تفسير القرآن
المائدة / من الآية 103 إلى الآية 104

 من الآية 103 الى الآية 104

الآيـتـان

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}(103ـ104).

* * *

معاني المفردات

{بَحِيرَةٍ}: البحر: الشق، وبحرت أذن الناقة أبحرها بحراً إذا شققتها شقاً واسعاً، والناقة بحيرة وهي فعيلة بمعنى المفعول، مثل النطيحة والذبيحة. وسمي البحر بحراً لسعته.

{سَآئِبَةٍ}: فاعلة من ساب الماء إذا جرى على وجه الأرض، ويُقال: سيّبت الدابة أي تركتها تسيب حيث شاءت. ويُقال للعبد يعتق ولا ولاء عليه لمعتقه سائبة، لأنَّه يضع ماله حيث شاء.

{وَصِيلَةٍ}: الوصل نقيض الفصل. ولعن رسول الله الواصلة وهي الّتي تصل شعر المرأة بشعر آخر. فالوصيلة بمعنى الموصولة، كأنَّها وصلت بغيرها. ويجوز أن يكون بمعنى الواصلة لأنَّها وصلت أخاها، وهذا أظهر في الآية.

{حَامٍ}: الحام هو الذكر من الإبل، وقيل: إنَّه الفحل إذا لقح ولد ولده.

* * *

القرآن ينتقد التحريم المفترى على الله

جاء الإسلام ليجعل التشريع بما يحرم وبما يحل من الأشياء تابعاً لما يشرّعه الله من أحكام، فلا يحل إلاَّ ما أحلّه الله ولا يحرم إلاَّ ما حرَّمه، {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} وبذلك واجه الأمور الّتي حرّمها النَّاس في الجاهليّة، مما لم ينطلق الأمر فيه من مفسدة فيها، فأنكر تحريمها وأباحها، {وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فاعتبر نسبتها إلى الله، في ما كان النَّاس ينسبونها إليه، افتراءً وكذباً، وحكم بأنَّ هؤلاء الكفَّار الَّذين يكذبون على الله {وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}، لأنَّهم لم يرتكزوا في حياتهم على قاعدةٍ ثابتةٍ من دين الله، لتكون أعمالهم وأقوالهم راجعةً إليها، بل اتبعوا أهواءهم، فأضلوا أنفسهم وضيّقوا عليها.

وهكذا جاءت هذه الآية لتنبّه هؤلاء وأتباعهم بأنَّ هذه الأمور الّتي حرّموها على أنفسهم في بعض منافعها أو في جميعها، لم يحرمها الله عليهم، بل أباحها لهم، لأنَّه لم يجد فيها أيّة مفسدةٍ تفرض ذلك، مما اعتبروه أساساً للتحريم، فلا يجوز نسبتها إليه، ولا يجوز التزامهم بما ألزموا به أنفسهم من موقع التشريع، لأنَّه بيد الله أولاً وآخراً.

وقال المفسرون ـ في ما رواه صاحب مجمع البيان ـ وروى ابن عباس عن النّبيّ(ص) «أنَّ عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكة، وكان أول من غيّر دين إسماعيل، واتخذ الأصنام ونصب الأوثان، وبحر البحيرة وسيّب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي، قال رسول الله(ص): فلقد رأيته في النَّار يؤذي أهل النَّار ريح قصبه»[1].

* * *

لا قداسة لسنن الآباء والأجداد

وهكذا كانت هذه المحرمات تُمثِّل تاريخ الآباء والأجداد، فلها قداستها في نظر أولادهم، ولذلك كانوا يرفضون مناقشتها في ما يُراد لهم من توضيح الأمر وإرجاعه إلى واقع المصلحة فيه، ليعرفوا ما فيه من خلل وزيف وفساد، لأنَّ الدخول في ذلك ـ في نظرهم ـ يُمثِّل اعترافاً ضمنياً بأنَّ الآباء قد يخطئون وقد ينحرفون عن الحقّ، وهو ما يتنافى مع الشعور بالقداسة والاحترام، ويتعارض مع القيم السائدة لديهم في التفاخر بالأنساب، واعتبار النسب قيمةً كبيرةً، تتحدى الآخرين في ما يملكونه منها. ولهذا كان الانتقاص من الآباء انتقاصاً من الأولاد، لارتباط مجدهم بمجدهم، واتصال تاريخهم بتاريخهم في جميع الأمور الّتي كانوا يعملونها أو يتركونها.

وفي ضوء ذلك، كان التطور الفكري مجمّداً عندهم، في ما يفرضه من اكتشاف الحاضر أخطاء الماضي، في محاولةٍ للعمل على تصحيحها وتغييرها، فقد كانت العادات والتقاليد والأفكار إرثاً يحمل خصوصية القداسة المرتبطة بعلاقة الذات بالتاريخ في آن واحد.

* * *

ليس لنا من الماضي إلاَّ دروسه وعبره

وجاء الإسلام ليناقش هذا الخط في التصوّر والممارسة، وليخطط للنَّاس المنهج الصحيح في ذلك كله، فللتاريخ علاقته بالحاضر من موقع العاطفة البسيطة الّتي تشد الإنسان إلى آبائه وأجداده، وحركته في الفكر والواقع، من خلال الدروس والعبر الّتي يُمكن أن يقدمها للأجيال المقبلة، في ما خاضه الأولون من تجارب الحياة، وليس له ـ في ما عدا ذلك ـ أي دور، بل هو في أشخاصه ورموزه وحوادثه، مجرّد مرحلةٍ من مراحل الزمن الكثيرة الحافلة بالأخطار والانحرافات، تماماً كما هو الحاضر في حركته الفكرية والعملية، وكما هو المستقبل بما يختزنه في داخله من أخطاء محتملةٍ في التصور والممارسة والعلاقات، لأنَّ هذا الماضي كان حاضراً وسيكون الحاضر ماضياً غداً، والمستقبل بعد غد ماضياً من الماضي، الَّذي يقدم للتاريخ، في ما يكتبه المؤرخون، كثيراً من الهزائم والانتصارات، وكثيراً من حالات الفشل والنجاح، والخطأ والصواب، لتستمر الرحلة البشرية في هذا الاتجاه إلى نهاية العالم.

أمَّا الحديث عن المجد والقيمة الّتي يحملها الأبناء من الآباء، فهو حديث خرافةٍ ـ في مفهوم الإسلام ـ لأنَّ الإنسان يستمد مجده وقيمته من خلال كفاءاته الذاتية في العلم والعمل، ولا يملك أحد أن يعطيه أيّة قيمةٍ إضافيّة، بعيداً عن خصوصياته الأساسيّة. وليس للآباء دور في ذلك من قريبٍ أو من بعيد، فإذا كان الأب صالحاً فصلاحه لنفسه، وإذا كان غير صالحٍ فإنَّه يتحمّل مسؤوليّة ذلك، وهكذا الأبناء بالنسبة إلى الآباء. ولهذا فإنَّ خطأ الآباء في تصوراتهم لا يضعف قيمة الأبناء إذا اعترفوا بذلك أو غيّروه، بل يؤكّد قيمتهم، بما يدل عليه من استقلاليّةٍ في الفكر وأصالةٍ في الشخصيّة وابتعادٍ عن الانطلاق مع العاطفة على حساب الأفكار والمبادىء.

وجاءت هذه الآية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}، لتطرح هذا التصوّر الخاطىء، وهذا المنهج المنحرف، لأنَّهم يرفضون الدعوة الجديدة المنطلقة من وحي الله ونهج الرّسول(ص)، ويمتنعون عن مناقشتها بعيداً عن مسألة الوضوح في الخط، في ما يرفضه الإنسان وفي ما يؤيده، بل لأنَّهم لا يريدون أيّ فكرٍ جديدٍ في غير طريق فكر الآباء والأجداد.

وأراد الله منهم أن يرجعوا إلى تفكيرهم ليناقشوا الموضوع بهدوء، فمن هم هؤلاء الآباء والأجداد؟ إنَّهم مثل النَّاس الَّذين يعيشون معهم، فمنهم العاقل ومنهم غير العاقل، ومنهم المهتدي وغير المهتدي، فكيف يُمكن أن يربطوا مصيرهم بهم دون مناقشةٍ ومراجعةٍ تفصيليّة لما يحملونه من أفكار ولما يواجهونه من مواقف؟ فماذا إذا كانوا ممن {لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}؟ ماذا إذا كانوا من الَّذين لا يحملون مسؤوليّة الفكر والحياة؟ هل يجوز للإنسان العاقل الَّذي يحترم نفسه أن يندفع في هذا الاتجاه؟ وهل يسوّغ للإنسان الواعي أن ينسحق أمام العاطفة ويسير معها إلى المدى الَّذي يدمر فيه نفسه ومصيره؟ إنَّ القرآن يطرح التساؤل، لا ليأخذ الجواب، بل ليوحي لهم بالجواب الحاسم من خلال جوّ الأفكار لهذا المنهج الَّذي ينتهجونه في ما يوحيه السؤال من إنكار، ليتحرّك الجواب في خطوات الواقع الَّذي يتغيّر بتغيّر النَّاس في أنفسهم. والله العالم.

ـــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:3، ص:315 ـ 316.