من الآية 78 الى الآية 81
الآيــات
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبي وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}(78ـ81).
* * *
معاني المفردات
{لاَ يَتَنَاهَوْنَ}: للتناهي ـ هنا ـ معنيان؛ (أحدهما) أنَّه تفاعل من النهي أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً، (والثاني) أنَّه بمعنى الانتهاء يُقال: انتهى عن الأمر وتناهى عنه إذا كفّ عنه.
{يَتَوَلَّوْنَ}: أي يجعلونهم أولياء لهم ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم.
* * *
مناسبة النزول
جاء في الدر المنثور: قال: أخرج ابن راهويه، والبخاري في الوحدانيات، وابن السكن وابن منده، والباوردي في معرفة الصحابة، والطبراني وأبو نعيم وابن مردويه، عن ابن أبزى عن أبيه، قال: «خطب رسول الله(ص) فحمد الله وأثنى عليه، ثُمَّ ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيراً، ثُمَّ قال: ما بال أقوام لا يعلّمون جيرانهم ولا يفقهونهم ولا يفطنونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون، والَّذي نفسي بيده، ليعلّمنّ جيرانه أو ليتفقهنّ أو ليتفطّنّن، أو لأعالجنّهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثُمَّ نزل فدخل بيته، فقال أصحاب رسول الله(ص): من يعني بهذا الكلام؟ قالوا: ما نعلم يعني بهذا الكلام إلاَّ الأشعريين فقهاء علماء، ولهم جيران من أهل المياه جفاة جهلة، فاجتمع جماعة من الأشعريين، فدخلوا على النبيّ(ص) فقال: ذكرت طوائف من المسلمين بخير وذكرتنا بشرّ فما بالنا؟ فقال رسول الله(ص): لتعلّمُنَّ جيرانكم ولتفقهُنّهم ولتأمرُنّهم ولتنهونَّهم أو لأعاجلَنَّكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا: يا رسول الله، فأمَّا إذن فأمهلنا سنة، ففي سنة ما نعلّمه ويتعلمون، فأمهلهم سنة، ثُمَّ قرأ رسول الله(ص): {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}»[1].
وجاء في تفسير العياشي عن محمَّد بن الهيثم التميمي عن أبي عبد الله(ع) في قوله: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} قال: "أمَّا إنَّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجالسون مجالسهم ولكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم وَأنِسوا بهم"[2].
* * *
عدم النهي عن المنكر يؤدي إلى خراب المجتمعات
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} لقد عاش داود(ع) مع بني إسرائيل من أجل أن يدعوهم إلى الله، وعاش عيسى(ع) معهم، من أجل أن يعلّمهم الكتاب والحكمة، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، في طريق الله. وكانت النتيجة لديهما، أنَّهما واجها جمهوراً كبيراً من الكافرين الَّذين وقفوا ضدهما وضد رسالتهما موقف جحود وكفران، وحاولا قيادتهم إلى الحوار فلم يقبلوا، وأطلقا فيهم دعوةً إلى الحق فلم يستجيبوا، وأقاما عليهم الحجّة فلم يهتدوا. ولم تنفع كل التجارب معهم، فلم يكن منهما إلاَّ أن أطلقا اللعنة في وجوههم، وطلبا من الله أن يبعدهم عن رحمته لأنَّهم لا يستحقونها، {ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} بسبب معاصيهم المتكرّرة، وعدوانهم على عباد الله، وعلى رسله ورسالته، وكان من ملامحهم في كفرهم العملي، الناشىء من كفرهم الفكري، أنَّهم {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}.، فلا خطورة عندهم في فعل المنكر، بل هو شيءٌ طبيعيٌ يمارسونه ببساطةٍ وعفويّة، كما يُمارسون أوضاعهم الطبيعيّة الأخرى، فلا يشعرون بحرجٍ منه، ولذلك لم يعيشوا في مجتمعهم التناهي عنه، فلا ينهى أحدهم الآخر عن فعل المنكر، كما يفعله النَّاس الَّذين يرفضون المنكر فكريّاً وعمليّاً، {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} لأنَّ ذلك هو سبيل خراب المجتمعات، وسرّ دمارها. فإنَّ المجتمعات الّتي يُمارس أفرادها المُنكرات، كالظلم والبغي والعدوان والتمرُّد على الله في حلاله وحرامه وأكل أموال النَّاس بالباطل ونحو ذلك، ولا يتناهى أفرادها عنه، سوف تقع في قبضة النتائج السلبية المطلقة من ذلك كله.
* * *
ولاية الكافرين لا تلتقي والإيمان بالله ورسوله
وكان من ملامحهم أنَّهم {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ويخلصون لهم المودّة، ويتعاونون معهم في محاربة خط الرسالات، لأنَّ الكفر لا يُمثِّل عندهم عقدة فكريّة أو نفسيّة، ليكون ذلك بمثابة الحاجز الداخلي الَّذي يمنع من المودّة الروحيّة والعمليّة، بل هو ـ على العكس من ذلك ـ يُمثِّل انفتاحاً، بمقدار ما يلتقي الفكر بالفكر، والأهداف بالأهداف، {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يعتبر أنَّ هذا السلوك هو بئس السلوك الَّذي قدمته لهم أنفسهم، وقادتهم إليه أهواؤهم، فأبعدتهم عن رحمة الله، {أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَـلِدُونَ } وقربتهم من سخطه الَّذي لن يجدوا أمامهم معه إلاَّ الخلود في العذاب، {وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} فقد جعله الله جزاءً للمتمرّدين والكافرين.
ثُمَّ يُوضح القرآن خط الفكرة، فإنَّ ولاية الكافرين الّتي تُمثِّل إزالة كل الحواجز الفكريّة والنفسيّة والعمليّة بينهم، لا يُمكن أن تلتقي في خط واحد، مع الإيمان بالله وبرسوله وبالوحي الَّذي أنزل عليه، لأنَّ الإيمان بذلك كلّه يعني العمل على بناء الشخصيّة على الإخلاص لله وللرّسول، والاندماج في أجواء الوحي ومخططاته، وبالتالي، تحديد المواقف من الأشياء والأشخاص على هذا الأساس من خلال ما تُمثِّله قضايا الإيمان من قيمةٍ روحيّةٍ وفكريّةٍ وعمليّة للإنسان وللحياة، فلا مجال للانسجام مع الخطوط المضادّة، أو مع الأشخاص الَّذين يتحرّكون في اتجاه هذه الخطوط، لأنَّ ذلك يعني الرضى بالخط المنحرف، في الموقف أو في الشخص، أو التهوين من خطورته، بالفصل بين الذات والفكر والموقف. فإذا كان التوافق في هذه الأمور كانت الولاية والمودّة، وإذا كان التنافر والاختلاف فيها، كانت المواجهة والمضادّة في المواقف والعلاقات، وهذا ما ينبغي لنا ـ كمسلمين وكعاملين للإسلام ـ أن نواجهه حين نواجه أمر العلاقات بيننا وبين الآخرين الَّذين نختلف معهم في أمر العقيدة والسياسة والاجتماع. فقد نلاحظ أنَّ هناك دعواتٍ في الساحة، تعمل على تبسيط المسألة وتخفيف خطرها، وتحويلها إلى حالةٍ هامشيّةٍ لا دخل لها في حركة العلاقات الفكريّة والشعوريّة والعمليّة، لأنَّ طبيعة العلاقات ـ كما يرى هؤلاء ـ تتحرّك من قاعدة العلاقات الذاتيّة الحميمة، بعيداً عن كل الخلافات في القضايا الفكريّة، هذا ما نشاهده في التقاء الفئات المختلفة في الكفر على أكثر من صعيدٍ في حركة العلاقات الذاتيّة من دون أن يحدث ذلك أي خلل في العقيدة أو في الانتماء.
إنَّ مثل هذه الدعوات قد تخلط بين العلاقات الإنسانيّة المتمثِّلة بشؤون الحياة وأوضاعها الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وبين العلاقات الإنسانيّة الخاصة المتمثِّلة في ما يتخذه النَّاس من مواقف وأفكار، في آفاقها النفسيّة والفكريّة، ما يفرض نوعاً من الحدود الداخليّة والخارجيّة الّتي تحمي الأفكار والمواقف من الميوعة والذوبان في غمار العلاقات العاطفيّة الحميمة. إنَّ المودّة تقف في الجانب الثاني، أمَّا المعاملة فتقف في الجانب الأول، وذلك هو الخط الفاصل بين علاقات المودّة وعلاقات المعاملة، حيث يرفض الإسلام الأولى بين الكافرين والمؤمنين، ويوافق على الثانية بين مختلف الفئات، وذلك هو الإيحاء القرآني للمرحلة العمليّة الّتي يخوضها المسلمون في مواجهة الكفر بجميع أشكاله وألوانه، لتبدأ المجابهة الرافضة من الداخل لكلّ ما هو كفرٌ أو حركةٌ في اتجاه قوّة الكفر، لتتحول إلى موقفٍ حاسمٍ في ساحة الصراع.
ـــــــــــــ
(1) الدر المنثور، ج:3، ص:125.
(2) تفسير الميزان، ج :6، ص:84.
تفسير القرآن