من الآية 94 الى الآية 99
الآيــات
{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلائدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في السَّمَاواَتِ وَمَا في الأرضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَي ْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}(94ـ99).
* * *
معاني المفردات
{لَيَبْلُوَنَّكُمُ}: البلاء: الاختبار والامتحان، وأصله إظهار باطن الحال، ومنه البلاء بالنعمة لأنَّه يظهر به باطن حال المنعم عليه في الشكر أو الكفر، والبلى الخلوقة لظهور تقادم العهد فيه.
{بِالْغَيْبِ}: الغيب: ما غاب عن الحواس ومنه الغيبة وهو الذكر بظهر الغيب فيه.
{حُرُمٌ}: جمع حرام للذكر والأنثى، وتقول: رجل حرام ومحرم بمعنى واحد، وحلال ومحلّ بمعنى واحد كذلك، وأحرم الرّجل دخل في الشهر الحرام أو دخل في الحرم أو أهلّ بالحج، وأصل الباب: المنع، وسميت النساء حُرمة لأنَّها تمنع، والمحروم الممنوع الرزق.
{مِّثْلُ}: المثل والمُثُل والشِّبه والشَّبَه واحد.
{النَّعَمِ}: هي الإبل والبقر والغنم، وإن انفردت الإبل قيل لها: نعم، وإن انفردت البقر والغنم لم تسمّ نعماً. ذكره الزجاج[1].
{عَدْلٍ}: قال الفراء: العدل ـ بفتح العين ـ ما عادل الشيء من غير جنسه، والعدل ـ بالكسر ـ المثل تقول: عندي عِدل غلامك أو شاتك إذا كانت شاة تعدل شاة أو غلامٌ يعدل غلاماً، فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت فقلت عَدل. وقال البصريون: العَدل والعِدل في معنى المثل كان من الجنس أو غير الجنس.
{وَبَالَ}: الوبال: ثقل الشيء في المكروه، ومنه قولهم: طعام وبيل وماء وبيل إذا كانا ثقيلين غير ناميين في المال، ومنه قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل: 16] أي ثقيلاً شديداً.
{الْبَحْرِ}: عنى بالبحر جميع المياه، والعرب تسمي النهر بحراً، ومنه قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الروم: 41] والأغلب على البحر أن يكون ماؤه ملحاً، ولكن إذا أطلق دخل فيه الأنهار.
{وَلِلسَّيَّارَةِ}: جماعة المسافرين.
{الْكَعْبَةَ}: قال الراغب في مفرداته: الكعبة: كل بيت على هيئته في التربيع وبها سميت الكعبة، قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ}[2].
قال في مجمع البيان: وإنَّما قيل للمربع كعبة لنتوء[3] زواياه الأربع... ومنه كعب الإنسان لنتوئه، وكعبت المرأة إذا نتأ ثديها[4].
{الْبَيْتَ الْحَرَامَ}: سمّي بذلك لأنَّ الله حرّم أن يصاد صيده، وأن يعضد شجره، وأن يختلى خلاه، ولأنَّه عظّم حرمته.
{قِيَاماً لِّلنَّاسِ}: قال الراغب: أي قِواماً لهم يقوم به معاشهم ومعادهم. قال الأصم: قائماً لا ينسخ[5].
{وَالْهَدْىَ}: مختص بما يُهدى إلى البيت، قال الأخفش: والواحدة هِدية قال: ويُقال للأنثى هدي، كأنه مصدر وُصف به.
{وَالْقَلائِدَ}: جمع قلادة، وهي المفتولة الّتي تجعل في العنق من خيط وفضة وغيرهما، وبها شبه كل ما يتطوق وكل ما يحيط الشيء، يُقال: تقلد سيفه تشبيهاً بالقلادة. وقيل: إنَّ المراد بالقلائد ذوات القلائد، لأنَّهم ـ أي العرب ـ كانوا يقلدون الهدي بما يدل عليه.
وقال في مجمع البيان: كان أهل الجاهليّة لا يغزون في الأشهر الحرم وكانوا ينصلون فيها الأسنّة ويتفرغ النَّاس فيها إلى معايشهم وكان الرّجل يقلّد بغيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف[6].
{الْبَلاغُ}: وصول المعنى إلى غيره. وهو ها هنا وصول الإنذار إلى نفوس المكلفين. وأصل البلاغ: البلوغ، ومنه البلاغة: وهي إيصال المعنى إلى النفس في أحسن صورة من اللفظ. والبلاغ: الكناية، لأنَّه يبلغ مقدار الحاجة.
* * *
مناسبة النزول
جاء في الدر المنثور: عن مقاتل بن حيان، قال: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبيّة، فكانت الوحش والطير والصيد يغشاهم في رحالهم، لم يروا مثله قطّ في ما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}[7].
وجاء عن الشيخ محمَّد بن الحسن الطوسي في التهذيب: عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، قال: «سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عزَّ وجلّ: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيء مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} قال: حُشر عليهم الصيد من كل وجه حتَّى دنا منهم ليبلونهم به»[8].
* * *
تركيز الشعور بالغيب وروح السلام
في هذه الآيات حديثٌ عن صيد البر والبحر في حال الإحرام، في ما يتعلّق بأحكامه الشرعيّة، وإيحاءٌ بأنَّ التحريم والتحليل في الإسلام، يعتبران نوعاً من أنواع الاختبار والامتحان للمسلمين، بالإضافة إلى تعلّقهما بالمصالح والمفاسد، وذلك لأنَّ الإيمان حالةٌ فكريّةٌ ووجدانيّةٌ في داخل النفس، يتحرّك فيها الإحساس بالغيب، في ما يوحيه الإيمان بالله من أجواءٍ غيبيّةٍ لا تتصل بالحس بشكل مباشر، ولذا، فهو قد يضعف ـ في بعض الحالات ـ ليعود مجرّد خاطرةٍ من خواطر الفكر، وعاطفةٍ من عواطف الشعور، فلا يلتزم بطاعة، ولا يمتنع عن معصية، وقد يشتد فيتجسد التزاماً بأوامر الله ونواهيه. لذا احتضن التشريع الإلهي في طياته وجهاً من وجوه البلاء والاختبار، ليميّز الله الإيمان المائع من الإيمان المستقر. وهذا ما أراد الله بيانه في هذه الآيات، فقد فرض على الناس في حال الإحرام، وفي داخل الحرم، ترك الصيد البري، مما تناله أيديهم من فراخ الطير وبيضه، وصغار الصيد، ومما تناله رماحهم من كبارها ما كان من الوحوش ونحوه، لأنَّ الله يريد لهم، من جهةٍ، أن يعيشوا حالة السلام مع كل شيءٍ حيٍّ حولهم، وكوسيلةٍ من وسائل تأكيد الإرادة الفاعلة القويّة في ما يأمر به الله تعالى وينهاه من جهةٍ أخرى، مما يتصل بأمور حياتهم في مطلق الأحوال، لا سيّما في حال الإحرام بوصفه مظهراً بارزاً من مظاهر الالتزام الاختياري للإنسان بأحكام الله تعالى، بحيث يشكل منطلقاً من جملة المنطلقات التشريعيّة الأخرى، كالصوم والصَّلاة.. الخ، للتقيد التام بهذه الأحكام في كل الأوقات والأحوال والأمكنة.
فيقف الإنسان مع التزامه الداخلي بين يدي الله بصفته الإيمانيّة الّتي تُمثِّل الإيمان بالغيب، والخشية بالغيب، والإحساس العميق بحركة الغيب في وجدانه الخفي، كما أراد الله للبلد الحرام أن يكون منطقة سلامٍ للحيوان وللإنسان، فلا يعرض لهما أحد بسوء من موقع حرمة البيت والإنسان فيه. وقد ذكر في التفاسير أنَّ هناك أكثر من روايةٍ صحيحةٍ، تؤكد أنَّ الوحوش والطير كانت تنتقل قريباً من المسلمين في حالة عمرة الحديبية فلا يعرضون لها بسوء، التزاماً منهم بحرمة إحرامهم، وبعظمة البلد الحرام والبيت الحرام، واستمر هذا التشريع في حياة المسلمين، فلا مجال بعد ذلك للاعتداء في هذا النطاق، فقد حرّمه الله تحت طائلة العذاب الأليم في الآخرة، والخسارة في الدنيا، في ما تُمثِّله الكفَّارة من عقوبةٍ رادعةٍ في مستوى الجانب المالي من حياة الإنسان. وقد فصّلها الله في هذه الآيات، على سبيل التخيير بين أن يقدم مثل ما قتله من الأنعام هدياً يهدى به بالغ الكعبة لينحر بها، أو يذبح في الحرم بمكة، أو بمنى {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} ليحدّداه تحديداً دقيقاً، {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً} في نطاق التشريع.
ولكنَّ هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخرى تتحدث عن تكرر الكفَّارة حسب تكرر القتل، وهو الأشبه بما جرت عليه طريقة الشرع في تكرار الجزاء عند تكرار الجريمة، والأمر في ذلك موكول إلى أبحاث الفقه، وجاءت خاتمة الآية: {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} لتُثير في نفوس المؤمنين الشعور العميق بالهول العظيم من انتقام الله من المتمرّدين، وذلك من أجل أن يذوق عاقبة أمره فيرتدع عن التعدي على حدود الله، وذلك هو التشريع الجديد الَّذي يُحاسب النَّاس على أساسه في ما يستقبلونه من التعدي على حرمات الحرم، أو الإحرام. أمَّا الأفعال المماثلة الّتي مارسها النَّاس فيها قبل هذا التشريع، فليس لله على النَّاس فيها شيء، إذ لم يسبق فيها تحريم من الله ليؤاخذهم به. وليس للتشريع في الإسلام مفعولٌ رجعيٌّ، لأنَّ الله لا يُعاقب النَّاس في الدنيا والآخرة إلاَّ في ما أقام عليه الحجَّة بالأمر والنهي.
والظاهر أنَّ التعبير بكلمة العفو في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف} لا يُراد بها العفو عن الذنب، بل يُراد بها عدم العقوبة، وربَّما كانت مناسبة التعبير مرتكزةً على أساس ما في هذا الفعل من مفسدة وحزازة لما يوحي به من عدم احترام حرمة الحرم، ما يجعله شبيهاً بالذنب في طبيعته، وإن لم يكن ذنباً في حقيقته، وأمَّا كلمة {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} فيبدو أنَّها تأكيد لحكم وجوب الكفَّارة باعتبارها لوناً من ألوان الانتقام العملي في الدنيا، بالإضافة إلى عذاب الله، وذلك من أجل المقابلة بين حالة العفو وحالة الانتقام في تلخيصٍ سريعٍ للموضوع. ولكنَّ هناك بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت(ع)، تعتبر الكفَّارة جزاءً في قتل الصيد للمرة الأولى، وترى أنَّ المرة الثانية لا تستتبع كفَّارة، بل الانتقام من الله الَّذي يوحي بجزاءٍ صعبٍ كبيرٍ من خلال الإضمار الَّذي يحمله التعبير من جهة أخرى، ولعلَّ استيحاء كلمة {وَمَنْ عَادَ} يُعطي هذا المعنى، لأنَّ الظاهر منها التكرار في أعلى حدوده من خلال الاستغراق في التفكير بهاتين الصفتين من صفاته {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} لأنَّها توحي بأنَّ قوته لا تقف عند حد، فإنَّه لا يُمكن لأيّة قوّةٍ أن تنتقص منها بشيء، لأنَّها فوق كل شيء، وبذلك تكون صورة الانتقام قريبة من صورة العزّة.
وتعود الآية الكريمة لتتحدث عن الموضوع في سياق التحديد لما يحرم من الصيد وما يحل منه، {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} فقد حرّم الله صيد البر للمُحْرِمين، أمّا صيد البحر وطعامه، فقد أحلّه الله متاعاً للمؤمنين المحرمين وللقافلة، ولعلَّ ذلك جاء لأنَّ الله يُريد للإحرام أن يكون حالةً من حالات السلام في ما يعيش فيه الإنسان من الأرض، ليكون ذلك سبيلاً من سُبل تركيز روح السلام في نفس المؤمن فيمن حوله، وفي ما حوله من مخلوقات الله. أمَّا البحر فهو منطقة استثنائيّة، لا يتمثَّل فيها العدوان في الصيد، أو لا تتمثَّل فيها صورة السلام والحرب، كما تتمثَّل في مجتمع الأرض. والله العالم.
* * *
التقوى عمق روحي للإنسان
{وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فكانت تقوى الله هي الإيحاء الروحي الَّذي أراد الله إثارته في أعماق الإنسان في إثارة الشعور بالحشر أمامه في يوم القيامة، ليكون ذلك أساساً للانضباط أمام حدود الله في حلاله وحرامه.
* * *
الكعبة ـ البيت الحرام مركز سلامٍ وقيامٍ لمعاش النَّاس
وجاءت الآية الكريمة {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} لتؤكد أنَّ الله جعل للنَّاس الكعبة البيت الحرام، قياماً للنَّاس في أقطار الأرض، وهي ملتقى حجّهم وعمرتهم، وهي منطقة السلام الّتي أراد الله لهم أن يعيشوا فيها الأمن والطمأنينة، فلا يعتدي أحد على أحد، ولا يخاف شخص من آخر، كما جعل الله الحرمة للشهر الحرام ليكون زمن سلام يحفظ للنَّاس حياتهم واستقرارهم في أجواء الأمن والطمأنينة. أمَّا الهدي والقلائد في قوله:{وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} فهما من توابع حرمة البيت.
وقد ذكر العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان ملاحظةً جيّدةً حول الغاية من تقرير هذه الحقيقة في هذه الآية، فقال: «وكان المراد من ذكر هذه الحقيقة عقيب الآيات الناهية عن الصيد، هو دفع ما يتوهم أنّ هذه أحكام عديمة أو قليلة الجدوى، فأي فائدة لتحريم الصيد في مكان من الأمكنة، أو زمان من الأزمنة؟ وأي جدوى في سوق الهدي ونحو ذلك؟ وهل هذه الأحكام إلاَّ مشاكلة لما يوجد من النواميس الخرافيّة بين الأمم الجاهلة الهمجيّة؟ فأجيب عن ذلك بأنَّ اعتبار البيت الحرام والشهر الحرام وما يتبعهما من الحكم، مبنيٌّ على حقيقة علميّة وأساس جديّ، وهو أنَّها قيام يقوم به صلب حياتهم»[9].
وكانت الفقرة الأخيرة في الآية: {ذلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيء عَلِيمٌ} للإيحاء بأنَّ الله يعلم ما يصلح من أمور النَّاس وما يفسدها، من خلال علمه المطلق بما في السماوات والأرض وبكلّ شيء في الكون، فهو يشرع للحياة وللنَّاس من خلال علمه بكل حاجاتها وحاجاتهم، ما يؤدي إلى الإذعان لسلامة الأحكام الّتي يشرّعها الله تعالى، والاطمئنان إلى الحلول الّتي يقدمها للمشاكل الإنسانيّة في شريعته.
وكانت خاتمة هذه الآيات تأكيداً لحالة الانضباط أمام حدود الله، في تعميق الشعور بأن {اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن يتمرّد عليه، {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن يطيعه أو ينيب إليه. فذلك هو الخط الَّذي ينبغي للإنسان أن يسير عليه في حياته، في موقفه من ربِّه، من موقع إرادته واختياره في ما يتحمله من مسؤوليّة نفسه ومصيره، و {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}.
أمَّا الرسول، فليست مهمته إلاَّ البلاغ الواضح الَّذي لا يترك هناك شبهةً ولا مشكلةً في المعرفة لأيّ إنسانٍ، ليُقيم الحجّة على النَّاس من قبل الله، ليتحمل كل إنسانٍ مسؤوليته.
ــــــــــ
(1) مجمع البيان، م:2، ص:304.
(2) مفردات الراغب، ص:450.
(3) نتأ نتوءاً الشيء: خرج عن موضعه من غير أن ينفصل، ارتفع وانتفخ.
(4) مجمع البيان، ج:3، ص:308.
(5) مفردات الراغب، ص:432.
(6) مجمع البيان، ج:3، ص:309.
(7) الدر المنثور، ج:3، ص:185.
(8) التهذيب، ج:5، باب:16، ص:300، رواية:2.
(9) تفسير الميزان، ج:6، ص:142.
تفسير القرآن