الآية 100
الآيــة
{قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يا أُوْلي الاَْلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(100).
* * *
معاني المفردات
{لاَّ يَسْتَوي}: الاستواء على أربعة أقسام: استواء في المقدار، واستواء في المكان، واستواء في الإنفاق، والاستواء بمعنى الاستيلاء راجع إلى الاستواء في المكان لأنَّه تمكُّن واقتدار.
{الْخَبِيثُ}: أصله: الرديء، مأخوذ من خبث الحديد وهو رديئه بعدما يخلص من النَّار جيّده، ففي الحديد امتزاج جيّد برديء.
{أَعْجَبَكَ}: الإعجاب سرور بما يتعجّب منه، والعُجب مذموم لأنَّه كبر يدخل على النفس بحال يتعجّب منها.
* * *
القيمة في الإسلام للنوع لا للكم
في القرآن الكريم أكثر من آية تتناول طرق التربية الإنسانيّة وفق المنهج الَّذي تُريد أن تركزه في حياة الإنسان كقاعدةٍ عامّةٍ للحركة. وقد كان من المنهج الَّذي أراده القرآن، أنَّ على الإنسان أن يبتعد في ميزانه للأشياء في دائرة التقويم، عن النظر إلى جانب الكمّ، بل يجب أن يقترب من النظرة إلى الأشياء بمنظار «الكيف» و «النوع»، لأنَّ الكثرة لا تُعبّر عن طبيعة الشيء في ذاته، بل هي تعبير عن حجمه. ومن الطبيعي أنَّ القيمة تنطلق من الخصائص الذاتيّة للشيء لا من الحجم الخاص به، لأنَّ تلك الخصائص هي الّتي تُميّز عمق القوّة فيه وامتدادها، بينما يُمثِّل الكمّ حجم المساحة. ولهذا أكد القرآن على مواجهة الكثرة في واقع الحياة في عمليّة ملاحقةٍ للنماذج الّتي تُمثِّلها، فانتهى إلى نتيجةٍ حاسمةٍ تقرر أنَّ {أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]، و {لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]، و {لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65]، وأنَّ القلة هي الّتي تُمثِّل الإيمان والوعي والعلم والتقوى، وأنَّ القلة قد تغلب الكثرة إذا كانت الخصائص الذاتيّة للقلّة أقوى من الحجم العددي للكثرة، وذلك من أجل تفريغ الداخل من السقوط أمام المظهر الفخم للكثرة.
وقد جاءت هذه الآية لتُثير أمام الإنسان بعضاً من مفردات هذا المنهج، فهناك مفهوم الخبيث ومفهوم الطيب، في ما يتمثَّلان به في حركة الواقع في الأشخاص والأشياء والعلاقات. فهناك إنسانٌ خبيثٌ في نواياه السيئة، وفي كلماته الحاقدة وأفعاله الشريرة، وهناك إنسانٌ طيّبٌ في دوافعه وأفكاره الحسنة، وفي أقواله النافعة، وفي ممارساته الخيّرة. وهناك الطعام الطيب والخبيث في مذاقه وفي تأثيراته، وهناك الأرض الطيبة والخبيثة في ما ينبت فيها وما يتمثَّل فيها من حالة الخصب والجدب. وربَّما يتنامى الخبيث ويتكاثر ويسيطر على الساحة بفعل الظروف الموضوعيّة المحيطة به، وربَّما يقل الطيبّ ويضعف بفعل التحديات الّتي تواجهه والمؤثرات السلبيّة الّتي تفعل السيىء، فتؤخر نموه، وتضعف حركته. ولكنَّ ذلك لن يجعل من الخبيث قيمةً إنسانيّةً أو حياتيّةً أو طبيعيّةً، ولن يغيّر شيئاً مما يحمله الطيّب من قيمةٍ في ميزان الله والحياة، لأنَّ الله ينظر إلى الأشخاص والأشياء من خلال ما فيها من عوامل الخير ومؤثراته، فيرفض ما كان فيها بعيداً عن الخير، ويرضى عمّا كان قريباً منه. وتبقى للطيّب في نطاق ذلك قيمته ومكانته، وتظل للخبيث وضاعته وحقارته، وهكذا في ما تتمثَّله الحياة لنفسها من خيرٍ وشر.
* * *
كل حلال طيب وكل حرام خبيث
وإذا كانت القضيّة بهذه المنزلة من الوضوح في ميزان النظرة الإلهيّة إلى الواقع، فلا بُدَّ من أن يتحرّك الإنسان من خلالها في علاقته بالأشخاص والأشياء، فيتخلّص من حالة الانبهار الفكري والشعوري الّتي تسقطه أمام الجانب الكميّ في الحياة، ليرتبط بالجانب النوعي منه، ويبادر إلى تأكيد حالة الانتماء للأشخاص والمؤسسات انطلاقاً مما تختزنه في داخلها من عناصر الطيبة والخبث، بعيداً عن طبيعة الحجم، فلا ينتمي إلاَّ إلى الطيبين من النَّاس، ولا يتعاون إلاَّ مع الطيّب من المؤسسات، في ما يعنيه الطيّب من معنى الفكر والروح والشعور والعمل. وينطلق في حركة الحياة في مجالاته الخاصة، ليأكل ما كان طيبّاً، ويرفض ما كان خبيثاً، ويتكلم الكلمة الطيبة ويعيش لها، ويرفض الكلمة الخبيثة ويحاربها، ويستمر في ذلك كلّه ليلتقي الطيب والخبيث مع الحلال والحرام، لأنَّهما يُمثِّلان ذلك في عمق المعنى وامتداده.
وهذا ما نستفيده من قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فكل حلالٍ طيبٌ وكل حرامٍ خبيثٌ.
* * *
خط التقوى خط الحلال الطيب
وفي ضوء ذلك، يتمثَّل خط التقوى في أجواء الخبيث والطيب، ليكون السير في نطاق الأشياء الطيبة، والعلاقات الطيبة، والأشخاص الطيبين، انسجاماً مع خط التقوى، كما يكون السير في الخبيث، من ذلك كلّه، ابتعاداً عن الخط التقي في الحياة. وإذا كانت التقوى تلتقي بخط الخبيث والطيب في الموقف، فإنَّها تلتقي بخط العقل في حركته في حياة الإنسان، في ما يدعوه إليه من خير وصلاح، وفي ما يبعده عنه من شر وفساد، ولذلك جاءت هذه الآية لتؤكد هذا الارتباط بين التقوى والعقل، {قُل لاَّ يَسْتَوي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يا أُوْلِي الاَْلْبَابِ} وذلك كوسيلةٍ وحيدةٍ للفلاح في الدنيا والآخرة، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وعلى هذا الأساس، تنطلق الآية لتخرج المسألة من نطاق التقويم في المجال الفكري، لتكون مجرّد ترفٍ يلهو به الفكر، بما يلهو به من معادلاتٍ تجريديّةٍ بعيدةٍ عن الواقع، فتدخلها في المجال العملي الَّذي يحيط بجميع الجوانب الحيّة في حياة الإنسان العامّة والخاصة، ليلتقي بكل آفاقه ومواقع فكره وحركته، بالمستوى الَّذي يمثِّل الطابع العام لشخصيّته في حقيقة الانتماء ونوعيّة العلاقات وحركيّة الممارسة.
* * *
الديمقراطية في ميزان النوع والكم
وربَّما نجد الاتجاه السائد في العصر الحاضر في العالم، اعتبار الأكثريّة ـ في مستوى الكميّة بعيداً عن النوعيّة ـ الأساس في الشرعيّة العمليّة الّتي تُمثِّل عنوان الحسن والطيب في جانب الأكثريّة، والقبيح والخبيث في جانب الأقليّة، وهذا ما يتمثَّل في اللعبة الديمقراطيّة، فهل يعني هذا أنَّ التفكير الإنساني يعتبر القيمة الإيجابية في دائرة الأكثريّة كما يعتبر القيمة السلبيّة في دائرة الأقليّة دائماً؟
إنَّنا نلاحظ أنَّ المسألة تتحرك في اللعبة الديمقراطية من موقع حركة النظام في الواقع العملي للنَّاس، باعتبار أنَّ البديل عن ذلك حكم الفرد الَّذي يُمثِّل الاستبداد، فالمسألة نسبيّةٌ في حساب القيمة النظاميّة، ولذلك قيل: إنَّ الديمقراطيّة أقل الأنظمة سوءاً بمقارنتها بالأنظمة الاستبداديّة، لا أكثرها حسناً، فهي ـ لديهم ـ النظام الَّذي يُمكن أن يحقق التوازن بأقل قدرٍ ممكنٍ في حساب الحريات، بحيث تكون المصلحة في طبيعة النظام لا في مضمونه.
ولذلك نرى الأصوات ترتفع بقوّة بانتقاد الأداء الشعبي الأكثري إذا انحرف عن المصالح الحيويّة للنَّاس، ويرون أنَّ الأكثريّة قد أخطأت في النتائج، أو أنها كانت بعيدةً عن وعي المسؤوليّة. ولذلك يعملون على التغيير من خلال لعبةٍ ديمقراطيّة أخرى لاضطرارهم إلى البقاء في دائرة النظام الديمقراطي لتفادي النظام الاستبدادي.
إنَّ معنى ذلك أنّ الأكثرية لا تُمثِّل ـ حتى عند المؤمنين بها كنظام ـ القيمة الإيجابية في مضمونها الفكري والأخلاقي والقانوني، لأنَّ قضيّة الخبيث والطيب، والحق والباطل، تتمثَّل في العناصر الكامنة في ذات الأشياء في العمق الداخلي لا في موقف النَّاس منها، أو التصورات الذهنيّة الخاضعة في كثير من الحالات إلى المؤثرات الخاطئة البعيدة عن المصلحة الحقيقيّة للنَّاس.
وفي ضوء ذلك، يبقى الخط القرآني في مضمون القيمة الإيجابيّة والسلبيّة هو الَّذي يحكم الإنسان في نتائجه العمليّة في الحياة.
تفسير القرآن