من الآية 112 الى الآية 115
الآيــات
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ}(112ـ115).
* * *
معاني المفردات
{يَسْتَطِيعُ}: قال في مجمع البيان: الفرق بين الاستطاعة والقدرة، أنَّ الاستطاعة انطباق الجوارح للفعل، والقدرة هي ما أوجب كون القادر عليه قادراً، ولذلك لا يوصف تعالى بأنَّه مستطيع ويوصف بأنَّه قادر[1].
{مَآئِدَةً}: المائدة: الخوان، قال الأزهري في تهذيب اللغة: هي في المعنى مفعولة ولفظها فاعلة لأنَّها من العطاء، وقد ماد زيد عمراً إذا أعطاه، وقيل: هي من ماد يميد إذا تحرك فهي فاعلة... وماد به البحر يميد فهو مائد إذا تحرّك به... وأصله الحركة[2]، ولعلّ إطلاق المائدة على الخوان أو الطعام لما يلازمها من التحرّك والإخفاء .
{عِيداً}: العيد اسم لما عاد البيت من شيء في وقت معلوم. قالوا للخيال: عيد، ولما يعود إليك من الحزن عيد، وقال الليث: العيد كل يوم مجمع، وقال الراغب: العيد ما يعاود مرّة بعد أخرى، وخصّ في الشريعة بيوم الفطر ويوم النحر، ولما كان ذلك اليوم مجعولاً للسرور في الشريعة كما نبّه النَّبيّ(ص) بقوله: أيام أكل وشرب وبعال، صار يستعمل العيد في كل يوم فيه مسرّة، وعلى ذلك قوله تعالى: {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً}[3].
* * *
الحواريون يطلبون من عيسى إنزال المائدة من عند الله
آمن الحواريون بعيسى(ع)، لكنَّهم أرادوا آية يستريحون إليها، ويحققون فيها بعض أمنياتهم الذاتيّة، ويحصلون من خلالها على حالة الاطمئنان القلبي الّتي تتطلب معرفة القضايا بالحس، بعد معرفتها بالعقل، لأنَّ المعرفة العقليّة قد تقنع الفكر ببراهينها وحججها، ولكنَّ الحس يبقى عرضةً للأوهام والهواجس الّتي تمر به كمثل الأشباح، وتمنحهم حجّةً ذاتيةً أمام خصوم الرسالة، بالمستوى الَّذي يجعلهم شهوداً على القضيّة بالطريقة الحسيّة المباشرة. كانوا يريدون أن يشعروا بالخصوصيّة الحميمة في علاقتهم بعيسى(ع)، وكانوا يتساءلون، فيما بينهم وبين أنفسهم، عن منزلتهم عند الله سبحانه وتعالى، بحيث تأتي استجابته تعالى كاشفةً عن هذه المنزلة، وبالتالي كمحفّز ومنشّطٍ لإيمانهم وفاعليته في الحياة. وهكذا كان، رفعوا طلبهم إلى عيسى(ع) بأن يسأل الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء، لكنهم صاغوا السؤال بطريقةٍ ملفتةٍ للنظر، فقالوا له: {يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ} وهنا يتساءل الإنسان: هل كانوا في شك من قدرة الله، في ما يوحي به السؤال، أو أنَّ هناك معنى آخر؟ ربَّما اختار البعض الشق الأول من السؤال، على أساس رد الفعل من عيسى(ع)، في ما نقله الله عنه من قوله: {قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، فإنَّ مواجهتهم بالأمر بالتقوى، وإثارة موضوع الإيمان أمامهم، يدل على أنَّ هذا الطلب يتنافى مع خط الإيمان والتقوى. ولكنَّ بعضاً من المفسرين رد على هذا الزعم، بأنَّه ليس من الضروري أن يكون ذلك موجهاً إليهم باعتبار الشك في قدرة الله، بل من جهة أنَّ هذا الطلب منهم يمثل شيئاً لا معنى له ولا مبرر، لأنَّ مثل هذه الاقتراحات تصدر غالباً من غير المؤمنين للتعجيز، أو لإثبات النبوّة، فلا تصدر من المؤمنين الَّذين يفرض عليهم إيمانهم الثقة بقدرة الله على كل شيء، لأنَّ ذلك هو معنى الألوهيّة الّتي تدعو إليها الرسالات السماويّة.
وعلى ضوء هذا، لا بُدَّ لنا من أن نطلب معنى آخر، وقد جاء في بعض الأحاديث أنَّ معناه: هل تستطيع أن تطلب من ربِّك؟! ولعلَّ هذا التفسير ينطلق من الأسلوب المتعارف في طلب بعض الأشياء مما يعتقد الطالب بأنَّ الشخص القادر على فعل ما، لا يرفض تحقيق الطلب من خلال لطفه وكرمه وحاجة الطالب إليه، كما يقول بعض النَّاس لبعضهم البعض: هل تستطيع أن تفعل ذلك؟ ومراده أنَّك تستطيع ذلك فافعله. وبذلك يطلق هذا الكلام في المورد الَّذي يثق فيه الإنسان بقدرة المطلوب منه على ذلك، أو في المورد الَّذي لا يثق بقدرته. وعلى هذا الأساس، يمكن لنا أن نتمثَّل في حوارهم الَّذي أداروه مع عيسى(ع)، أنَّهم يقولون له: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا}، فإذا كان يستطيع ذلك كما نعتقد وكما تعتقد أنت من خلال رسالتك، فاطلب منه ذلك، لأنَّك تستطيع أن تطلب منه ما يستطاع. وربَّما كانت الفكرة الّتي تدور حولها الاستطاعة هي كون الشيء واجداً لشروطه الذاتية من توفر الحكمة فيه، وقابليّة الطالبين لاستجابته لهم من حيث ارتباطه بمصلحتهم، لأنَّ الله لا يفعل شيئاً لا حكمة ولا مصلحة فيه للعباد. ويطلب عيسى(ع) منهم التراجع عن ذلك الطلب، لأنَّه لا ينسجم مع خط التقوى والإيمان، لأنَّ الَّذين يقترحون المعجزات هم الَّذين لا يؤمنون بها، أو الَّذين لا يؤمنون إلاَّ من خلالها.
وعاد الحواريون ليبرروا طلبهم، {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} والقضيّة هي أنَّهم يتمنون أن يأكلوا من طعام السماء، ليحصلوا على الطمأنينة القلبيّة الّتي أن تضيف إلى المعرفة العقليّة معرفة حسيّة، {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} وليعلموا ـ علم اليقين ـ أنَّه مرسلٌ من الله في ما بلّغه إليهم عن الله، {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} فتكون حجّتهم أقوى، وموقفهم أشد، في مواجهة المنكرين والمرتابين.
واستجاب الله لهم الدعاء بعد أن طلب عيسى(ع) منه ذلك {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأولِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لتكون عيداً للأولين والآخرين، وآيةً للحق، ورحمةً من الله لهم، وقال تعالى لعيسى(ع) {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} إنَّه منزلها عليهم، كما طلبوا وكما أحبوا، {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ}. ولكن من شرط المعاجز أنَّها تطبق بالحجّة على مقترحيها، فلا مجال معها لأيّة رحمةٍ أو عفوٍ أو مغفرةٍ، بل هو العذاب الشديد الَّذي لا يعذّب به أحداً من العالمين، لأنَّ الجحود، ـ بعد ذلك ـ يُمثِّل أقصى حالات التمرّد والكفران.
وهكذا وقفت الآيات عند هذا الحد، فلم تتحدث عن طبيعة ما حدث بعد ذلك، هل تراجعوا عن طلبهم بعد هذا التهديد، فلم ينزلها الله عليهم لذلك؟! أو أنَّهم استمروا على هذا الطلب، وأنَّ الله قد أنزلها عليهم، كما توحي بها كلمة {إِنِّي مُنَزِّلُهَا} الّتي تدل على التحقق، وليس لنا أن نفيض في ذلك كله، بل نسكت على ما سكت الله عنه، لأنَّه لا يتعلّق بشأنٍ من شؤون العقيدة أو أمر من أمور العمل. وقد يبدو للبعض أن يعترض على هذه القصة، فيقول: إنَّ النصارى لا يعرفونها بما جاء به الإنجيل، أو بما تناقلته كتب التاريخ، ولكنَّ ذلك لا يصلح دليلاً للنفي، لأنَّ من الممكن أن يكون قد سقط في ما سقط من بعض آيات الإنجيل، أو يكون مما أغفله المؤرّخون، أو لم يطلعوا عليه ككثير من القضايا الّتي عاشت في التاريخ القديم.
ــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:3، ص:329.
(2) م.س.، ج:3، ص:329.
(3) مفردات الراغب، ص:364.
تفسير القرآن