تفسير القرآن
المائدة / من الآية 101 إلى الآية 102

 من الآية 101 الى الآية 102

الآيتــان

{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ}(101ـ102).

* * *

معاني المفردات

{تُبْدَ}: الإبداء الإظهار: أبدى الشيء إذا أظهره، وبدا يبدو بدواً إذا ظهر. وبدا له رأيه بداءً إذا تغيّر لأنَّه ظهر له، والبادية خلاف الحاضرة، والبدو خلاف الحضر من الظهور، ومنه قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} [الجاثية:33] الآية. ولم يجىء في أقوال العرب البداء بمعنى الندامة وتغيّر الرأي، وإذا كان لفظ البداء يطلق على الله، فالمراد به الإرادة والظهور دون ما يظن قوم من الجهال، وعليه تشهد أقوال العرب وأشعارهم، فمن ذلك:

قل ما بدا لك من زور ومن كذب حِلمي أصمّ وأذني غيرُ صَمّام

{تَسُؤْكُمْ}: السوء كل ما يغمّ الإنسان من الأمور الدنيويّة والأخرويّة ومن الأحوال النفسيّة والبدنيّة والخارجة من فوات مالٍ وفقد حميم.

* * *

مناسبة النزول

ما هي هذه الأشياء الّتي نهى الله عنها وأوضح أنَّها إذا بدت فستكون نتيجتها الإساءة إلى السائلين؟ هل هي أشياء محددة، أو هي من الأشياء العامّة الّتي أعطاها الله هذه الصفة وترك للإنسان أمر اكتشافها في كل قضاياه ومشاكله؟

لقد ذكر المفسرون عدّة روايات في الجواب عن ذلك، في ما ذكره صاحب مجمع البيان: «فقيل: سأل النَّاس رسول الله(ص) حتَّى أحفوه بالمسألة، فقام مغضباً خطيباً فقال: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلاَّ بيّنته لكم، فقال رجل من بني سهم يُقال له عبد الله بن حذافة، وكان يطعن في نسبه، فقال: يا نبي الله من أبي؟ فقال: أبوك حذافة بن قيس. فقام إليه رجل آخر، فقال: يا رسول الله، أين أبي؟ فقال: في النَّار، فقام عمر بن الخطاب وقبَّل رجل رسول الله(ص)، وقال: إنّا يا رسول الله حديثو عهد بجاهليّة وشرك فاعف عنَّا، عفا الله عنك، فسكن غضبه، فقال: أمَّا والَّذي نفسي بيده لقد صُورت لي الجنَّة والنَّار آنفاً في عرض هذا الحائط، لم أر كاليوم في الخير والشر. عن الزهري وقُتادة عن أنس.

وقيل: كان قوم يسألون رسول الله(ص) استهزاءً مرة، وامتحاناً مرة، فيقول له بعضهم: من أبي؟ ويقول الآخر أين أبي؟ ويقول الآخر إذا ضلّت ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله عزَّ وجلّ هذه الآية. عن ابن عباس.

وقيل: خطب رسول الله(ص) فقال: إنَّ الله كتب عليكم الحجّ، فقام عكاشة بن محصن، وقيل: سراقة بن مالك، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتَّى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله(ص): ويحك، وما يؤمنك أن أقول نعم، والله لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني كما تركتكم، فإنَّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. عن عليّ بن أبي طالب(ع) وأبي أمامة الباهلي»[1].

وقد نتحفظ أمام هذه الرِّواية، في طريقة رد الفعل من الرسول(ص) في كثرة سؤالهم، بما لا يتفق مع خُلقه العظيم، في كشف الأمور الشخصيّة المتعلّقة بالأموات، والانطلاق مع المسألة من موقع الانفعال، حتَّى قام عمر بن الخطاب ليبعث في نفسه الهدوء بأسلوب عاطفي. ولكن الجوّ العام الَّذي تُثيره الرِّوايات، يُعطي الفكرة من خلال النماذج المتنوعة المتعلقة بقضايا التكليف، مما يوحي بأنَّ القضيّة تتسع لذلك كلّه في ما يريده الإسلام من تربية الإنسان على أساسٍ من الانطلاق بالمعرفة في الاتجاه الَّذي ينفع النَّاس، مما يحتاج النَّاس فيه إلى السؤال من خلال غموض الفكرة وعدم وجود الأساس الَّذي يكفل لنا مهمة الوضوح.

* * *

منهج التعاطي مع أحكام الله

في هاتين الآيتين حديثٌ عن المنهج الذي يُريد الله أن يضعه للنَّاس في مواجهتهم لما يلقى إليهم من أحكام الله، عند نزولها في القرآن، مما لم يرد الله أن يثقل عليهم أمره بالتكليف، بل ترك الحريّة فيه للمكلفين، في ما يفعلونه أو يتركونه، بالنسبة إليه. فقد يبدو لبعضهم أن يدخلوا في تفاصيل ذلك لا من جهة غموضٍ في حدود التكليف، ليكون السؤال محاولةً للسير به في طريق الوضوح، ولا من جهة شبهةٍ في طبيعة المضمون، ليكون السؤال وسيلةً لإزالة الشبهة، بل كان ذلك لمجرّد الفضول الذاتي الَّذي يدفع الإنسان إلى السؤال من خلال عناصر الإثارة في الساحة، ليُثير الجوّ من حوله في عمليّة تساؤل ونقاش. فأراد الله لهم أن يتركوا ذلك من أجل أن يتحول السؤال عندهم، في ما يُمثِّله من قلق المعرفة، إلى سبيل من سبل إغناء الفكر العملي عنده، في ما يحتاجه في حركة العقيدة أو الحياة، بعيداً عن الأشياء الّتي لا علاقة لها بذلك، بل هي من القضايا الّتي تُمثِّل ترفاً فكرياً لا ضرورة له.

* * *

وقفة مع الميزان

وقد أثار صاحب الميزان الحديث حول اختصاص الآية بالسؤال عن متعلِّقات الأحكام وخصوصياتها مما لا ضرورة له، لأن الله لم يعرض لها في ما يعرض له من تفاصيل الآيات، ولم يكلِّف الإنسان عناء العمل في دائرتها. قال في توجيه ذلك: «إنَّ الآية الثانية: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} الخ، وكذا قوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ} تدل على أنَّ المسؤول عنها أشياء مرتبطة بالأحكام المشرعة كالخصوصيات الراجعة إلى متعلّقات الأحكام مما ربَّما يستقصى في البحث عنه والإصرار في المداقة عليه، ونتيجة ذلك ظهور التشديد ونزول التحريج كلّما أمعن في السؤال وألح على البحث، كما قصّه الله سبحانه في قصة البقرة عن بني إسرائيل، حيث شدَّد الله سبحانه بالتضييق عليهم كلّما بالغوا في السؤال عن نعوت البقرة الّتي أمروا بذبحها»[2].

ولكنَّنا نعتقد أنَّ ذلك لا يخصص الآية بما ذكر من حيث الاستيحاء، وإن كان قد يقترب من التخصيص من حيث اللفظ، لأنَّ هذه الأمور الّتي قد يسألونها في نطاق الأحكام، في ما يتصل بها من خصوصيات الموضوع، لا خصوصيّة لها، إلاَّ من حيث إنَّها من الأمور الّتي لا ضرورة للسؤال عنها، لأنَّها لا تُمثِّل وجهاً من وجوه المعرفة النافعة للإنسان. وبذلك تلتقي مع كثيرٍ من الأسئلة الّتي تتعلّق ببعض شؤون الحياة الخاصة أو بما يحاول النَّاس أن يثيروه من خصوصيات الحديث عن تفاصيل ما بعد الموت، أو عن شؤون التفصيل بين شيءٍ وآخر أو بين إمامٍ ونبي، أو بين وليٍّ وولي، مما لا يُمثِّل أيَّ شأنٍ من شؤون العقيدة والحياة.

{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ} وقد نستطيع التركيز على بعض جوانب الدلالة اللفظيّة للكلمة، فنجد أنَّها تشمل كثيراً من القضايا المتعلِّقة بالتصوّر التفصيلي لكثيرٍ مما لا يُريد الله لنا أن نخوض فيه، ما لم يتصل بمسؤوليتنا في قضايا المعرفة قبل الموت أو بعده، والّتي يُمكن اشتقاقها من قوله تعالى: {إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} لأنَّ الأشياء الّتي قد تسوء الإنسان قد تتعلَّق بالعمل، وقد تتعلّق بالتصوّر في ما يختلف فيه الأمر من حيث انسجامه مع تصوراته الذاتية، أو مع مستوى تفكيره للأشياء وعدم انسجامه معها. {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} كما أنَّ الحديث عن نزول القرآن بها لا يصلح أن يكون دليلاً على التخصيص بما ذكر، لأنَّ القضيّة هي من الأمور الفرضية لا الواقعيّة، ليُقال إنَّه ليس من شأن القرآن أن ينزل بالقضايا الخاصة، فقد أراد الله أن يبيّن لهم أنَّ السؤال يستتبع الجواب، من خلال الوحي الَّذي قد يُبدي بعض الأشياء الّتي لا ترضي هؤلاء السائلين من حيث تصوراتهم العامة والخاصة، وذلك من خلال الحديث عن ارتباط النتائج بمقدماتها. وأمَّا التعقيب بقوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} فلا يصلح حجّة على الموضوع، إذ من الممكن أن يكونوا قد كفروا بها {ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} لأنَّها لم تنسجم مع تصوراتهم عن طبيعة تلك الأمور المتعلِّقة بالكون وبالحياة. وإذا توقفنا عند كلمة: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} فإنَّنا نفهم منها إهمالها، لا العفو بمعنى عدم التكليف، وذلك على سبيل الكفاية، في ما يُمثِّل العفو من إسقاطٍ للذنب حتَّى كأنَّه لم يكن. والله العالم.

وربَّما كان من سلبيات الرأي الَّذي يُفسر الآية بما ذكر من الأسئلة في نطاق خصوصيات التشريع، أنَّ المضمون يبقى في نطاق القضيّة التاريخيّة الّتي يتحدث فيها القرآن عن حادثةٍ تاريخيّةٍ، بينما يتحول المضمون في النطاق الشامل إلى فكرةٍ عامةٍ تتحرك في الحياة، كما يتحرك الليل والنهار في مجرى الزمن، وبذلك يكون أقرب إلى جوّ القرآن المضموني. ولكن قد يبدو للناظر المتأمل، أنَّ من الممكن الاستفادة في حركة الواقع من الرأي الأول، في ما يأخذه الإنسان من فتوى عامةٍ وأحكامٍ مطلقةٍ، لم يتعرض المجتهد للتخصيص في الأولى، ولا للتقييد في الثانية، أو في ما يوجه إلى العاملين من تعليمات في حقل العمل الإسلامي في الدعوة والجهاد، فلا يتعقّد العاملون والمكلفون أمام حالات الشك، في التقييد والتخصيص من دون أساس لفظي، بل يسيرون في مسؤولياتهم على أساس ما يفهمونه من اللفظ، لأنَّ ذلك هو الَّذي يملكون فيه الحجّة في مجال المسؤوليّة، وتبقى للقضايا الأخرى مجالات الاستيحاء للانطلاق بها إلى الآفاق الشاملة.

وهكذا تكون الآية سائرة على طبيعة المنهج الإسلامي في تربية الشخصيّة المسلمة على أساسٍ من الجدية العمليّة في حركة المعرفة في الحياة، فلا تنطلق في اهتمامها إلاَّ بالنافع المفيد لها وللنَّاس، ولا تُثير علامات الاستفهام إلاَّ في ما أُبهم عليها أمره، مما لا بُدَّ من معرفته، لعلاقته بالمسؤوليّة على مستوى النظرية والتطبيق.

وقد واجهت الآية الجانب السلبي من المنهج، بالتأكيد على نقطتين في ما يمكن أن يحصل من ردود الفعل:

أولاً: الاستيحاء من نتائج الجواب عن السؤال لما يتضمنه من مشاكل وآلام ومضايقات نفسيّة.

ثانياً: التمرّد على تلك النتائج والكفر بها لعدم موافقتها للفكر الذاتي، وللمزاج وللعادات، كما فعلها قوم آخرون.

وربَّما كانت هاتان النقطتان لا تُمثِّلان مشكلةً في ما يحتاج الإنسان إلى معرفته، كما في الكثير من حقائق الإسلام في العقيدة والتشريع، مما لا يريح النَّاس في أفكارهم وأهوائهم، فيتألمون منه، ويتمرّدون عليه، ولكنَّ القضيّة هنا أنَّها تمثل إثارة للمشكلة من غير جدوى، لأنَّ المسألة لا تُمثِّل شيئاً مهمّاً على مستوى العقيدة والحياة.

ــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:3، ص:312 ـ 313.

(2) تفسير الميزان، ج:6، ص:152.