تفسير القرآن
المائدة / الآية 109

 الآية 109

الآيــة

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلامُ الْغُيُوبِ}(109).

* * *

الرسل في موقف المسؤول بين يدي الله تعالى

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ} ويقف الرسل أمام الله يوم القيامة، ليسألهم الله عن أممهم كيف كان ردّ الفعل لديهم تجاه الرسالة؟ وما كان جوابهم عن الدعوة الّتي أطلقوها في واقعهم؟ وما النتائج العمليّة في ذلك كله؟ ويقف الرسل في حَيْرَةٍ أمام السؤال، فقد فهموا منه أنَّه لا يطلب منهم الحديث عن ردود الفعل الفوريّة الّتي واجهوها في حياتهم، بل إنَّه يطلب منهم أن يقدموا تقريراً وافياً عن حركة الدعوة في حياة الأجيال المقبلة الّتي جاءت من بعدهم فاستحدثت أفكاراً وعادات وطقوساً لم تجىء بها الرسالات، ولم يبلِّغها الرسل، تماماً كما هو السؤال الَّذي وجهه الله سبحانه وتعالى لعيسى(ع) في قوله تعالى: {أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] لذلك كان جوابهم {قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ} لأنَّ القضية كانت بالنسبة إليهم حديثاً عن الغيب الذي لم يمنحهم الله علمه في ما منحهم من علم، {إِنَّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} لإحاطتك بالمستقبل تماماً كما هو الحاضر والماضي، وبذلك يرفعون عن موقفهم أيّة مسؤوليّة في ما جرى من بعدهم، لأنهم لا يملكون علمه، ولا القدرة عليه، من قريب أو من بعيد.

ولعلَّ هذا الوجه أوفق بمدلول الآية من الوجوه التي ذُكرت في تفسير نفي الرسل لعلمهم بما كان عليه موقف أقوامهم، فقد ذهب البعض إلى أنَّهم خضعوا لأهوال يوم القيامة فذهلوا عن وعي القضيّة في تاريخها الواقعي عندما كانوا في الدنيا، وذهب البعض إلى أنَّ المقصود بقولهم: {لاَ عِلْمَ لَنَآ} أي كعلمك، لأنَّك تعلم باطنهم وغيبهم الَّذي لا نعلمه، وذهب بعضهم إلى أنَّ المراد لا علم لنا إلاَّ ما علّمتنا، ونحو ذلك مما لا دلالة للّفظ عليه.

ولعلَّ الآية الكريمة واردةٌ في مقام تأكيد الفكرة الّتي لا بُدَّ من أن يعيشها النَّاس الَّذين كانوا مع الرسل في واقع الدعوة الرساليّة، ممن انحرفوا أو غيّروا وبدّلوا، ودخلت فيهم التطورات الفكريّة والمتغيرات العمليّة بعيداً عن الخط المستقيم للرسل وللرسالة، بأنَّ الله مطّلعٌ على كل التاريخ الَّذي عاشوا فيه، بكل دقائقه وتفاصيله، حاضراً ومستقبلاً، مما أحصاه الرسل في حياتهم مع أممهم، ومما لم يحصوه مما غاب عنهم شهوده لأنَّه حدث من بعدهم، ليكون ذلك أقرب إلى وعي المسؤوليّة عند النَّاس في مراقبتهم لله في كل أمورهم لأنَّه علاّم الغيوب.

وقد ذكر صاحب مجمع البيان في كتابه قال: «ذكر الحاكم أبو سعيد في تفسيره أنَّها تدل على بطلان قول الإماميّة إنَّ الأئمة يعلمون الغيب». وعلّق على ذلك بقوله: «وأقول إنَّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم، فإنَّا لا نعلم أحداً منهم بل أحداً من أهل الإسلام يصف أحداً من النَّاس بعلم الغيب، ومن وصف مخلوقاً بذلك فقد فارق الدين، والشيعة الإماميّة برءاء من هذا القول، فمن نسبهم إلى ذلك، فالله في ما بينه وبينهم»[1].

* * *

مع صاحب الميزان

وقد ذكر صاحب تفسير الميزان تفسيراً للآية، فقال: «أمَّا نفيهم العلم يومئذ عن أنفسهم بقولهم: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} فإثباتهم جميع علوم الغيوب لله سبحانه على وجه الحصر يدل على أنَّ المنفي ليس أصل العلم، فإنَّ ظاهر قولهم: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} يدل على أنَّه لتعليل النفي، ومن المعلوم أنَّ انحصار جميع علوم الغيب في الله سبحانه لا يقتضي رفع كل علم عن غيره، وخاصة إذا كان علماً بالشهادة والمسؤول عنه، أعني كيفيّة إجابة النَّاس لرسلهم، من قبيل الشهادة دون الغيب.

فقولهم: {لاَ عِلْمَ لَنَآ} ليس نفياً لمطلق العلم، بل لحق العلم الَّذي لا يخلو عن التعلّق بالغيب، فإنَّ من المعلوم أنَّ العلم إنَّما يكشف لعالمه من الواقع على قدر ما يتعلّق بأمر من حيث أسبابه ومتعلقاته، والواقع في العين مرتبط بجميع أجزاء الخارج مما يتقدم على الأمر الواقع في الخارج وما يحيط به مما يصاحبه زماناً، فالعلم بأمر من الأمور الخارجيّة بحقيقة معنى العلم لا يحصل إلاَّ بالإحاطة بجميع أجزاء الوجود ثُمَّ بصانعه المتعالي من أن يحيط به شيء، وهذا أمر وراء الطاقة الإنسانيّة»[2].

ويتابع، فيرى أنَّ الجواب الصادر من الرسل {لاَ عِلْمَ لَنَآ} ليس جواباً نهائياً لا جواب بعده البتة:

وذلك أولاً: «لأنَّ الله سبحانه جعلهم شهداء على أممهم كما ذكره في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41]. وقال: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ} [الزمر:69] ولا معنى لجعلهم شهداء إلاَّ ليشهدوا على أممهم يوم القيامة بما هو حقّ الشهادة يومئذٍ، فلا محالة هم سيشهدون يومئذٍ كما قدّر الله ذلك، فقولهم يومئذٍ: {لاَ عِلْمَ لَنَآ} جري على الأدب العبودي قبال الملك الحقّ الَّذي له الأمر والملك يومئذٍ، وبيان لحقيقة الحال، وهو أنَّه هو يملك العلم لذاته ولا يملك غيره إلاَّ ما ملكه، ولا ضير أن يجيبوا بعد هذا الجواب بما لهم من العلم الموهوب المتعلّق بأحوال أممهم...

وأمَّا ثانياً: فلأنَّ الله سبحانه، أثبت العلم لطائفة من مقربي عباده يوم القيامة على ما له من الشأن...

وأمَّا ثالثاً: فلأنَّ القرآن يذكر السؤال عن المرسلين والمرسل إليهم جميعاً، كما قال تعالى: {فَلَنَسْـألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـألَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] ثُمَّ ذكر عن الأمم المرسل إليهم جوابات كثيرة عن سؤالات كثيرة، والجواب يستلزم العلم كما أنَّ السؤال يقرره»[3]. انتهى ملخصاً.

ونحن نلاحظ على ما ذكره أنَّه على خلاف ظاهر الآية في سياقها الفكري في الموضوع الَّذي جاءت الآية لتأكيده، وهو أنَّ الأنبياء لم يطّلعوا على الواقع الَّذي كان يعيشه النَّاس من بعدهم لأنهم لم يملكوا معرفته ـ حتَّى بواسطة العلم الَّذي يمنحهم الله إياه من غيبه المستقبلي ـ لأنَّه لم يمنحهم علم ذلك، إذ لا حاجة لهم به في مهمتهم الرساليّة المقتصرة على إبلاغ الرسالة للنَّاس بكل الوسائل المتاحة لهم، فالآية تدل على أنَّ الرسل كانوا في مقام نفي العلم عن معرفة النتائج الحاسمة الأخيرة في الموضوع، لأنَّه غيب الله الَّذي لم يطلعوا عليه، وهذا هو المناسب لقولهم: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ }، ولا ظهور لذلك في ما قاله من أنَّ حصر العلم بالغيب بالله يدل على «أنَّ المنفي ليس أصل العلم بل لحق العلم»، وهو الإحاطة بجميع أجزاء الوجود ثُمَّ بصاحبه المتعالي من أن يحيط به شيء، بل الآية ظاهرة بأنَّ الغيب ـ في كل ما لم يصل إليه الإنسان ولم يملك الوسيلة إلى معرفته من خلال الحس والفكر ـ هو من خصوصيات الله، ولهذا فإنَّ نفيهم العلم عن أنفسهم في هذا الأمر الغيبي، لأنَّهم لا يملكون علم الغيب ـ إلاَّ ما عرّفهم إياه ـ لأنَّهم لا يملكون الطريق إليه.

أمَّا استدلاله بدور الشهادة فغير تام، لأنَّ مسألة الشهادة متعلقة بما وصل إليهم علمه مما كان يدور في حياتهم في تجربتهم الرساليّة، لا في كل الأمور الّتي غابت عنهم بعد وفاتهم، ولعلَّ هذا ما نستوحيه من قوله تعالى، في حديثه عن حواره مع عيسى(ع) عندما سأله الله: {أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمي إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ} فأجاب ـ عليه السلام ـ بما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ*مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ} [المائدة:116 ـ 117].

فإنَّنا نقرأ في هاتين الآيتين أنَّ النَّبيّ مسؤولٌ عن أن يقدِّم حسابه عمَّا قام به في حياته وما واجهه من القضايا، وأمَّا شهادته على قومه، فإنَّها مختصةٌ بالفترة الّتي كان فيها معهم، فلا شمول للشهادة إلى ما غاب عنه علمه، ولم يعلّمه الله إياه قبل ذلك، مع ملاحظة أنَّ الشهادة تتبع الشهود الحسي للواقع ليشهد بما رآه في واقعهم الرسالي، فلا يشمل ما بعد ذلك.

ولا مانع من ذلك ما قاله ثانياً: «إنَّ الله قد أعطى العلم لبعض مقربي عباده يوم القيام على ما له من الشأن»، لأنَّ القضيّة ـ في موضوع الآية ـ هو السؤال عن قضيّةٍ محددة، فلا ينفي العلم بها العلم بأشياء أخرى مما منحه الله للمقربين من عباده.

ولا ندري ما هي المناسبة في الرد على نفي العلم بأنَّ القرآن يذكر السؤال عن المرسلين والذين أرسل إليهم جميعاً، فإنَّ سؤالهم كان عمَّا واجهوه من التجارب الحيّة في حياتهم مما يملكون معرفته مما لم يطلع عليه المرسلون، فلكل واحدٍ منهم سؤاله عمَّا يعلمه لا عمَّا لا يعلمه. والله العالم.

ونحن ـ في ملاحظتنا هذه ـ لا نريد الدخول في الجدل الدائر حول مدى علم الأنبياء وسعته وكيفيّة حصولهم عليه، هل هو فيضٌ فعليّ يفيضه عليهم، أو هو متعلِّق بإرادتهم فإذا شاؤوا علموا، ونحو ذلك، ولكنَّنا نقف مع العلاّمة الطباطبائي(قده) في تفسير الآية في دلالتها التفسيريّة والفكريّة.

ـــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:3، ص:326.

(2) تفسير الميزان، ج:6، ص:198 ـ 199.