تفسير القرآن
المائدة / الآية 105

 الآية 105

الآيـــة

{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(105)

* * *

كل إنسان يتحمل مسؤولية نفسه

وهذا نداءٌ للمؤمنين يحدد مسؤوليتهم الإيمانيّة في الحياة، {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فلكل منهم مسؤوليّته عن نفسه في تهيئة سبل الهداية الفكريّة والعقيديّة والمنهجيّة على طريق إنجاز البرامج والخطط والأهداف والخبرة المتعلَّقة بها. فإذا تمّ له ذلك على النهج الَّذي يرضاه الله ورسوله، فقد أخذ بأسباب الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، ولن يضره بعد ذلك كفر الكافرين وضلال الضالين، لأنَّ المسألة لا تتعدى صاحبها في ما يؤكده الإسلام من فردية التبعيّة، فلا يتحمل إنسان ذنب غيره، ولا يؤخذ المهتدي بضلال الضال، مهما كانت درجة قرابته به وعلاقته معه.

وهكذا يُريد القرآن الإيحاء للإنسان بالاستغراق في هذا الاتجاه من أجل أن يحمل مسؤوليّته عن نفسه كاملةً غير منقوصةٍ، فيعمّق لها مفاهيمها عن الكون والحياة، طبقاً لما أوحاه الله إلى رسوله، ولما بلَّغه الرسول(ص) إلى النَّاس، حتَّى لا تشتبه عليه الأمور، فيضلّ عن الهدى من غير علم، وينحرف عن الحقّ من دون وعي، وحتى يمتدّ في خط العمل على الصراط المستقيم، فيضبط خطواته عن الانحراف، ويمنعها من الزلل، بالسير في حياته على هدي شريعة الله في ما تأمره به وتنهاه عنه، ليتأكد لديه الفكر والالتزام، فيصوغ على ذلك شخصيته صياغة إسلاميّة لا مجال فيها للاهتزاز والارتباك. ويتابع ـ بعد ذلك ـ عمليّة المراقبة والمحاسبة والرصد لكل حركة في داخل النفس من أفكاره ومشاعره، وفي خارجها من أقواله وأفعاله، ليستقيم له دورها وفاعليتها بانضباطٍ دقيقٍ بشكلٍ مستمر، من دون التفات إلى ما حولها من حالات الانحراف والضلال، لأنَّ ذلك ليس مسؤوليته في ما يحمِّله الله من ذلك.

* * *

الآية.. ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ولكن، ماذا عن الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! فقد حمَّل الله المؤمنين مسؤوليّة هذه الأمور، واعتبر الالتزام بها استقامة على الدرب، وإهمالها انحرافاً عنه، وتوعَّد التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما لم يتوعَّد به على أيّة معصيةٍ أخرى، فكيف نوفّق بين ذلك، وبين ما توحي به هذه الآية من وقوف المسؤوليّة عند حدود النفس فلا تتعداها إلى غيرها؟

فهل هناك ناسخٌ ومنسوخٌ بين هذه الآية وبقيّة الآيات الأخرى كما يتصوره البعض، وهل هناك تحديدٌ للآية في نطاقٍ معين، كما في حالات التقيّة، أو في حالات الكفَّار كما في بعض الرِّوايات، أو أنَّ القضيّة تتجه اتجاهاً آخر؟!

والجواب عن ذلك، أنَّ الآية لا تأخذ وجهة الإهمال لدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنَّ مدلولها يتضمن مسؤوليّة الإنسان عن نفسه في القيام بها على أساس الخط المستقيم الَّذي رسمه الله، وذلك في مختلف دوائر وشؤون حياته الإيمانيّة والعمليّة والالتزاميّة، سواءٌ تلك المتصلة بشؤونه الخاصة أو العامة. فقد كلّفه الله بأن يُمارس نشاطه العملي في هداية النَّاس وإرشادهم، وحفظ خطواتهم من الزلل، ورعاية أمورهم، وتدبير قضاياهم، قدر إمكاناته الماديّة والمعنوية. وعلى ضوء هذا، فإنَّ مسؤوليّته عن النَّاس هي جزء من مسؤوليته عن نفسه، باعتبار أنَّ ذلك من واجبات الإيمان. وليس في الآية ما يدل على خلاف ذلك، بل هي واردة للتأكيد على الفصل بين النتائج الإيجابيّة الّتي ينتهي إليها الإنسان من خلال القيام بالتزاماته الشرعيّة، وبين النتائج السلبيّة الّتي تتمثَّل في سلوك النَّاس مع أنفسهم، سواء كان ذلك من جهة عدم استجابتهم له في ما يدعوهم أو يهديهم إليه، أو عدم انضباطهم في واجباتهم بشكل ذاتي. فلا علاقة له بالنتائج السلبيّة المنطلقة من تمردهم وضلالهم، ولأنَّه قد قام بواجبه كاملاً في هداية نفسه وهداية غيره، فلا يضره من ضلَّ إذا اهتدى، وبذلك تكون المسألة مرتبطة بحركة الواقع في حياة الضالين والمهتدين، بعد استكمال كل الشروط الموضوعيّة الّتي تقوم بها الحجّة على الضالين، وتتحرّك بها المسؤوليّة من خلال المهتدين، ولا بُدَّ من التركيز على كلمة {لاَ يَضُرُّكُمْ} فإنَّها توحي بما قلناه، فيكون مساقها مساق الآيات الّتي تتحدث عن إبلاغ الدعوة إلى الناس، باعتبار أنَّ ذلك هو ما يستطيع الداعية أن يتحمل مسؤوليّته، لأنَّ هناك شروطاً في حركة الفكر والإرادة للإنسان، كما أنَّ هناك شروطاً في الأجواء المحيطة به. وليس على الداعية إلى الله، نبيّاً كان أو غير نبيّ، إلاَّ أن يبلِّغ بأفضل أساليب التبليغ، وليس من مسؤوليّته ماذا يحصل بعد ذلك سلباً أو إيجاباً.

* * *

احتمال آخر لحركة الآية.. ونقاش له

وقد ذكر بعض المفسرين احتمالاً في النطاق الَّذي تتحرك فيه الآية، بأنَّ المخاطب بها هو مجتمع المؤمنين الَّذي يواجه مجتمع الكافرين بانحرافاته وضلالاته، ليكون المراد بقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهيّة من خلال المحافظة على معارفهم الدينيّة والأعمال الصالحة والشعائر الإسلاميّة العامة، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103]، فإنَّ المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الأخذ بالكتاب والسنة، ويكون قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} يُراد به أنَّهم في أمنٍ من أضرار المجتمعات الضالة غير الإسلاميّة، فليس من الواجب على المسلمين أن يبلغوا الجد في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة، أو أنَّه لا يجوز لهم أن ينسلوا مما بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالة من الانهماك في الشهوات والتمتع من مزايا العيش الباطلة، إذ {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وتجري الآية على هذا مجرى قوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلادِ *مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196 ـ 197].

ولكنَّ الظاهر من الآية أنَّها لا تخاطب المؤمنين كمجتمعٍ من حيث إنَّهم مجموعةٌ مميّزةٌ مرتبطةٌ ببعضها البعض في مقابل مجتمعٍ آخر على هذا النحو، بل هي في مقام إثارة القضيّة في حياة كل فرد من أفراد المؤمنين لتحديد دوره ومسؤوليته، تماماً كما هي الآيات الكثيرة في القرآن الّتي تطلب من المؤمنين أشياءً وتنهاهم عن أشياء، فإنَّها جاءت تخاطب الأفراد بطريقة الجمع الّذي يختصر الأعداد الكثيرة بكلمة واحدة، لتحدّد لكلّ إنسانٍ منهم دوره بعيداً عن أدوار الآخرين في ما تتمثَّل فيه من سلبيات. والله العالم.

{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، فهذا الجزء من الآية موضوع البحث لا يدع مجالاً للشك، بأن الجميع سائر إلى الله، المؤمن والكافر معاً، وأهل الضلالة معاً ، وبالتالي تثبت أن جميع الطرق منتهية عند الله تعالى، حيث يوفى كل من سالكيها حسابه، حيث تتباين النتائج وتتراوح ما بين الفوز والفلاح أو الخيبة والخسران، وذلك وفق ميزان الأعمال، وحيث تجد كل نفسٍ ما عملت محضراً ، وحيث من ثقلت موازينه فأمه هاوية... وأما من خفت موازينه فهو في عيشة راضية.