تفسير القرآن
المائدة / من الآية 90 إلى الآية 92

 من الآية 90 الى الآية 92

الآيــات  

{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَوةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}(90ـ92).

* * *

معاني المفردات

{الْخَمْرُ}: عصير العنب المشتد، وهو العصير الَّذي يسكر كثيره، وسمي خمراً لأنَّها بالسكر تغطي على العقل. وأصله التغطية، من قولهم: خمرت الإناء إذا غطيته، ودخل في خمار النَّاس إذا خُفي في ما بينهم.

{وَالْمَيْسِرُ}: القمار، من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار فيه، وأصله من اليسر خلاف العسر، وسمّيت اليد اليسرى تفاؤلاً بتيسير العمل بها، وقيل: لأنَّها تُعين اليد اليمنى فيكون العمل أيسر.

{وَالأنصَابُ}: الأصنام، واحدها نصب، وسميت كذلك لأنَّها كانت تنصب للعبادة لها.

{وَالأزلاَمُ}: القداح، وهي سهام كانوا يجيلونها للقمار.

{رِجْسٌ}: الرجس في اللغة اسم لكل ما استقذر من عمل، يُقال: رجُس يرجُس ورَجِسَ يرْجِس إذا عمل عملاً قبيحاً.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ بإسناده عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال: «أتيت على نفر من المهاجرين، فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً، وذلك قبل أن يحرم الخمر، فأتيتهم في حش[1]، وإذا رأس جزور مشويّاً عندهم ودنّ من خمر، فأكلت وشربت معهم وذكرت الأنصار والمهاجرين، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجل لحي الرأس، فجدع أنفي بذلك، فأتيت رسول الله(ص) فأخبرته فأنزل الله في شأن الخمر {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..}[2].

ولعل من الطريف أنَّ بعض الرواة روى عن علي بن أبي طالب(ع) قوله: صنع لنا عبد الرحمان بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت: «قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون» فأنزل الله: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].

ورويت هذه الرِّواية بطريقة أخرى، قال عكرمة: نزلت في أبي بكر وعمر وعلي وعبد الرحمان، صنع علي لهم طعاماً وشراباً، فأكلوا وشربوا، ثم صلى علي بهم المغرب فقرأ {قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} حتى خاتمتها، فقال: «ليس لي دين وليس لكم دين»، فنزلت: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}.

والمتأمل المتدبر في هاتين الرِّوايتين وأمثالهما، لا يسعه إلاَّ أن يخلص إلى كونهما مختلقتين موضوعتين، وذلك لجملة أسبابٍ تأخذ بعنق بعضها البعض:

أولاً: إنَّ التضارب ظاهرٌ بين عناصر الرِّوايتين، ففي الوقت الَّذي تُنسب الرِّواية الأولى إلى علي(ع) وصنع الطعام والصلاة إلى عبد الرحمان، تُنسب الرِّواية الثانية إلى عكرمة وصنع الطعام والصلاة إلى علي(ع).

وفي جانب آخر، تجعل الرِّواية الأولى الاختلاق على الشكل التالي: «ونحن نعبد ما تعبدون»، فيما تجعله الرِّواية الثانية بشكل آخر وهو: «ليس لي دين وليس لكم دين».

ثانياً: ثمة رواية أخرى على النقيض تماماً من هاتين الرِّوايتين مضموناً، وأوثق سنداً ومتناً وواقعاً، وهي الرِّواية المروية عن ابن شهر آشوب عن القطان في تفسيره عن عمر ابن حمران، عن سعيد بن قتادة، عن الحسن البصري، قال: اجتمع علي وعثمان بن مظعون وأبو طلحة وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وصهل بن بيضاء وأبو دجانة الأنصاري في منزل سعد بن أبي وقاص، فأكلوا شيئاً ثم قدم إليهم شيئاً من الفضيخ[3]، فقام علي وخرج من بينهم قائلاً: لعن الله الخمر، والله لا أشرب شيئاً يذهب عقلي، ويضحك بي من رآني، وأزوج كريمتي من لا أريد. وخرج من بينهم فأتى المسجد، وهبط جبرئيل بهذه الآية: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} يعني هؤلاء الَّذين اجتمعوا في منزل سعد، {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية، فقال علي(ع): يا رسول الله لقد كان بصري فيها نافذاً منذ كنت صغيراً، قال الحسن البصري: والله الَّذي لا إله إلاَّ هو ما شربها قبل تحريمها ولا ساعة قط[4].

وهذه الرِّواية أوشج ارتباطاً وتعلقاً بواقع شخصية علي(ع) من الرِّوايتين السابقتين، وذلك لأنَّه(ع) تربى في أحضان رسول الله(ص) وتخلّق بأخلاقه، وأخذ بعاداته حتى كان صورة منه في خلقه وهديه وعقله والتزامه السلوك المستقيم.

ومن الطبيعي جداً أنَّ رسول الله(ص) كان بعيداً عن الخمر الّتي تسيء إلى العقل والروح والاتّزان مما لا يمكن للإنسان الَّذي يتميز بالسمو الروحي والصفاء العقلي والطهارة السلوكية أن يمارسه، ولم يُعهد منه ذلك حتى في حديث أعدائه، فكيف يمكن لعلي(ع) الّذي كان يقول: «كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه»، أن يشرب الخمر فتغلبه على صلاته؟ هذا وينقل التاريخ عن أخيه جعفر بن أبي طالب أنَّه كان لا يعاقر الخمرة لأنَّها تفقد الإنسان عقله، وعليٌّ كما هو معروف أفضل من جعفر للسبب الآنف ولغيره من الأسباب، فكيف يمكن لجعفر أن يترك شرب الخمر بعيداً عن مسألة تحريمها، ويمارسها علي(ع) بهذه الطريقة؟!

كما أنَّ هناك روايات أخرى، ذكرها صاحب تفسير الميزان، تؤكد ما سلف، ومما ورد فيها، أنَّ عليّاً وعثمان بن مظعون كانا قد حرّما الخمر على أنفسهما قبل نزول التحريم[5]. وقد ذكر في «الملل والنحل» رجالاً من العرب حرّموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية... منهم عامر بن الظرب العدواني، ومنهم قيس بن عامر التميمي... ومنهم صفوان بن أمية بن محرث الكناني، وعفيف بن معدي كرب الكندي، والأسلوم اليامي، قد حرّم الزنى والخمر معاً.

من هنا، وبناءً على ما تقدم، نستطيع الجزم بأنَّ الرِّوايتين مدار البحث، هما من الأحاديث الموضوعة للنيل من علي(ع) ومنزلته ومقامه من رسول الله(ص) خاصة، والمسلمين عامة.

ويمكن تفسير وضعهما بالصراعات الشديدة الّتي تمحورت حول قضية الخلافة، وما تناسل عنها من مشاكل وأوضاع وعصبيات وأحقاد.

ولولا أنَّنا رأينا مثل هذه الرِّواية متداولة في بعض كتب المتأخرين، كسيد قطب في «ظلال القرآن»، لما تحدثنا عنها، لأنَّها أسخف من أن تقع مجالاً للنقاش.

* * *

هل هناك تدرّج في تحريم الخمر؟

هذا وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: «حرمت الخمر ثلاث مرات: قدم رسول الله، وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله(ص) عنهما، فأنزل الله: {يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية [البقرة:219] فقال النَّاس: ما حرّم علينا، إنَّما قال: {إِثْمٌ كَبِيرٌ}، وكانوا يشربون الخمر حتَّى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أمّ أصحابه في المغرب، خلط في قراءته، فأنزل الله أغلظ منها: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وكان النَّاس يشربون حتَّى يأتي أحدهم الصَّلاة وهو مغتبق، ثُمَّ نزلت آية أغلظ من ذلك: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ} قالوا: انتهينا ربَّنا، فقال النَّاس: يا رسول الله، ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان؟ فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} إلى آخر الآية [المائدة: 93].

وقال النَّبيّ(ص): «لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم»[6].

* * *

وقفة مع الرِّواية

ونلاحظ على هذه الرِّواية أنَّها تُمثِّل اجتهاداً من الراوي، لأنَّ الآية الأولى أكثر غلظة وشدّة من الآية الثانية، لأنَّ الأولى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالاَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} تتضمن التأكيد على الإثم الكبير الَّذي هو أكبر من النفع الَّذي يقصده النَّاس منهما، ما يوحي إليهم بأنَّ ذلك يفرض الترك له كما هي سيرة العقلاء وحكم العقل في الامتناع عن كل ما كان ضرره أكثر من نفعه، بينما الآية الثانية لا تتضمن رفض الخمر وإبعاد النَّاس عنه، بل تؤكد على علاقة السكر بالصَّلاة وضرورة اجتنابه في حال الصَّلاة.

وهناك ملاحظة أخرى، وهي أنَّ الرِّوايات الواردة في مناسبة نزول هذه الآية، تحدثت عن الخمر وعن مناسبة تحريمها، في الوقت الَّذي نجد فيه الآية تتحدّث عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ما قد يوحي بأنَّها نزلت من خلال إيجاد قاعدة تشريعيّة لهذه العادات الجاهليّة على أساس النتائج السلبيّة فيها، فلا تتناسب مع اختصاص الخمر بمناسبة النزول. والله العالم.

* * *

الخمرة محرمة في كل الشرائع

هذا وقد جاء في حديث أهل البيت(ع) أنَّ الله سبحانه حرّم الخمر في كل الشرائع:

فقد جاء في الكافي والتهذيب بإسنادهما عن أبي جعفر محمد الباقر(ع) قال: «ما بعث الله نبيّاً قطّ إلاَّ وفي علم الله أنَّه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم تزل الخمر حراماً وإنَّما ينقلون من خصلةٍ إلى خصلة، ولو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدين قال: وقال أبو جعفر(ع): ليس أحد أرفق من الله عزَّ وجلّ، فمن رفقه تبارك وتعالى أنَّه نقلهم من خصلةٍ إلى خصلة، ولو حمل عليهم جملة لهلكوا»[7].

* * *

معاني الميسر والأنصاب

وفي الكافي بإسناده عن أبي عليّ الأشعري، عن محمَّد بن عبد الجبار، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر(ع) قال: «لما أنزل الله عزَّ وجلّ على رسول الله(ص): {يَسْـَلُونَكَ} قيل: يا رسول الله: ما الميسر؟ فقال: كل ما تقومر به حتَّى الكعاب والجوز، قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوه لآلهتهم، قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم الّتي يستقسمون بها»[8].

وقد جاء في تفسير العياشي عن عبد الله بن جندب عمن أخبره عن أبي عبد الله ـ جعفر الصادق ـ (ص) قال: «الشطرنج ميسر والنرد ميسر»[9].

وعن ياسر الخادم عن الرضا(ع) قال: «سألته عن الميسر قال: الثقل من كل شيء، قال الحسين: والثقل ما يخرج بين المتراهنين من الدرهم وغيره»[10].

وجاء في حديث ابن مسعود ـ أخرجه أحمد أو ابن أبي الدنيا فرزم الملاهي ـ عن ابن مسعود قال: «قال رسول الله(ص): وإياكم وهاتين الكعبتين الموسومتين، فإنَّهما من ميسر العجم»[11].

وربَّما نستوحي من ذلك كله أنَّ مضمون القمار داخل في مفهوم الميسر، وأنَّ تطبيق الميسر على النرد والشطرنج اللذين كانا من أدوات القمار يعين اختصاص التحريم بصورة ما إذا كان اللعب بهما على سبيل القمار، لأنَّ صدق العنوان على شيء، لا بُدَّ فيه من أن يكون العنوان ثابتاً فيه، لا أن يكون على نحو التنزيل من دون حقيقة.

ولعلَّ الإشارة إلى أنهما ميسر العجم من أجل توضيح المصداق للعرب الَّذين كانوا لا يتعاملون بهما في القمار، بل كانوا يتعاملون بآلات أخرى، فأريد بيان وحدة العنوان في الجميع. غاية ما هناك، أنَّ أدوات الميسر في العادات العربيّة تختلف عن أدوات الميسر لدى العجم. وعلى ضوء ذلك، فإنَّ اقتصار التحريم في القرآن الكريم على الميسر، الَّذي يختزن معنى القمار في مفهومه، يوحي بأنَّ اللعب بأدوات القمار، سواء كان ذلك في الشطرنج أو النرد أو ورق اللعب، على نحو التسلية لا على نحو القمار، جائزٌ شرعاً، لأنَّ دليل التحريم لا يشمله، والله العالم. وتتمة البحث موكول إلى محله.

ولعلَّ من الخير للثقافة القرآنيّة أن تختم هذا البحث في مناسبات النزول بما رواه العياشي عن هشام عن الثقة رفعه عن أبي عبد الله ـ جعفر الصادق(ع)ـ أنَّه قيل له: روي عنكم أنَّ الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجالٌ فقال: ما كان ليخاطب الله خلقه بما لا يعقلون»[12].

ونستفيد من هذه الرِّواية ـ إن صحّت ـ أنَّ التفسير القرآني الَّذي يتضمن المعنى الَّذي لا يفهمه القارىء من اللفظ بحسب المتبادر منه عُرفاً، سواء كان من قبيل التفسير الباطني أو غيره، ليس صحيحاً. والله العالم.

* * *

أسلوب القرآن الخاص في معالجة العادات المضرة

للقرآن أساليبه المتنوعة في إبعاد النَّاس عن بعض العادات المضرّة الّتي تحوّلت إلى ما يشبه الإدمان، فيذكرها أكثر من مرة، ولكنه يتبع في ذلك أسلوب الإجمال والتفصيل من جهة، وطريقة التدرُّج في توضيح الصورة الحقيقيّة من جهة أخرى. ومن هذه العادات، شرب الخمر ولعب القمار «الميسر»، والأنصاب، وهي الأصنام الّتي كان النَّاس ينصبونها لذبح القرابين عليها ويتبرّكون بها، والأزلام وهي القداح الّتي كانوا يستقسمون بها، وقد تطلق على السهام الّتي كانوا يتفاءلون بها عند العزم على فعل بعض الأمور.

وقد تقدم الحديث عن هذه الأمور في آيات سابقة، فقد جاء الحديث عن الخمر والميسر في سورة البقرة، في قوله تعالى: {يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، وجاء الحديث عن الخمر ـ وحده ـ في سورة النساء في قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] وجاء الحديث عن الخمر والأنصاب والأزلام في هذه السورة، في آيات التحريم.

{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاَْنصَابُ وَالاَْزْلاَمُ} وجاءت هذه الآيات لتعطي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام مفهوماً واحداً يبرر ابتعاد النَّاس عنها، وهو أنَّها {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، والرجس: هو الشيء القذر الَّذي ينفر الطبع منه، ولعلَّ هذه الكلمة واردة على سبيل الكناية، باعتبار ما تشتمل عليه هذه الأشياء من الأضرار والخصائص السلبيّة الّتي لو اطّلع النَّاس عليها لابتعدوا عنها كما يبتعدون عن الأشياء القذرة الظاهرة. فإنَّ السبب في نفور الطبع من هذه الأشياء هو ما يلاحظه النَّاس فيها من الخصائص المنفرة في رائحتها أو شكلها أو طعمها، ما يوحي للإنسان ببعض الأفكار والمشاعر المضادّة. وقد أراد الله للنَّاس أن يدققوا في هذه الأمور ليكتشفوا ما تشتمل عليه من الخصائص المنفرة الّتي تدفع الإنسان إلى الاجتناب عنها، لما فيها من الإضرار بالحياة والعقيدة والسلوك، الّتي تضعها في زاوية الأقذار المعنويّة، فالخمر يحوِّل السكران إلى إنسان يتحرك خارج نطاق الحياة الواعية ليعيش في غيبوبة الخدر الّتي تبعده عن الواقع، وبذلك يفقد الإنسان توازنه في عالم التصوّر والعلاقة والعمل. والميسر يبعد النشاط الاقتصادي الَّذي يتطلب الربح، عن الانطلاق إلى الأعمال المنتجة الّتي تبني للحياة كيانها في نطاق الخدمات العامة، ليجعل النشاط كلّه مشدوداً إلى طاولة القمار، ليعطي كل جهده للألاعيب والأساليب الفنيّة في اقتناص الربح، في جوٍّ لا يحمل أيّة تجربةٍ إنسانيّة نافعة. والأنصاب، تجعل الفكر الإنساني مشدوداً إلى الحجارة في نظرة تقديسٍ تتحوّل إلى حالةٍ من الممارسة العباديّة، وبذلك تنطلق الصنميّة لتكون بمثابة الخط العريض لكلّ قضايا الحياة وتطلعاتها، فتبعده عن الآفاق الروحيّة الواسعة، وتربطه بالخرافة والأسطورة، وتزوِّر له فهمه للحياة. والأزلام طريقة للقسمة أو لاكتشاف الغيب، لا تعتمد على أساسٍ ثابتٍ من الواقع يضمن للإنسان التوازن والسلامة في أموره العمليّة.

ومن خلال هذا العرض الموجز، نستطيع أن نكتشف من وصف الله تعالى بأنَّها {من عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، دلالةً على دوره فيها، إذ هو الَّذي قام بتزيينها للإنسان، بالوسوسة والإغواء. فهو الَّذي يزيّن له ارتكاب هذا العمل أو ذاك بإخفاء الجوانب السلبيّة فيه وإظهار الجوانب الإيجابيّة، ليندفع الإنسان إليها بلهفة وشوق، من دون أن يعاني في ذلك أيّة عقدةٍ نفسيّةٍ، أو أيّ فكرٍ مضادٍ. وفي ضوء ذلك، لا بُدَّ للإنسان من التعامل معها بالطريقة الّتي يتعامل فيها مع الأشياء القذرة الّتي ينفر الطبع منها ويبتعد عنها، فيخلق ذلك في داخل وعيه عقدة رفض، تماماً كما هي الأشياء القذرة في حياته، ولهذا كان الأمر بالاجتناب عنها في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} نتيجةً طبيعيّةً لما أراد الله أن يُثيره في نفس الإنسان ضدّ هذه الأشياء، ليربطها ـ في النهاية ـ بعوامل الفلاح والنجاح، لأنَّهما ينطلقان في حياته من خلال أفعاله النافعة والإيجابية، كما ينطلقان من خلال نأيه عن الأمور الضارة والسلبيّة، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإنَّ الابتعاد عن طريق الخسارة أسلوبٌ من أساليب الفلاح.

* * *

العداوة والبغضاء ثمار الخمر والميسر

ويعود الحديث إلى الخمر والميسر، باعتبارهما من العادات الشائعة الّتي لا يخلو منها زمانٌ ولا مكانٌ في حياة كل أمةٍ في الأرض، خلافاً للأنصاب والأزلام، الّتي هي حالةٌ محليّةٌ خاصةٌ في زمان معين. {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} فقد أراد الشيطان أن يحقق من خلالهما العداوة والبغضاء، في ما ينتجه الخمر من نتائج سلبيّة على مستوى العلاقات والأعمال السيئة ضد الآخرين، فإنَّ أكثر الجرائم قد تحدث بسبب الخمر، لأنَّ الإنسان إذا فقد وعيه وأخذ منه السكر مأخذه، استباح لنفسه كل شيء من قتل النفوس وهتك الأعراض ونهب الأموال، لأنَّه يفقد الميزان الَّذي يزن به الأمور من موقع الربح والخسارة، في حسابات الدنيا والآخرة، فيؤدي ذلك إلى مزيد من العداوة والبغضاء بينه وبين النَّاس الَّذين صنع الجريمة في حياتهم، أمَّا الميسر، فإنَّه يترك في نفوس الخاسرين حقداً ضد الرابحين، لا سيّما إذا اكتشفوا أنَّ الربح لعبة فنيّة خادعة لا تخضع للأصول المتعارفة في قانون اللعب، كما يُثير المشاكل والمنازعات على أساس التفاصيل الّتي يكثر حولها الخلاف والنزاع.

* * *

الإيمان فعل وعي والخمر يضادّه

{وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} وهناك مشكلةٌ أخرى لهاتين العادتين الضارتين، فإنَّ الإنسان إذا سكر ابتعد عن الوعي، وابتعد بسبب ذلك عن خط الإيمان، وفقد الصلة بالله الّتي تحتاج إلى المزيد من الانفتاح والوعي على عظمة الله وقدرته، لأنَّ قضيّة الإيمان هي فعل وعي، وبذلك يفقد الإنسان الإقبال على ذكر الله في وجدانه ولسانه، فيدفعه ذلك إلى الاستسلام للشيطان في خططه وتهاويله، ويفقد الإقبال على الصَّلاة الّتي هي عمود الدين بما توحيه من حضورٍ دائمٍ تطوف به في عالمٍ من الروح والقدس والصفاء والسلام، ليعيش المسؤوليّة ـ من خلال ذلك ـ حباً لله واستسلاماً لألوهيته. وأمَّا الميسر، فإنَّه يُحقق هاتين الغايتين السلبيتين الشيطانيتين، بالاستغراق في أجواء اللعب، والاندماج في خيالات الربح والخسارة، فيبتعد بذلك عن التفكير في أيّة قضيةٍ أخرى، ولا سيّما إذا كانت متعلّقة بالله.

وهكذا تكون هذه العادات مصدر ضررٍ للحياة على مستوى الدنيا والآخرة، وفي علاقات الإنسان بالنَّاس، وفي علاقته بالله. ولعلَّ الدراسة العلميّة الموضوعيّة للإحصاءات الخاصة بالمشاكل الكثيرة الناتجة عن الخمر والقمار، تدلنا دلالة واضحة على الأخطار الكبيرة الّتي تُصيب الإنسان في مختلف جوانب حياته في إدمانه لهذا وذاك، بما يحدث من الجرائم المنطلقة من تأثيرها على العقل أو الإحساس أو الحركة، وبالتالي على سلام الإنسان مع نفسه ومع النَّاس من حوله، وعلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي، مما يوافق ويصدق الحقيقة القرآنيّة المتحدّثة عن الإثم الكبير الَّذي يختزن في داخله الضرر والإبطاء عن الخيرات، وعن العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصَّلاة، بما لا يتناسب مع النفع الجزئي الَّذي يحصل منهما.

ويطرح الله على النَّاس ـ بعد ذلك ـ التساؤل في معرض الدعوة إلى رفض ذلك كلّه، وذلك في معرض الاستفهام: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أي فهل وعيتم هذه الأضرار الّتي تدمر دنياكم وآخرتكم، وهل يدفعكم ذلك إلى الانتهاء عنها، كما يفعل أيُّ عاقلٍ يبحث في الحياة عن أسباب النجاح في الدنيا والآخرة، أو أنَّكم تظلّون في غيّكم سادرين؟

* * *

دعوة إلى إطاعة الله ورسوله

{وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} فذلك هو سبيل الإيمان ومعناه، لأنَّه ليس فكراً مجرّداً يعيش في عالم التصوّر والمعرفة، بل هو موقف يفرض طاعة الله، وطاعة الرّسول(ص)، في ما يبلغه عن الله، ومما أوكل الله إليه بيانه وتخطيطه، {وَاحْذَرُواْ} من الشيطان أن يضلكم عن ذلك، أو من عذاب الله وعقابه، إذا انحرفتم عن خط الطاعة، {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} وأعرضتم واتبعتم أهواءكم وشهواتكم، واستكبرتم، فلا تتصوروا أنَّكم وصلتُم إلى مرادكم {فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} فيكون ذلك حجة الله عليكم يوم القيامة، حيث تقفون غداً أمامه فيحاسبكم على ما عملتموه من سيئات وجرائم. وربّما كانت هذه الآية وسيلة من وسائل تعميق الإحساس بخط الالتزام بالنهي الَّذي دعاهم الله إلى الالتزام به، ليعرفوا أنَّ القضيّة تدخل في الإطار العام للمسؤوليّة الإيمانيّة الّتي تفرض الطاعة من موقع الخوف من الله.

ــــــــــ

(1) الحش: البستان.

(2) أسباب النزول، ص:115.

(3) الفضيخ: عصير العنب. وهو أيضاً شرابٌ يتخذ من البُسر المفضوخ وحده من غير أن تمسه النار.

(4) البرهان في تفسير القرآن، ج:1، ص:500 ـ 501.

(5) تفسير الميزان، ج:6، ص:132.

(6) الدر المنثور، ج:3، ص:157.

(7) الكافي، ج:6، ص:395، رواية:3.

(8) م.ن.، ج:5، ص:122، رواية:2.

(9) م.س.، ج:6، ص:437، رواية:11.

(10) البحار، م:72، ج:76، ص:664، باب:98، رواية:19.

(11) م.ن.، م:72، ص:665، باب:98، رواية:23.

(12) البرهان في تفسير القرآن، ج:1، ص:498.