الآية 93
الآيــة
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءَامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(93).
* * *
لا جناح على المؤمنين في ما طعموا
قد تكون هذه الآية من الآيات الغامضة في معناها، بالنظر إلى ما فيها من التكرار، من دون تفصيل لحدود هذه الكلمات الّتي تختلف بها المعاني، ما يجعل المتأمِّل في حَيْرة بين الاحتمال الَّذي يضع المسألة في نطاق التأكيد للمعنى الواحد، وبين الاحتمال الَّذي يضعها في نطاق المعاني المتفقة في طبيعتها المختلفة في متعلقاتها ومواردها، من غير أن يلاحظ أساساً لهذا التحديد هنا وهناك إلاَّ بطريق الاستنتاج الذاتي.
* * *
وقفة مع قوله تعالى: {فِيمَا طَعِمُواْ}
وهناك نقطة أخرى جديرة بالبحث، وهي التعمُّق في استنطاق كلمة {فِيمَا طَعِمُواْ} في إلحاقها بالآيات المتقدمة بلحاظ وحدة السياق، وذلك بأنَّ المراد بها الخمر وما شابهه، بحمل المطعوم على مطلق التغذي، ولو بالشرب، على طريقة {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة: 249]، أو في اعتبارها حديثاً مستقلاً يتعلَّق بمطلق الطعام، لأنَّ وحدة السياق ليست أمراً يجري مجرى القاعدة في الأسلوب القرآني الَّذي درج على التحدّث عن الموضوعات المتعددة بشكلٍ متسلسلٍ دون ارتباط لبعضها بالبعض الآخر، على طريقة التعدّد الحسابي للأحكام، أو نحوها. وهذا ممّا يضعف وحدة السياق، كظهورٍ قرآنّي في اعتباره دليلاً على وحدة الموضوع.
* * *
رأي صاحب الميزان
وقد اختار صاحب تفسير الميزان الرأي الأول في ما يُراد من كلمة {فِيمَا طَعِمُواْ} والرأي الثاني في ما يحمله التكرار من تنوّعٍ في المعاني، على أساس وحدة السياق من جهة، واعتبار التكرار للكلمة الواحدة دليلاً على أنَّ المتعلِّق مختلف فيها، فقال: فالّذي ينبغي أن يُقال: إنَّ الآية في معنى الآيات السابقة عليها، على ما هو ظاهر اتصالها بها، وهي متعرّضة لحال من ابتلي من المسلمين بشرب الخمر وطعمها، أو بالطعم لشيء منها، أو مما اقتناه بالميسر، أو من ذبيحة الأنصاب، كأنَّهم سألوا بعد نزول التحريم الصريح عن حال من ابتلي بشرب الخمر، أو بها وبغيرها، مما ذكره الله تعالى في الآية قبل نزول التحريم من إخوانهم الماضين، أو الباقين المسلمين لله سبحانه في حكمه، فأجيب عن سؤالهم أن ليس عليهم جناح إن كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إن كانوا جارين على صراط التقوى بالإيمان بالله والعمل الصالح، ثُمَّ الإيمان بكل حكم نازل على النّبيّ1، ثُمَّ الإحسان بالعمل على طبق الحكم النازل»[1].
* * *
الآية واردة لتقرير حقيقة عامة
ولكن، قد يبدو لنا أنَّ الآية واردةٌ في تقرير حقيقةٍ عامة، يُراد منها الإيحاء بأنَّ الطعام الَّذي يرزقه الله للإنسان، لا يعتبر محل اهتمام كبيرٍ في ذاته في ميزان الحساب أمام الله من حيث طبيعته، لتكون القضيّة قضيّة الحساب عليه في كميته ونوعيته من حيث هو رزقٌ من عند الله، بل القضيّة كلّها للِّذين {آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} من خلال الخط الَّذي التزموه، هو أن يتحركوا من مواقع التقوى والإيمان والعمل الصالح في ما يأكلونه، لأنَّ ذلك هو الَّذي يجعل من مسألة الطعام مسألةً تتصل بجانب الالتزام بالله، تماماً كما هي المسائل الأخرى في ما يفعله الإنسان في قضايا الحياة اليوميّة والعامّة، الّتي يُريد الله ـ سبحانه ـ من الإنسان أن يجعلها تجسيداً وتأكيداً لخط الانتماء إلى العقيدة في حياته، بما يُمثِّله من موقفٍ دقيقٍ شامل، ثُمَّ يجيء التأكيد من جديد لهذه الحقيقة، باختصار الفكرة في كلمة التقوى والإيمان، باعتبارهما يُمثِّلان العمل الصالح، في ما يوحيه الإيمان من التزامٍ، وفي ما توحيه التقوى من حركة الموقف.
ويتابع القرآن قضيّة التأكيد للفكرة، في تنويع المعنى بالأمر بالتقوى والإحسان، في ما تُمثِّله الكلمة الأولى من انضباط الإرادة عند الخط، فلا تميل على أساس هوى النفس لتقع في قبضة الأنانيّة الّتي تمنع الإنسان من الامتداد في طاقاته إلى حياة الآخرين، فتكون الكلمة الثانية ـ الإحسان ـ نتيجةً عمليّةً للتقوى، لتؤكد للإنسان شخصيته الفردية والاجتماعيّة، في حركة التجربة المتجددة في خط الخير، السائرة ـ أبداً ـ في اتجاه الله. وجاءت فقرة {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} لتجعل كل هذه المعاني داخلة في معنى الإحسان، باعتبار ما يُمثِّله من اختيار هذا المبدأ في فكرة الإيمان، ومعنى التقوى، وصورة الفعل. فإنَّ الله يحب الَّذين يعيشون الحياة منطلقاً لأفكارهم الحقّة والتزاماتهم الحيّة، ولا يعيشونها لذواتهم ولأهوائهم، لأنَّ ذلك ما يربطهم به ويقربهم إليه.
وربَّما كان السبب في ذهاب صاحب الميزان وغيره من المفسرين إلى اعتبار الآية تتمةً لما سبق، هو ما ورد في سبب النزول المتقدم ذكر روايته، من أنَّ الآية جاءت ردّاً على سؤال المسلمين عن مصير المسلمين الأولين الَّذين شربوا الخمر قبل نزول التحريم، بأنَّه ليس عليهم جناح في ما طعموه إذا أعقب ذلك التقوى والعمل الصالح في خط الإيمان والإحسان. ولكن يُمكن المناقشة في ذلك:
أولاً: بأنَّ الرِّواية ليست موثوقة عندنا.
وثانياً: أنَّ السؤال الَّذي يُعبّر عن القلق الَّذي يُساور المسلمين حين نزول آية الخمر لا موقع له، لأنَّهم كانوا يعرفون أنَّ التشريع المتأخر في تحريم بعض الأشياء أو الإلزام بها، لا يشمل النَّاس الَّذين عاشوا قبل زمن التشريع بلحاظ تدريجيّة الأحكام، فلا حاجة إلى بيان هذه الحقيقة القرآنيّة الّتي تفرضها طبيعة الأشياء.
وثالثاً: أنَّ سياق الآية ظاهرٌ في أنَّها واردةٌ في مقام الحديث عن التشريع في نفي الجناح في ما طعموه على أساس المستقبل، لا على أساس الحديث عن الماضي، حتَّى لو كان التعبير بلفظ الماضي. والله العالم.
* * *
المحافظة على التقوى والعمل الصالح.. قضية المؤمن الأساس
إنَّنا نستوحي من هذه الآية، أنَّ القضيّة الأساسيّة في حياة الإنسان المؤمن هي المحافظة على هذه الخطوط الأساسيّة، وهي الإيمان والتقوى والعمل الصالح والإحسان، ما يدفع الإنسان إلى مواجهتها بحذرٍ ووعيٍ وتدقيقٍ وملاحقةٍ دائمةٍ للتعديات المضادة الّتي تواجهه في الطريق. وتلك هي الحقيقة الإلهيّة التي تُمثل كل الوصايا والتعاليم والشرائع في ما أراد الله أن يجعله الحدّ الَّذي يجب على الإنسان أن لا يتجاوزه ولا يتعدّاه في ما يريد الله أن يعمقه في داخل الإنسان فكراً وشعوراً والتزاماً وامتداداً في خط الحياة الراضية المطمئنة بين يديه.
وقد يلاحظ المتأمل التركيز على البدء بالتقوى والتعقيب بالإيمان والعمل الصالح، أو الإيمان وحده، أو الإحسان بعده، في الوقت الَّذي قد يكون الأمر بالعكس في عمليّة التسلسل في الإيمان والتقوى، على أساس أنَّ التقوى هي نتيجة للإيمان، ولكن قد يُجاب عن ذلك، بأن المراد بالتقوى، هي هذه الحالة الوجدانيّة الروحيّة الّتي تُثير في عمق الشعور الإنساني، الإحساس بالمسؤوليّة في قضيّة الإيمان والإحسان، انطلاقاً من القلق الروحي المتطلّع إلى المعرفة، في شوق غامض يسير به في طريق الله.
ويبقى للمتأمل في الآية المجال الَّذي يُمكِّنه من اكتشاف اتجاهٍ جديدٍ في فهم المعنى، لأنَّ هناك أكثر من وجه تحتمله هذه الآية، لما يحيط الجانب التعبيري فيها من غموض، مما لم يوضح الله لنا كل أسراره. والله العالم.
ــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:6، ص:126 ـ 127.
تفسير القرآن