من الآية 82 الى الآية 86
الآيـــات
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَايَاتِنَآ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
(82ـ86).
* * *
معاني المفردات
{قِسِّيسِينَ}: قال الزجاج: القسيس والقس من رؤساء النصارى، فأمَّا القِس في اللغة فهو النميمة ونشر الحديث[1].
{وَرُهْبَاناً}: جمع راهب، والرهبانيّة مصدره، والترهُّب: التعبُّد في صومعة، وأصله من الرهبة المخافة.
{تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}: فيض العين من الدمع: امتلاؤها منه كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء: سيلانه. والدمع: الماء الجاري من العين، ويُشبَّه به الصافي فيُقال: كأنَّه دمعة.
{وَنَطْمَعُ}: الطمع: تعلُّق النفس بما يقوى أن يكون من معنى المحبوب، ونظيره الأمل والرجاء.
{الصالِحِينَ}: جمع الصالح، وهو الَّذي يعمل الصلاح في نفسه، فإن كان عمله في غيره فهو مُصلح، فلذلك يوصف الله تعالى بأنَّه مُصلح، ولم يُوصف بأنَّه صالح.
* * *
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ بإسناده عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وغيرهما قال: «بعث رسول الله(ص) عمرو بن أميّة الضمري بكتاب معه إلى النجاشي، فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله(ص)، ثُمَّ دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، فأرسل إلى الرُّهبان والقسِّيسِينَ فجمعهم، ثُمَّ أمر جعفراً أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم(ع) فآمنوا بالقرآن وأفاضت أعينهم من الدمع، وهمُ الَّذين أنزل فيهم: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى} إلى قوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}»[2].
وجاء في مجمع البيان قال: «نزلت في النجاشي وأصحابه. قال المفسرون: ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلةٍ على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم، فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، ومنع الله رسوله بعمّه أبي طالب، فلمّا رأى رسول الله ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: إنَّ بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتَّى يجعل الله عزَّ وجلّ للمسلمين فرجاً، وأراد به النجاشي واسمه أصحمة وهو بالحبشيّة عطيّة. وإنَّما النجاشي اسم الملك كقولهم: تبّع وكسرى وقيصر، فخرج إليها سرّاً أحد عشر رجلاً وأربع نسوة وهم: عثمان بن عفان وامرأته رقيّة بنت رسول الله(ص)، والزبير بن العوام، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أميّة، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة، وحاطب بن عمرو، وسهل بن البيضاء، فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله(ص) وهذه هي الهجرة الأولى، ثُمَّ خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون إليها، وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان. فلمّا علمت قريش بذلك، وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه عمارة بن الوليد بالهدايا إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردوهم إليهم، وكان عمارة بن الوليد شاباً حسن الوجه، وأخرج عمرو بن العاص أهله معه، فلمّا ركبوا السفينة شربوا الخمر، فقال عمارة لعمرو بن العاص: قل لأهلك تقبلني، فأبى، فلمّا انتشى عمرو دفعه عمارة في الماء ونشب[3] عمرو في صدر السفينة وأخرج من الماء، وألقى الله بينهما العداوة في مسيرهما قبل أن يُقدما إلى النجاشي.
ثُمَّ وردا على النجاشي، فقال عمرو بن العاص: أيُّها الملك، إنَّ قوماً خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا وصاروا إليك، فردّهم إلينا. فبعث النجاشي إلى جعفر فجاءه، فقال: يا أيُّها الملك سلهم أنحن عبيد لهم؟ قال: لا بل أحرار، قال: فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟ فقال: لا ما لنا عليكم ديون، قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبونا بها؟ قال عمرو: لا، قال: فما تريدون منّا؟ آذيتمونا فخرجنا من دياركم، ثُمَّ قال: أيُّها الملك، بعث الله فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد وترك الاستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصّلاة والزكاة والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي، فقال النجاشي: بهذا بعث الله عيسى، ثُمَّ قال النجاشي لجعفر: هل تحفظ مما أنزل الله على نبيّك شيئاً، قال: نعم، فقرأ سورة مريم(ع): فلمّا بلغ قوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم: 25] قال: هذا والله هو الحقّ. فقال عمرو: إنَّه مخالف لنا فردّه إلينا، فرفع النجاشي يده وضرب بها وجه عمرو وقال: اسكت والله لئن ذكرته بعد بسوء لأفعلنّ بك، وقال: أرجعوا إلى هذا هديته، وقال لجعفر وأصحابه: امكثوا فإنَّكم سيوم، والسيوم: الآمنون، وأمر لهم بما يُصلحهم من الرزق، فانصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله(ص) وعلا أمره وهادن قريشاً وفتح خيبر، فوافى جعفر إلى رسول الله(ص) بجميع من كانوا معه، فقال رسول الله(ص): لا أدري أنا بفتح خيبر أسرّ أم بقدوم جعفر. ووافى جعفر وأصحابه رسول الله(ص) في سبعين رجلاً منهم اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام فيهم بحيراء الراهب، فقرأ عليهم رسول الله(ص) سورة (يس) إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله فيهم هذه الآيات»[4].
* * *
النصارى الأقرب مودة للذين آمنوا
لم يلتقِ النبيّ محمَّد(ص) أهل الكتاب في موقف صراع في مكّة، فقد كان المجتمع المكّي مجتمعاً وثنياً مشركاً، إلاَّ من بعض أفراد قلائل، ولذا لم نجد في الآيات، الّتي نزلت في مكّة، ما يشير إلى أي جدال أو حوار بينه وبينهم، لأنَّه كان مشغولاً بمحاربة الشرك والوثنيّة من جهة، ولأنَّهم لا يعتبرون مشكلة إسلاميّة من جهة أخرى.
وربَّما نلمح في البداية تعاطفاً وتقارباً بينه وبين المجتمع النصراني في مكان آخر، من خلال مشروع هجرة المسلمين المضطهدين إلى الحبشة فراراً بدينهم، أملاً في أن يجدوا هناك بعض الحريّة والطمأنينة في ممارسة عقيدتهم، وهذا ما حصل كما يحدثنا به التاريخ الإسلامي، وتشير إليه بعض الآيات الكريمة. فقد حدّثنا التاريخ أنَّهم قد حصلوا على الحماية القويّة عند ملك الحبشة النجاشي، حيث حال بينهم وبين قريش الّتي لحقت بهم إلى هناك لتوغر صدره عليهم، فلم يستجب لذلك، بل أصغى مع جماعته إلى أفكار المسلمين وأقوالهم، وانسجموا مع الأجواء الروحيّة الّتي أفاضها القرآن الكريم عليهم، بما تلاه المسلمون من الآيات الّتي تتحدّث عن عيسى وأمّه(ع)، وعن المعاني الروحيّة الكبيرة الّتي أوحى بها الله إلى نبيه، ما يلتقي مع الخط الواحد للرسالات السماوية، لأنَّهم رأوا فيها روحانيّة المسيحيّة الحقَّة، وإخلاصها وواقعيتها الخاشعة، مما جعل {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} خشوعاً لله سبحانه، كما أشارت إليه هذه الآيات.
* * *
اليهود غدر دائم بالمسلمين
وهاجر النبيّ محمَّد(ص) إلى المدينة ليشيّد المجتمع الإسلامي الجديد على دعائم القوّة والعلم والتقوى، فواجه اليهود من أهل الكتاب هناك، إذ لم يكن في المدينة نصارى، متجنباً الاصطدام بهم، بل أكثر من ذلك، اتخذ موقفاً منهم في غاية الحكمة، إذ عقد معهم معاهدة صداقةٍ تفسح المجال للتعايش السلمي بين الديانتين، قائمةٍ على أساس الحوار بعيداً عن العصبيات والسلبيات. وكان من الممكن لهذه المعاهدة أن تدوم وتخلق الجوّ الرائع للتعايش الديني السلمي، لكنَّ اليهود أبوا أن يساهموا في استقرار هذا الجو، فمضوا يعدّون العدّة للوقوف بوجه الدعوة الجديدة والنبيّ الجديد.
قال ابن إسحاق، في رواية ابن هشام عنه في سيرة النبيّ(ص): «ونصبت ـ عند ذلك ـ أحبار يهود لرسول الله(ص) العداوة، بغياً وحسداً وضغناً، لما خصّ الله تعالى به العرب من أخذه رسوله منهم، وانضاف إليهم رجالٌ من الأوس والخزرج ممن كان عسى على جاهليته، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلاَّ أنَّ الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه، فظهروا بالإسلام، واتخذوه جُنَّةً من القتل ونافقوا في السرّ، وكان هواهم مع يهود لتكذيبهم النبيّ(ص) وجحودهم الإسلام، وكانت أحبار يهود هم الَّذين يسألون رسول الله(ص) ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل، فكان القرآن ينزل فيهم في ما يسألون عنه…»[5]. وذلك لصرف النبيّ محمَّد(ص) وإشغاله عن مهمته الأصليّة في بناء القاعدة ـ بما تثيره من القضايا الجانبيّة، أو بما تُمارسه من أساليب اللف والدوران، ولتشغل المسلمين عن همومهم العمليّة من أجل مواجهة حياتهم الجديدة في ظل الإسلام، بما يحدثون في داخلهم من ارتباكٍ وقلقٍ وتشويش، وبما يُثيرونه بينهم من خلافاتٍ وانقسامات.
* * *
اليهود وعقدة الزهو والغرور
وفي ضوء هذا العرض البسيط الَّذي يجعلنا نعيش في الأجواء التاريخيّة لنزول هذه الآيات، نستطيع أن نعرف عقدة اليهود الّتي يحملونها ضدّ الإسلام والمسلمين في ما أثاروه ويُثيرونه من مشاكل وخلافات وهموم وتحديات للواقع الإسلامي على مدى التاريخ، لأنَّهم لا ينطلقون من قيمٍ فكريّةٍ وروحيّةٍ معيّنة في ما يخططون ويكيدون له في تصرفاتهم وأعمالهم وعلاقاتهم، بل ينطلقون من شعورٍ مريضٍ بالزهو والخيلاء والكبرياء والتفوّق على بقيّة الشعوب، الأمر الَّذي يدفعهم إلى المزيد من العنصريّة السوداء المتعصبة الحاقدة، ويدفعهم إلى خنق كل عوامل التقدّم والنموّ والقوّة الّتي للآخرين ـ لا سيّما المسلمين ـ الَّذين يطرحون ـ من خلال القرآن الكريم ـ الرفض لفكرة شعب الله المختار، والدعوة إلى إقامة الحياة بكل مظاهرها وتجلياتها وأبعادها على أساس المنطق المسلَّح بالحجج والبراهين الدامغة، وبوسيلة الحوار البنّاء والجدل بالّتي هي أحسن. ولذلك، فإنَّ قصة اليهود في التاريخ هي قصة الشعب المعقّد الَّذي انطلق من التوراة في البداية، لكنَّه ما لبث أن ابتعد عنها في تفكيره، واقتصر منها على الإطار دون الصورة الحقيقيّة، وصولاً إلى استبدالها بالصور المزيفة، الّتي تُحاكي زيفهم الفكري والروحي الَّذي يعيشونه في خطوات الماضي والحاضر والمستقبل.
* * *
النصارى في منتجع القيم الروحية
أمَّا النصارى، فقد انطلقوا من خلال الإنجيل على أساس القيم الروحيّة الّتي يحفل بها، ما يجعل من قضيّة اللقاء بهم قضيّةً تخضع للأجواء الخاشعة في تصورها لله وفي حركة العبادة له، بالرّغم من الاختلاف في تفاصيل ذلك كله. ولهذا، كانت الآيات تؤكد على هذا الجانب الروحي، دون الذاتي، فليست المسألة فئةً تلتقي بفئةٍ على أساس النطاق البشري الَّذي تمثِّله هذه أو تلك، ولكن المسألة مسألة قيم يعيشها ويؤمن بها هؤلاء ليكون اللقاء على أساس ذلك. وقد أشارت الآيات إلى هذه الناحية، واعتبرت وجود القِسِّيسين والرُهبان ظاهرةً إيجابيّة، في ما يُمثِّله هذا اللون من النَّاس من انقطاعٍ للعبادة، وابتهالٍ لله، وتواضعٍ للنَّاس، وابتعاد عن الاستكبار. وتحدّثت عن التجربة الأولى للقاء، في الوقت الَّذي لم يكن فيه المجتمع النصراني قد عاش عقدة الصراع ضدّ الإسلام والمسلمين، نظراً إلى أنَّ القضيّة كانت قضيّة الدعوة في بداياتها الأولى، فقد تلقّى الَّذين استمعوا إلى آيات الله، آيات الله، بروحٍ منفتحةٍ على الخير، واعيةٍ لعمق الروح الإيماني، عائشةٍ للفرح الروحي المتدفق من روحيّة الوحي الإلهي، منفعلين بالحقيقة الصافية المشرقة القائمة على التأمل والإلهام، مرسلة نفوسهم دموع الخشوع فياضة، وامضة بإشارات المحبة والسلام، ويرتعد كيانهم ويقشعر لبرودة الإيمان وهيبة الموقف أمام عظمة الله تعالى، وتكرع أرواحهم كأس الملاطفة من معين الذات الإيماني حتّى الثمالة. فإذا بهم أمام الحقّ الَّذي عرفوه، يبكون من الفرح، {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} تماماً كما هو فرح الأطفال بالهدية الحلوة، في براءة الطفولة، فيبتهلون إلى الله في صلاة خاشعة، لأنَّ الإيمان ليس مجرّد فكر يخضع للمعادلات العقليّة، ولكنَّه فكرٌ وروحٌ وشعورٌ عامرٌ بحركة الحياة، فإذا به يقظة إحساس، ومنطلق روح، وصفاء قلب، وهزّة كيان، {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}، الَّذين يعيشون الحضور الدائم مع الله، فيعيشون ـ من خلال ذلك ـ الحضور الواعي لمسؤوليّة الحياة مع الآخرين.
وهكذا يتحرّك التساؤل في قوّة إرادة الإيمان، {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الَّذي يفرض نفسه علينا في كل ما نفكر ونشعر ونعيش من قضايا الحياة وتفاصيلها، وحركة النفس وتطلعاتها، {وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ} الَّذي يتمثَّل في وضوح الحقيقة في وجداننا وأعماقنا؟! وتلك هي قصة الإنسان الواعي، إذا عاش وضوح الرؤية للأفكار والأشياء، فإنَّه لا يملك إلاَّ أن يلتصق بالمعرفة التصاق إيمان، وينفعل بالحياة، من خلالها، انفعال الموقف والممارسة. أمَّا الإنسان الَّذي يهرب من الحقيقة الّتي تواجهه، ويختبىء وراء أقنعة متنوعة تحجب عنه إشراقتها، فهو الإنسان المعقّد الَّذي لا يعيش الإيمان كمسؤوليّة، بل يتحرّك معه على أساس الرغبة والرهبة في نطاق أنانيّة الذات، وهو غير هذا الإنسان الَّذي يقف وقفة الابتهال الخاشع أمام الله ليعبِّر عن رغباته الروحيّة بين يديه،{وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} فها هي الأشواق الروحيّة تتطلع إلى العيش مع النفوس الصالحة المؤمنة الّتي جاهدت في سبيل الله عندما كانت في الدنيا، وجاءت لتعيش نتائج جهادها في جنَّة الله، رضواناً ورحمةً ومغفرة. وكانت الاستجابة لهذه الابتهالات الروحيّة ثواباً بما قالوا، {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا القول والعمل، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَايَاتِنَآ} أمَّا هؤلاء الَّذين ابتعدوا عن مواقع رحمة الله بعد أن دعاهم الله إليها وتمرّدوا في روحٍ عدوانيةٍ كافرةٍ، أمَّا هؤلاء فهم أصحاب الجحيم {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
* * *
الديانات السماوية وعقد أصحابها
وهكذا نستوحي من هذه الآيات، أنَّ المشكلة الّتي يعانيها أصحاب الديانات السماويّة، في ما يختلفون فيه، ليست مشكلة الفكر الَّذي يتنازعون في صحته وفساده، وليست مشكلة الشريعة الّتي يختلفون في صوابها وخطئها، بل هي مشكلة الروحيّة الّتي يواجهون بها بعضهم البعض. فقد ينطلق البعض من موقع العقدة الّتي تحاول أن تتداخل بسلبياتها الخانقة في كل فكر وكل أسلوب، لتنحرف به عن مساره الطبيعي في حالة المواجهة الفكريّة، فيتحوّل الأمر إلى حرب بين العواطف والتشنجات بدلاً من أن يكون حواراً بين الأفكار، ويلف الموضوع ذلك الضباب النفسي الحائل دون وضوح الرؤية، ما يؤدي إلى التشاحن والتباغض، فالحرب في نهاية المطاف. وقد ينطلق البعض من موقع الفكرة الّتي تتطلع إلى الوضوح، فتواجه الفكر بالفكر الَّذي يُناقش ويُحاور من أجل أن يكتشف المناطق المجهولة لديه، أو يكشف للآخرين المناطق المجهولة عندهم، ليقف الجميع، من خلال ذلك، على أرض الحقيقة الّتي يلتقي عليها كلّ النَّاس الَّذين يعيشون الشوق الروحي إلى المعرفة، وهذا ما يهدف إليه الإسلام في أسلوبه الفكري، في الدعوة إلى الحوار، بالروحيّة الّتي لا تتحرّك من خلفيات العقدة، بل تعيش انطلاقات الفكرة الباحثة عن الوضوح في رحلة البحث عن الإيمان، فلا يتحوّل الاختلاف إلى عداوة تتعمّق بالممارسات السلبيّة، بل يتحوّل إلى تجربةٍ حيّةٍ صادقة تفتح الطريق إلى صداقة فكريّة تتأكد بالكلمات والمواقف الإيجابيّة.
* * *
التواضع للحق أساس الانفتاح على الآخر
وقد يكون من الأفكار التي نستوحيها ـ من هذه الآيات ـ أنَّ هذه المودّة القريبة الّتي يقررها القرآن الكريم، في موقف النصارى من المسلمين، كانت بسبب هذه الروحيّة المتواضعة المنطلقة الّتي يعيشها القِسِّيسون والرُهبان في ما يستلهمونه من تعاليم الإنجيل، وما يستوحونه من ابتهالات التأمل بين يدي الله. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّها تعود إلى الانفتاح الفكري والروحي على الأفكار والآفاق الجديدة التي يطرحها الآخرون من خلال آيات الله، فلا يواجهونها بالرفض السريع، بل بالتأمل الدقيق والفكر العميق، وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نشير إلى عدة نقاط في الموضوع:
أولاً: إنَّ ذلك يدفعنا إلى إفساح المجال ـ دائماً ـ للانطلاق بالواقع إلى هذا الجوّ، فنعمل على إثارة المعاني الروحيّة في أخلاقيات النصرانيّة المستمدة من الإنجيل من أجل اكتشاف مواطن اللقاء في ما يلتقي فيه الإسلام والنصرانيّة من مفاهيم في الإيمان والحياة، ليكون ذلك أساساً لاحتواء كل السلبيات الّتي تتحرّك في الساحة فتدفعها إلى التعقيد والارتباك. وبذلك يُمكن للعاملين أن يبدأوا في عملية الإعداد لإيجاد الأرضية الصلبة الّتي تؤدي إلى الوقوف المشترك، في موقف الاتحاد أو التفاهم.
ثانياً: إنَّ هذه الفكرة توحي لنا بالابتعاد عمّا تعارف عليه النَّاس من أساليب المجاملة الخادعة الّتي تُحاول أن تتغافل عن كل السلبيات بطريقة سطحيّةٍ مائعةٍ تواجه المشكلة في مستوى اللحظات السريعة، لننطلق إلى الدراسة الهادئة الدقيقة، الّتي تعمل على التعامل مع الموقف، من خلال المعطيات الواقعيّة الموجودة في الساحة فتُثير الإيجابيات في بعض المواقع، وتُشير إلى السلبيات في بعض آخر، وقد تغفلها في مواقع أخرى، لتوجه الحالة إلى النتائج الطيبة. إنَّ الابتعاد عن مثل هذه الدراسة الواقعيّة الهادئة، والسير في خط الأساليب العاطفيّة، يميِّع الموقف ويفقده جديته، بل يوحي بالهروب من الواقع والاختفاء خلف الألفاظ البرّاقة، والعودة من جديد إلى تعقيدات الواقع الصعب، بعد اكتشاف السراب في لحظة الوصول إلى الأفق البعيد.
ثالثاً: إنَّ هذا الجو الإيجابي في الآيات، الَّذي يؤدي إلى النتائج الإيجابيّة على صعيد اللقاء، يدفعنا إلى اكتشاف المسألة على مستوى الأرضيّة الّتي نقف عليها، لنتعرّف الملامح الحقيقيّة للواقع، لأنَّ العوامل التاريخيّة والسياسيّة المعقّدة، قد تركت آثاراً عميقة في داخل القلوب والنفوس والأفكار، وخلّفت جروحاً في الأعماق، ما جعل الجوّ يختلف كثيراً عن أجواء هذه الآيات، فكانت العقدة موضع الفكر، وعاش الحقد في مواقع المحبة، وارتفعت الحواجز أمام فرص اللقاء، وبدأت الساحة في بعض مواقعها تتكشف عن نصرانيّة يهوديّة في حقدها وعداوتها للإسلام والمسلمين، الأمر الَّذي يوحي بالحذر الَّذي يدفع إلى الواقعيّة ولا يدعو إلى الشلل، لئلا يجرّنا التساهل في مثل هذه الأمور إلى الوقوع في الفخ المنصوب لنا تحت تأثير الشعارات الخادعة الداعية إلى المحبة، في الوقت الَّذي تعمل فيه، بكلّ جهدها، للتخطيط الدقيق للسير في خط الحقد والعداوة.
رابعاً: إنَّ التأكيد على استخدام صيغة التفضيل في عداوة اليهود والَّذين أشركوا للمسلمين، يجعلنا نواجه الموقف في علاقتنا مع اليهود والجماعات الملحدة والمشركة، من خلال هذا الخط، فنعيش معهم، كما يعيش الإنسان مع عدوّه، لأنَّ اليهود يخططون لإضعاف الإسلام والمسلمين، وبالتالي للقضاء على وجوده ووجودهم، ولأنَّ الملحدين والمشركين يعملون على نسف كل قواعد الإيمان في الحياة، ما يجعل من مسألة العداوة أمراً طبيعياً، لأنَّ ذلك يرى أنَّ رسالته وعقيدته يفرضان عليه القضاء على فكرك أو عليك، وبالتالي لا يمكنك أن تعتبره صديقاً، أو تتعامل معه معاملة الصديق، إلاَّ إذا كنت ساذجاً لا تفهم الأشياء بوضوح.
وفي ضوء هذا، ينبغي لنا أن نواجه بحذر الدعوات المؤكدة على التسامح في هذا المجال، في ما يُرفع من شعارات التسامح الديني، ورفض التعصّب، وما إلى ذلك. فقد يكون المقصود من ذلك كله، تخفيف حالة التوتر الفكري والروحي والعملي الّتي يعيشها الإنسان المؤمن المسلم، للمحافظة على خط الثبات في مواقعه الإسلاميّة، وعدم إفساح المجال للاهتزاز والتزلزل أمام هجمات الأعداء، لأنَّ الإنسان كلّما اقترب من حالة الاسترخاء في مواقع التحدي، كلّما اقترب من الهزيمة أمام مخططات الأعداء.
ربَّما يكون من المصلحة للإسلام والمسلمين أن يحافظوا على نسبة عالية من درجات التوتر والالتزام بالخط، لئلا يستغل العدو حالة الاسترخاء الّتي يعمل لإيجادها، فيهزمنا بالضربة القاضية، ولكن ليس معنى ذلك أنَّنا نواجه الموقف بأساليب الانفعال المثيرة الّتي تملأ الجو بكل عناصر الإثارة، لتخلق حرباً هنا وحرباً هناك، وتُثير الفوضى والخلافات الطائفيّة الحاقدة في كل مكان، لأنَّنا لا نجد في ذلك مصلحة للمسيرة الإسلاميّة، بل معنى كل ذلك أنَّنا نواجه الموقف بأساليب الوعي الّتي تتحرّك في الساحة بطريقة واقعيّة تتعامل مع المعطيات والظروف الموضوعيّة من موقع المحافظة على الوجود أمام الآخرين الَّذين يعملون لتصفية هذا الوجود أو هزيمته.
وقد يفرض علينا الواقع أن ندخل مع هؤلاء في علاقاتٍ تجاريّةٍ وسياسيّةٍ وعلميّة، فلا نجد في ذلك أيَّ حرج، في حدود المصلحة العليا للإسلام والمسلمين، لأنَّ الإنسان قد يجد من الخير أن يتعامل مع عدوه في حالات الهدنة، مع الاحتفاظ بالحيطة والحذر في مختلف الظروف والأوقات والمظاهر.
ـــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:3، ص:290.
(2) أسباب النزول، ص:113.
(3) نشب الشيء في الشيء: علق.
(4) مجمع البيان، ج:3، ص:291 ـ 292.
(5) السيرة النبوية، ابن هشام، ت: مصطفى السقا وآخرون، دار إحياء التراب العربي، بيروت، 1412هـ ـ 1993م، ج :2، ص:513.
تفسير القرآن