من الآية 87 الى الآية 88
الآيتـان
{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُون}(87ـ88).َ
* * *
مناسبة النزول
جاء في مجمع البيان، في تفسير هذه الآية: «قال المفسرون: جلس رسول الله(ص) يوماً، فذكّر النَّاس ووصف القيامة، فرقّ النَّاس وبكوا، واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وهم عليّ، وأبو بكر، وعبد الله بن مسعود، وأبو ذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، والمقداد بن الأسود الكندي، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح، ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، وهمَّ بعضهم أن يَجُبَّ مذاكيره.
فبلغ ذلك رسول الله(ص)، فأتى دار عثمان، فلم يُصادفه، فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية ـ واسمها حولاء، وكانت عطارة ـ: أحقٌّ ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذّب رسول الله(ص)، وكرهت أن تُبدي على زوجها، فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك. فانصرف رسول الله(ص)، فلما دخل عثمان أخبرته بذلك، فأتى رسول الله(ص) هو وأصحابه، فقال لهم رسول الله(ص): «ألم أنبئكم أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، وما أردنا إلاَّ الخير، فقال رسول الله(ص): إني لم أؤمر بذلك. ثُمَّ قال: إنَّ لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإنّي أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني.
ثُمَّ جمع النَّاس وخطبهم وقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم، وشهوات الدنيا؟ أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قِسِّيسين ورُهباناً، فإنَّه ليس في ديني ترك اللحم، ولا النساء، ولا اتخاذ الصوامع، وإنَّ سياحة أمتي الصوم، ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وحجّوا، واعتمروا، وأقيموا الصَّلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، واستقيموا يستقم لكم، فإنَّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع، فأنزل الله الآية»[1].
* * *
حديث لا يخلو من مبالغة
قد يلمح الإنسان في هاتين الآيتين شيئاً من هذا الحديث الَّذي رواه المُفسرون في أسباب النزول. فقد جاءتا لتعالج هذه الظاهرة الجديدة الّتي انطلقت من حالةٍ روحيّةٍ وجدانيّة، عاشها هؤلاء المسلمون في انفعالهم بالآيات والمواعظ الّتي سمعوها من رسول الله(ص) عن القيامة وأهوالها، فاعتبروا الموقف الطبيعي لهم، أن يتركوا الدنيا بكل طيباتها وشهواتها، ويتفرغوا للآخرة بالعبادة والتجرّد عن كل النوازع والملذات، لأنَّ ذلك هو السبيل للخلاص من الأهوال والشدائد، وللتعبير عن الإخلاص لله، أي بتعذيب النفس في الدنيا وحرمانها من كل ما تشتهيه كقيمةٍ روحيّةٍ يحبها الله ورسوله. وقد يكون في هذا الحديث، لونٌ من ألوان المبالغة في تصوير حالة هؤلاء الأشخاص من الصحابة بتلك الصورة، لأنَّ السلوك العملي الَّذي كان يتمثَّل في حياة رسول الله، يُمكن أن يُعطيهم الصورة الواضحة للموقف، ولا سيّما أنَّ منهم من يملك المعرفة الشاملة في الخط الإسلامي للحياة.
* * *
الإسلام يوازن بين الدنيا والآخرة
إنَّنا نسجل بعض التحفظات التأمليّة في بعض هذه التفاصيل، ولكنَّنا نعتبر الحديث صورةً حيةً لهذا النموذج من الناس الذين يفهمون جانباً واحداً من الصورة، ولا يتطلعون إلى الجانب الآخر، فيسيئون فهم القضيّة كما هي في واقع التشريع، فإذا جاؤوا إلى آيات الزهد، قالوا بأنَّ الإسلام هو دين الابتعاد عن الملذات والشهوات، وإهمال الحياة بكل مظاهرها ونوازعها، وبدأوا يخططون لأسلوبٍ معين من التربية في اتجاه تذويب كل النوازع والغرائز والشهوات، وتجميدها، وتحويل الإنسان إلى شخصيّة جامدة الشعور أمام الطيبات، قاتمة الملامح أمام انفعالاتها، مغمضة العيون أمام مباهجها وزخارفها، واعتبار ذلك السلوك هو القيمة الروحيّة الأمثل لاقتراب الإنسان من رحمة الله، وهكذا يُحاول البعض أن يرى في الصورة صورة الإسلام الَّذي لا يتفق مع حيويّة الحياة. وإذا جاؤوا إلى آيات الإقبال على الحياة، والاستمتاع بطيباتها، في ما يأكل النَّاس وما يشربون أو يستمتعون به من حاجاتهم، قالوا إنَّ الإسلام دين الماديّة البعيدة عن الآفاق الروحيّة، فهو يعمل على ربط الإنسان بالدنيا في قيمها الحسيّة الماديّة، وإبعاده عن القيم المعنوية الروحيّة، ويخطط لأسلوبٍ تربوي، في اتجاه تحويل كل المعاني الروحيّة إلى وسائل مُثيرة، لإعطاء المادة لوناً من ألوان الروح، ما يؤكد ارتباط الإنسان بالمادة وإبعاده عن الروحيّة المجرّدة. وبذلك يتحوّل الإنسان إلى كائنٍ حسيٍّ باحثٍ عن الشهوات، ظامىءٍ للذّات، بعيدٍ عن عالم التجرُّد والروح. وهكذا تمتد الصورة ليتحدث المغرضون ـ من خلالها ـ بأنَّ الإسلام هو دين الحسّ المادي، لا دين الروحيّة الصافية.
وجاء رسول الله(ص) ليصحّح النظرة، وليوضح الفكرة من القاعدة، بأنَّ الدنيا ليست الآخرة، وأنَّ الإنسان ليس ملاكاً، وأنَّ الإسلام دينٌ للحياة بأسمى معالمها وأقدس قيمها ومثلها، ودينٌ للإنسان بأجلى مظاهر إنسانيّته، وأكمل مراتبها. وذلك من خلال خطةٍ ترسم للواقع ملامحه على صورة الرسالة، وتخطط للرسالة حركتها على أرض الواقع، ليكون الإسلام دين الحياة كما ينبغي أن تكون عليه واقعاً، لا ديناً يبرر الواقع المنحرف فيلغي رساليته في التغيير، ولا يحوّل الرسالة إلى فكرةٍ تعيش في نطاق التجريد والخيال. فالإنسان بشر، يعيش في الدنيا، وللبشرية حاجاتها، وللدنيا وسائلها، فلا بُدَّ من أن ينام الجسد، لتكون اليقظة حيّةً فاعلة، ولا بُدَّ من أن يأكل ويشرب ويلبس ويستمتع، لتستمر الحياة من خلال مقوّماتها الضروريّة وغير الضروريّة، والإنسان ـ بعد ذلك ـ بشر في روح الرسالة، فلا بُدَّ له من أن يعيش الصَّلاة والصوم والحجّ والعُمرة والجهاد والابتهال إلى الله، ولا بُدَّ له من أن يواجه هذه القضايا الّتي تتعامل معه من مواقع روحيّته بوسائلها الّتي لا تجعل الآخرة تتنكر للدنيا، ولا تجعل الملاك يبتعد عن آفاق البشر.
* * *
الاستقامة أن تأخذ بجوانب الرفعة والإلزام
واعتبر ذلك خطاً من خطوط الاستقامة الّتي تأخذ بجوانب الرخصة، كما تلتزم بجوانب الإلزام، لأنَّ للرخص الّتي شرّعها الإسلام دوراً كبيراً في بناء الشخصيّة واستقامة الطريق، تماماً كما هي الأمور الإلزاميّة في جانب الواجب والحرام. فإذا حرّم الإنسان على نفسه شيئاً رخصه الله في فعله، فإنَّ ذلك قد يترك في الشخصيّة آثاراً سلبيّةً تشوّه الصورة في ملامحها العامة، سواءٌ في ما توحيه من أفكار أو في ما تفرضه من مواقف وعلاقات ومشاعر، فالإنسان الَّذي يعتبر رفض الطيبات قيمةً روحيّةً كبيرةً، سيجد في النَّاس الَّذين يقبلون عليها بحدودها الشرعيّة، أُناساً في المستوى المنخفض للقيمة الإسلاميّة، وسيتعامل مع الأشخاص الَّذين يرتبط معهم بعلاقاتٍ اجتماعيّةٍ ذات مسؤولياتٍ معيّنة، بطريقةٍ بعيدةٍ عن خط المسؤوليّة، كما هو الحال في النَّاس الَّذين يهملون علاقاتهم الزوجيّة والأسريّة والاجتماعيّة عندما يسيرون في خط ما يعتبرونه الصورة الحقيقيّة لمفهوم الزهد في الإسلام.
وقد نلاحظ في الحديث عن السبب في هلاك الأمم السالفة، في الكلمات الّتي يختم بها النبيّ(ص) حديثه، أنَّ التشديد الَّذي كان لوناً من ألوان الفهم الخاطىء للخط الرسالي الَّذي جاءت به الرسالات الإلهيّة، هو السبب في تشديد الله عليهم، كعقوبة دنيويّة تعرِّفهم نتائج الانحراف في الدنيا من خلال طبيعة العلم الَّذي يفرضه الانحراف، لتوحي لهم بأنَّ الله لا يريد للإنسان أن يعذِّب نفسه ويشدد عليها بوسائل التشديد، لأنَّه لا يعتبر ذلك فضيلة دينيّة إلاَّ من خلال الخط الكبير.
* * *
لا تحرّموا طيبات ما أحل الله
وفي ضوء ذلك كلّه، جاءت الآية الأولى لتنهى المؤمنين عن تحريم الطيبات الّتي أحلّها الله لهم، {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وذلك بالامتناع عن ممارستها، بحجّة أنَّ تركها يُمثِّل وسيلة من وسائل رضا الله، ويوحي بأنَّ ذلك يُمثِّل لوناً من ألوان الاعتداء على حدود الله الّتي رسمها لعباده لتسير حياتهم عليها، ولترتبط قضاياهم بها، فإذا تجاوزوها، كان ذلك اعتداءً عليها وعلى الحياة، لأنَّ ذلك ينحرف بالخطة الحكيمة عن مسارها الطبيعي ويُسيء إلى الناس وإلى حياتهم في نهاية المطاف، وقد يكون في ذلك اعتداء على الله، في ما أراده من التحرّك في تطبيق التشريع على أساس حقِّه على النَّاس في الالتزام به كما ينبغي له.
{وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وقد يُفسِّر البعض معنى الاعتداء، بتجاوز حدود الاعتدال في ممارسة الطيبات، فلا يتخذ النهي عن تحريم الطيبات أساساً للانكباب على متع الحياة الدنيا بطريقةٍ متطرفة، لأنَّ ذلك يُساوي التطرّف في الترك الَّذي لا يوافق عليه الإسلام في تشريعه وتخطيطه للحياة. وقد يكون هذا المعنى معقولاً كما هو، ولكنَّه ليس قريباً إلى ظاهر الآية ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان[2] ـ. ولعلّ الوجه في ذلك هو أنَّ الآية جاءت في مقام تقرير المبدأ في موضوع تحريم الطيبات، وليست في مقام الدخول في كميّة ممارسة الإنسان من الاستمتاع بالطيبات، فهي تُريد أن تُقرر أنَّ مثل هذا التحريم يُمثل لوناً من ألوان الاعتداء على حدود الله، تماماً كما هي الآيات الكريمة الّتي تجري مجرى هذه الآية في هذه الجهة، كقوله تعالى في ذيل آية البقرة: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229] وفي ذيل آيات الإرث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء:13 ـ 14].
ويقول صاحب الميزان في التعقيب على هذه الآيات: «والآيات ـ كما ترى ـ تعد الاستقامة والالتزام بما شرّعه الله، طاعةً له تعالى ولرسوله ممدوحة، والخروج عن التسليم والالتزام والانقياد اعتداءً وتعدِّياً لحدود الله، مذموماً معاقباً عليه»[3].
وإذا كان الله لا يُحبُّ المعتدين، فإنَّ على المؤمن أن يتلمّس في تفكيره وسلوكه مواقع الانسجام مع خط الله والانطلاق في طاعته، ومواقع الاعتداء على حدود الله والسير في خط معصيته في كل موقع من مواقع الحياة، لأنَّ المؤمن يعمل دائماً من أجل الحصول على محبة الله ورضاه، فلا يطيق ـ في أي حال ـ أن يعيش بعيداً عن ذلك مع النَّاس الَّذين لا يُحبُّهم الله.
* * *
كُلُوا الحلال الطيب
وجاءت الآية الثانية {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} لتثير أمام النَّاس أنَّ هذه الطيبات، هي من الحلال الطيِّب الَّذي رزقه الله للنَّاس، وبالتالي ليس هناك من مشكلةٍ في تناولها، لأنَّ الله الَّذي رزقهم إياها، جعلها رزقاً حلالاً طيباً، والله لا يرزق الإنسان شيئاً ليمنعه عنه، إلاَّ في الحدود الّتي تدخل في تفاصيل الفعل والممارسة، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ}، فإنَّ الإيمان بالله يجعل المؤمن يعيش الحضور الدائم مع الله، والإحساس العميق بوجوده، ما يدفعه إلى مراقبته الّتي تقوده إلى التقوى في جميع الأمور، إذ لا معنى للإيمان بدون الالتزام والمراقبة الدائمة، وذلك هو الخط الَّذي يدعو القرآن الكريم النَّاس إلى السير عليه في كل موقفٍ من مواقف التشريع، وفي كل موقعٍ من مواقع الحياة، ليكون ذلك هو الأساس الَّذي يُحقّق الانضباط المستمر المرتكز على قاعدة الإيمان والإسلام.
ـــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:3، ص:294 ـ 295.
(2) تفسير الميزان، ج :6، ص:108.
(3) م.ن.، ج:6، ص:107 ـ 108.
تفسير القرآن