاصة للنَّاس. وعلى ضوء هذا، جاءت الآية الّتي توحي إليهم بأنَّ كل هذه المشاكل التي يتخبطون فيها، وما يلحق بهم من هزائم وفقر وقلق وارتباك وفساد، كانت ناشئة من عدم ارتباطهم العملي بالتوراة والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربِّهم من الكتب الأخرى، فلو أقاموها فيما بينهم {لآكلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} لأنَّهما سبيلان للخير والأمن والصلاح. وقد يثير بعض المفسرين في هذا المجال مسألة هذا التأكيد القرآني على التوراة والإنجيل، ما يوحي بأنَّهما يُمثِّلان الحقيقة في صورتهما الحاليّة الموجودة عند اليهود والنصارى، وهذا ما يتنافى مع إشارة القرآن إلى وجود بعض التحريف فيهما من بعض الجهات، ولا يتوافق مع فكرة نسخ الشرائع الّتي يفرضها تعاقب الرسالات؟! ولكنَّنا نجيب عن ذلك، بأنَّ الآية تتحدث عن التوراة والإنجيل بما يُمثِّلانه من حقيقةٍ نازلةٍ من السماء على موسى وعيسى(ع)، وأمَّا قضيّة النسخ، فإنَّها لا تتناول المفاهيم العامة الّتي تعتبر المبادىء الأساسية الّتي تنزلت بها الرسالات في ما ترتكز عليه قضيّة الإيمان والحياة، بل تتناول التفاصيل والجزئيات الّتي تختلف حسب اختلاف الزمان والمكان، وهذا ما يؤكده الإنجيل الَّذي جاء مُصدقاً لما بين يديه من التوراة، وما يؤكده القرآن الَّذي جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وهذا ما يوحيه الإيمان الإسلامي لأتباعه، بالإيمان بما أنزل إلى محمَّد(ص) وإلى النبيين(ع) من قبله.

* * *

ليس كل اليهود والنصارى سواء

{مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} وهذا توضيحٌ من الله سبحانه وتعالى للحقيقة الواقعيّة الّتي كان عليها أمر اليهود، فلم يكن هؤلاء بأجمعهم فاسقين، ولكنَّ الأكثرية منهم كانت كذلك، فهناك أمّةٌ مُقتصِدةٌ، أي معتدلةٌ في أمور الدين والحياة، لا تنحرف عن الخط، بل تظل منسجمة مع الاستقامة في العقيدة والعمل، ليأخذ كل واحد حقّه في الأحكام التقييمية السلبيّة والإيجابيّة.

وربَّما كان من الضروري لنا أن نستوحي من هذا التوضيح الإلهي الَّذي استهدف وضع الأمور في نصابها الصحيح، وعدم إلحاق الأقل بالأعم الأغلب في الأحكام السلبية، كيف نصدر أحكامنا في الأمور العامّة على الجماعات أو المواقف والأحداث، فلا نستعمل التعميم في المجالات السلبية والإيجابيّة فنطلق الحكم بشكلٍ عام، بل ينبغي لنا أن نعطي كل ذي حقٍّ حقَّه، لئلا نظلم النَّاس حقوقهم في ما ننسبه إليهم مما لا دخل لهم فيه من قريب أو من بعيد.

ــــــــ

(1) انظر مجمع البيان، ج:3، ص:272 ـ 273.

(2) مفردات الراغب، ص:471.

(3) الدر المنثور، ج:3، ص:112.

(4) جاء في المجمع، قال أبو علي الفارسي: قوله ـ أي الزجّاج ـ نعمتاه مبسوطتان، لا يدل على تقليل النعمة وعلى أنّ نعمته نعمتان ثنتان، ولكنه يدل على الكثرة والمبالغة، فقد جاء التثنية ويُراد به الكثرة والمبالغة وتعداد الشيء، لا المعنى الذي يشفع الواحد المفرد، ألا ترى إلى قولهم: لبيك إنما هو إقامة على طاعتك بعد إقامة، وكذلك سعديك إنما هو مساعدة بعد مساعدة، وليس المراد بذلك طاعتين اثنتين ولا مساعدتين، فكذلك المعنى في الآية أنّ نعمه متظاهرة متتابعة. فهذا وجه، وإن شئت حملت المثنى على أنه تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد، ويكون أحد جنسي النعمة نعمة الدنيا، والآخر نعمة الآخرة أو نعمة الدين"*، انتهى. ويمكن أن يكون الأساس في التعبير أن العطاء يكون باليد، فإذا كانت اليدان مبسوطتين بالعطاء، فكأنه يعطي بكل وسيلةٍ من وسائل العطاء، فلا تبقى وسيلة لا يعطي بها كناية عن شمول العطاء عنده. والله العالم. مجمع البيان، ج:3، ص:273.