الآية 89
الآيــة
{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(89).
* * *
معاني المفردات
{بِاللَّغْوِ}: اللغو في اللغة ما لا يعتدّ به، ولغو اليمين الحلف من غير قصد، كما لو سبق اللسان لقول: لا والله.
{عَقَّدتُّمُ}: عقد الأيمان: التعهد بالشيء أمام الله مع قصده بشكل جدّي واعٍ.
{فَكَفَّارَتُهُ}: من الكَفر ـ بفتح الكاف ـ وهو الستر والتغطية، ثُمَّ استعملت الكفَّارة في الأعمال الّتي تكفر الذنوب.
* * *
مناسبة النزول
جاء في مجمع البيان: قيل: لمّا نزلت: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} قالوا يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة، كان عنده ضيف، فأخرت زوجته عشاءه، فحلف لا يأكل من الطعام، وحلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل، وحلف الضيف لا يأكل إن لم يأكلا، فأكل عبد الله بن رواحة وأكلا معه، فأخبر النبيّ(ص) بذلك، فقال له: أحسنت. عن ابن زيد[1].
كما جاء في الكافي بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله ـ جعفر الصادق(ع) ـ قال: «سمعته يقول في قول الله عزَّ وجلّ: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قال: «اللّغوُ» قول الرّجل: «لا والله، وبلى والله» ولا يعقد على شيء»[2].
* * *
اليمين التزام أمام الله
إنَّ اليمين الّتي يحلف بها الإنسان على فعل شيء، أو ترك شيء، تُمثِّل التزاماً بالشيء بين يدي الله على أساس اقترانه باسمه، كما إذا كنت تأتي به كشاهد على التزامك عندما يتعلَّق اليمين بعمل مستقبلي تُريد أن تقوم به، لتجعل ذلك وثيقة تُؤكد بها الموقف، لتبعث الطمأنينة في نفس الشخص الَّذي تلتزم له، أو معه، أو كشهادةٍ على حدوث الواقعة عندما يتعلّق اليمين بشيء حدث أو سيحدث لتجعله قاعدة. وبذلك كانت اليمين تُمثِّل مسؤوليّةً كبيرةً لشخصيّة الحالف، لأنَّها تضع اسم الله في الميزان، ليدلل على جانب الاحترام له في حالات الصدق، أو على جانب الإهانة له في حالات الكذب، بل ربَّما كان أولياء الله يعتبرون الحلف بالله في كل مناسبة، حتَّى في الأمور الكبيرة، منافياً لإجلال الله وتعظيمه، ويرون في تحمّل الخسارة الناشئة من ترك اليمين في حالة تعرض الإنسان لاتهامٍ ظالمٍ يريد أن يدفعه عنه باليمين، نوعاً من أنواع التعظيم لله والإجلال لاسمه الكريم، كما ورد عن أبي جعفر(ع): «إنَّ أباه كانت عنده امرأة من الخوارج، أظنه قال: من بني حنيفة، فقال له مولى له: يابن رسول الله، إن عندك امرأة تبرأ من جدّك، فقضى لأبي أنَّه طلقها، فادعت عليه صداقها فجاءت به إلى أمير المدينة تستعديه، فقال له أمير المدينة: يا عليّ إمَّا أن تحلف وإمَّا تعطيها، فقال لي: يا بني قم فأعطها أربعمائة دينار، فقلت له: يا أبت جعلت فداك ألست محقاً؟ قال: بلى يا بني ولكني أجللت الله أن أحلف به يمين صبر»[3].
* * *
اليمين قسمان: لغو وعقد
{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاَْيْمَـانَ} ولكنَّ اليمين على قسمين: يمين لغو، وهو اللفظ الَّذي ينطلق بالحلف بالله على سبيل العادة والإلفة من دون أن يقصد الإنسان مضمونه في التصوّر والالتزام، تماماً كالألفاظ الّتي تصبح لازمةً للشخص، من خلال التكرار، فيكررها بمناسبة وبدون مناسبة، ويمين عقد ـ إذا صحَّ التعبير ـ وهو اللفظ الَّذي ينطلق بكلمة القسم بالله على سبيل عقد القلب على مضمونه، كالتزام يلتزمه على نفسه.
وقد جاءت الآية لتدلل على أنَّ الله لا يؤاخذ الإنسان باللغو في اليمين، إذا لم يلتزم بمضمونه أو يؤده، لأنَّه لا يُعبر عن حالةٍ في النفس، أو عقدٍ في الضمير، فهو لا يزيد عن صوتٍ من الأصوات الببغائيّة الّتي يُطلقها الإنسان بلا معنى، أمَّا إذا كان اليمين عقداً في ما يعقد به الإنسان قلبه ويلتزمه في ضميره، فإنَّ الله يؤاخذ الإنسان على عدم التزامه العملي به، وهو الَّذي يسمى بالحنث، ولكنَّها مؤاخذةٌ يُمكن للإنسان أن يتخلّص منها في الدنيا، بدفع الكفارة المفروضة في هذه الحال، {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} لا من أخبثه مما يعافه النَّاس بشكل طبيعي، ولا من أطيبه مما لا يكون إلاَّ لدى الطبقة الثريّة من النَّاس، {أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فإنَّ العتق إحدى وسائل التكفير عن الذنب، في ما أراده الله من تكثير الوسائل لتحرير الرقيق، فإن لم يجد من ذلك شيئاً لفقره وعجزه {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} ولم تلتزموا بمقتضاها، ليكون ذلك راداً لكم عن النقض عندما تواجهون إمكانيّة الخسارة والجهد والمشقة في ذلك كله، {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} من الإهمال والعبث والنقض، لأنَّ اليمين موقفٌ يلتزم به الإنسان فيلزم به نفسه، فلا بُدَّ له من المحافظة على موقفه والتزامه، فإنَّه متصلٌ بقيمة احترامه لشخصيته من جهة، ولمن أقسم به ـ وهو الله ـ من جهة أخرى.
وقد جاءت بعض التفاسير والأحاديث بإدخال الحلف بفعل الحرام وترك الواجب في مفهوم يمين اللغو، والظاهر أنَّه داخل فيه حكماً وموضوعاً، باعتبار إلغاء الشارع له، لأنَّ ما يجب حفظه من الأيمان هو ما يُريد الشارع للإنسان الالتزام به، فلا معنى لوجوب حفظ مثل هذه الأيمان غير المشروعة بطبيعتها، وليست داخلةً فيه موضوعاً، لما سبق أنَّ المُراد باللغو، ما كان عارياً عن القصد تماماً، كما هو الكلام اللغو الَّذي لا يقصد الإنسان معناه.
* * *
اليمين مؤشر التزام
وتلك هي آيات الله الّتي يريد الله بيانها للإنسان من أجل أن يحفظ توازنه، ويُحافظ على قضاياه العمليّة، ليضع له البرنامج الواضح الَّذي يكون خطاً فاصلاً بين الالتزام والفوضى. وقد درجت كثير من المؤسسات الاجتماعيّة والسياسيّة على إلزام المنتسبين إليها بما تفرضه عليهم من قوانين والتزامات، بالتزامهم بها من ناحية حلف اليمين، لما يوحي ذلك من الثقة بالالتزام الذاتي والعملي به، على أساس ارتباط ذلك بمحافظته على دينه واحترامه لشخصه باحترامه لكلمته في ما تُمثِّله الكلمة من اليمين الَّذي يُمثِّل الموقف.
ولا بُدَّ للإنسان من أن يشكر الله على ذلك، لأنَّ الآيات الّتي يبينها الله لعباده في ما يعود على حياتهم بالخير والاستقامة هي من النعم الكبيرة الّتي تستوجب الشكر والاعتراف بالجميل {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}.
ــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:3، ص:297.
(2) الكافي، ج:7، ص:443، رواية:1.
(3) وسائل الشيعة، ج:16، ص:117 ـ 118، باب:2، رواية:1.
تفسير القرآن