تفسير القرآن
المائدة / من الآية 72 إلى الآية 77

 من الآية 72 الى الآية 77

الآيــات  

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبُّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ يَـأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ}(72ـ77).

* * *

معاني المفردات

{يُشْرِكْ}: أصله الاجتماع في الملك، فإذا كان الملك بين نفسين فهما شريكان، وكذلك كل شيء بين نفسين، ولا يلزم على ذلك ما يضاف إلى كل واحد منهما منفرداً، كالعبد يكون ملكاً لله وهو ملك للإنسان، لأنَّه لو بطل ملك الإنسان لكان ملكاً لله كما كان لم يزد في ملكه شيء لم يكن.

{لَيَمَسَّنَّ}: المسّ ـ ههنا ـ معناه ما يكون معه إحساس وهو حلوله فيه، لأنَّ العذاب لا يمس الحيوان إلاَّ إذا أحس به، وقد يكون المسّ بمعنى اللمس.

{يُؤْفَكُونَ}: الإفك: الكذب لأنَّه صرفٌ عن الحقّ، وكل مصروفٍ عن شيء، مأفوك عنه، وقد أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر، والمؤتفكات المتقلبات من الرياح لأنَّها صرفت عن وجهها.

{لاَ يَمْلِكُ}: الملك: القدرة على تصريف ما للقادر عليه أن يصرفه، فملك الضرر والنفع أخص من القدرة عليها، لأنَّ القادر قد يقدر من ذلك على ما له أن يفعل، وقد يقدر منه على ما ليس له أن يفعل.

{ضَرّاً}: الضرر: هو فعل الألم والغم، أو ما يؤدي إليهما أو إلى واحدٍ منهما، كالآلام الّتي توجد في الحيوان، وكالقذف والسبّ، لأنّ جميع ذلك يؤدي إلى الألم.

{نَفْعاً}: النفع: هو فعل اللذة والسرور، أو ما أدى إليهما أو إلى أحدهما مثل الملاذ الّتي تحصل في الحيوان، والصلة بالمال، والوعد باللذة، فإنَّ جميع ذلك نفع لأنَّه يؤدي إلى اللذة.

{لاَ تَغْلُواْ}: الغلو تجاوز الحد، أي لا تتجاوزوا الحد في مقام المسيح بالنسبة إلى النصارى، وعزير بالنسبة إلى اليهود.

{أَهْوَآءَ}: جمع هوى والهوى هو لطف محل الشيء من النفس مع الميل إليه بما لا ينبغي.

* * *

المسيح يشهد على نفسه بالعبودية

لقد تحدثنا في تفسير الآية(17) من هذه السورة عن معنى الكفر في الإسلام، وذكرنا أنَّ الانحراف في التصوّر لفكرة الإله، كالإيمان بتجسده في رجل كالمسيح، وكعليّ كما يعتقده الغلاة فيه، هو مظهرٌ من مظاهر الكفر، وبذلك يلتقي الكفر ـ في مفهومه الإسلامي ـ بالعقيدة الّتي تجسد الله في المسيح ليكون المسيح هو الرب والإله، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} أو تحوّل إلى حقيقةٍ واحدة، مؤلفةٍ من ثلاثة أقانيم كما هو في عقيدة الأب والابن والروح القدس، لأنَّ كلاً من هذين التصورين يُمثِّل الانحراف عن الخط الإسلامي للعقيدة. وقد عالج القرآن هذه الفكرة بعدّة أساليب، فنراه في الآية الأولى يشير إلى شهادة المسيح على نفسه بالعبوديّة في دعوته النَّاس إلى عبادة الله {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِى إِسْرَائيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبُّى وَرَبَّكُمْ} فإنَّ من كان الإله متجسداً فيه، لا يكون له رب بل هو الرب. ويؤكد الفكرة بالحديث عن مصير المشركين بالله الَّذين يتمثَّل إشراكهم تارة في عبادة غير الله مع الاعتراف بمغايرته له، إلى جانب عبادة الله من أجل أن يقربهم إلى الله زلفى، وأخرى في عبادة غير الله مع الاعتراف بأنَّه الله، لأنَّ النتيجة فيهما واحدة وهي عبادة غير الله في الحقيقة، الّتي حرّم الله الجنَّة على أصحابها وجعل مسكنهم النَّار، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] في ما يُمثِّله من إساءة لعظمة الله وحقّه في توحيد العقيدة والعبادة.

* * *

التثليث انحراف عن وحدانية الله

أما في الآية الثانية، فقد أشار إلى فكرة التثليث وأكَّد انحرافها بالتأكيد على وحدانيّة الله بكل ما للوحدة من بساطة تمنع التركيب والتجزؤ وتنافي التعدد، ثُمَّ وجه إليهم الإنذار بقوله: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} وذلك من دون أن يدخل معهم في جدل فكري أو نقاش عملي، لأنَّ المسألة عندهم لم ترتكز على أساس القناعة الفكريّة والبحث العملي، بل ارتكزت على أساس الاعتماد على النظرة السطحيّة الضبابيّة للأشياء، ما يجعل من كل أحاديث القرآن عن التوحيد، وعن صورة عيسى(ع) البشرية في ضعفها البشري، رداً علمياً مبسطاً على كل هذا اللون من الفكر المنحرف، ودعوةً إلى السير في طريق التأمل في اكتشاف الانحراف من أجل الوصول إلى النتيجة الحاسمة. وإنَّ أسلوب الإنذار والتهديد طريقةٌ قرآنيةٌ حكيمةٌ تهدف إلى أن تجعل الإنسان يواجه الموقف بجديّةٍ أكبر، واهتمامٍ أشد، بما يمثِّله ذلك من علاقةٍ بقضيّة المصير، ويبعده عن أن يتصرّف فيه بأسلوب اللاّمبالاة والعبث، لأنَّ كثيراً من المواقف الفكرية المنحرفة، قد تعود إلى عدم الإيمان بخطورة النتائج العملية للانحراف، ما يوحي بعدم بَذْلِ الجهد في سبيل التصحيح. وفي ضوء ذلك، جاءت الآية الثانية لتدعو القائلين بالتثليث إلى الانتهاء عنه {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} لأنَّ التثليث ليس فكراً حقيقيّاً ليلتزموا به من خلال الالتزام بالحقيقة، بل هو الفكر المنحرف الَّذي ينبغي لأصحابه أن يكتشفوا انحرافه بالتأمل والتدبُّر، والوعي الكامل العميق لفكرة التوحيد، {وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ} بل انطلقوا في خط التعصب، {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فعليهم أن ينتظروا العذاب الأليم، جزاء كفرهم.

* * *

دعوة إلى التوبة

أمَّا الآية الثالثة، فتجسد بأسلوب التساؤل دعوة إلى التوبة والاستغفار والتراجع عن هذا الخط المنحرف، تماماً كما هي المعصية عندما يمارسها الإنسان المؤمن، {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} لأنَّ الانحراف في العقيدة، أشدّ خطراً من الانحراف في العمل... وتفتح لهم أبواب الأمل بالمغفرة والرحمة من الله، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، يغفر لعباده انحرافاتهم الفكرية والعملية إذا رجعوا عنها من موقع رحمته الّتي وسعت كل شيء.

* * *

المسيح رسول وأمّه صدّيقة

وتأتي بعد كل هذا الوعيد والإنذار والدعوة إلى التراجع، الصورة الحقيقيّة لعيسى بن مريم(ع): {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فهو رسول لله أرسله إلى عباده بعد فترة من خُلُوِّ الساحة من الرسل، ليتجدد به خط الرسالات وحركة الرسل، {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} صدّقت الله بإيمانها، وأخلصت لله في العبادة والموقف، وواجهت كل التحديات بروح المؤمنة الصادقة التقيّة، فلم يكن في عيسى(ع) أيٌّ مظهرٍ من مظاهر الألوهيّة أو أيُّ سرٍّ من أسرارها، بل كانت آيات الله الظاهرة على يديه، كالآيات الظاهرة على أيدي الرسل الَّذين سبقوه، من دون فرق إلاَّ في الشكل، تبعاً للظروف الّتي تتنوع من خلالها المعجزة. ولم يكن في أمّه أيّ سرٍ من أسرار القداسة الغيبية التي توحي بعبادتها من قبل النَّاس، بل كانت قداستها الروحيّة بإخلاصها لله وصدقها في إيمانها به كأيةّ مؤمنةٍ تقيّةٍ أخرى، ولكن بدرجةٍ أكبر وقيمةٍ أعلى، لأنَّ الله فضّلها على نساء العالمين. وقد {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} كما يأكله بقيّة البشر، في نوعيته وطريقته، فليس هناك أكل إلهي أو طريقة إلهيّة في الأكل. وذلك هو دليل المادية والحاجة والفاقة المنافية للألوهية، فكيف يؤلهون مَنْ هذا شأنه؟ {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، يكذِّبون ويتبعون الإفك من دون شعورٍ بالمسؤوليّة في خط العقيدة والعمل.

ويستمر التساؤل ليؤكد الصورة، وليعمق الإحساس بالعبث في ما يمارسونه من شؤون الفكر، {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فماذا يملك عيسى(ع) من مقوّمات القوّة الذاتية الّتي يستطيع من خلالها أن يمنحكم النفع أو يدفع عنكم الضرر؟ إنَّه لا يملك شيئاً من ذلك في ذاته، بل هو بشر كبقيّة البشر في قدراته الطبيعيّة، وليس له شيء أكثر من ذلك إلاَّ في ما أجراه الله على يديه من آياته، مما أراده الله من مواجهة الرسالة للتحدي من أجل إخضاع الكفر والكافرين بطريقة المعجزة، ولكنَّها شأن من الشؤون الّتي لا تملك امتداداً ولا عمقاً في شخصيته، فلها وقتها المعين، وحدودها الخاصة. ويتحرّك بعد ذلك الإنسان في عيسى(ع) بقدرته المحدودة الّتي لا تملك نفعاً ولا ضراً لنفسها ولا لأحد، فكيف تسيرون في هذا الاتجاه؟ وكيف تأمنون على أنفسكم المسؤوليّة غداً أمام الله الَّذي يسمع ما تقولون، ويعلم ما تضمرون {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}؟

* * *

نهي عن الغلو في الدين واتباع الأهواء

{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ في دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} لماذا الغلوّ في شخصيّة السيِّد المسيح(ع)؟ ولماذا هذا الانحراف؟ ماذا تستفيدون من ذلك كله؟ وما النتيجة الحقيقيّة في هذا الاتجاه على مستوى ما تحصلون عليه من أرباحٍ في ابتعادكم عن الحق؟ لا شيء، لأنَّ الأمر كله بيد الله الَّذي يدعوكم إلى الهدى، فاستجيبوا له بالسير على خط الحقّ. {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} لأنَّهم لا يريدون لكم الخير والنجاة، فإذا كانوا قد ضلوا ولم يهتدوا الطريق، فكيف يُمكن أن يمنحوكم الهدى، فإنَّ فاقد الشيء لا يعطيه؟ وإذا كانوا قد أضلوا كثيراً من النَّاس قبلكم فكيف تأمنونهم على أنفسكم؟ ولا بُدَّ للإنسان العاقل من اتباع الفكر الَّذي ينطلق به الآخرون، إذا اقتنع به، فلا يتبع أهواءهم في ما يحبونه أو يبغضونه، لأنَّ اتباع هوى النفس يؤدي إلى الضلال، لأنَّه لا يرتكز على قاعدة، فكيف باتباع هوى الآخرين؟