من الآية 116 الى الآية 120
الآيــات
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَـذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * للَّهِ مُلْكُ السَّمَاواَتِ وَالأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ}(116ـ120).
* * *
معاني المفردات
{نَفْسِي}: جاء في مجمع البيان: النفس تقع على وجوه، فالنفس: نفس الإنسان وغيره من الحيوان، وهي الّتي إذا فارقها خرج عن كونه حيّاً، ومنه قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، والنفس أيضاً ذات الشيء الذي يخبر عنه، كقولهم: فعل ذلك فلان نفسه، والنفس أيضاً: الإرادة... والنفس: الغيب، يُقال: إني لأعلم نفس فلان أي غيبه، وعلى هذا تأويل الآية، ويُقال: النفس أيضاً: العقوبة، وعليه حمل بعضهم قوله تعالى: {وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28][1].
والظاهر أنَّ بعض هذه المعاني ليست للفظ بل هي من لوازم المعنى وإيحاءاته مثل إرادة العقوبة من النفس، فإنَّ الظاهر من تحذير الله الإنسان نفسه، ما يصدر من ذاته من العقوبة، وكذلك الغيب، باعتبار أنَّ ما في النفس غيب بالنسبة إلى الإنسان الآخر وهكذا.
{الرَّقِيبَ}: أي الحافظ، وأصله من الترقب وهو الانتظار ورقيب القوم حارسهم.
{شَهِيدٌ}: الشاهد لما يكون، ويجوز أن يكون بمعنى العليم.
* * *
حوار الله وعيسى (ع) يوم القيامة
وهذا أسلوبٌ من أساليب الحوار القرآني الَّذي يُراد من خلاله إعطاء الفكرة صفة القصة الّتي يدور حولها الحوار من أجل التأكيد على بعض الجوانب الحيّة فيها، كوسيلةٍ من وسائل إثباتها بطريقةٍ حاسمةٍ أو نفيها كذلك. وقد جاءت هذه الآيات لتعالج ما حدث للنصارى الَّذين ينتسبون إلى عيسى(ع)، في اعتقادهم بألوهيّة السيِّد المسيح وعبادتهم له ولوالدته، فتؤكد أنَّ عيسى(ع) غريب عن الموضوع كلياً، فليس له دخل في ذلك من قريب أو من بعيد، بل كانت رسالته على النقيض من ذلك، لأنَّها قامت على توحيد الله في العقيدة والعبادة، فليس لأيّ بشر الحقّ في أن يعبد أحداً من دون الله مهما كانت قيمته، وليس لأيّ إنسان أن يعتقد في نفسه العظمة بالمستوى الَّذي يتحوّل فيه إلى إله أو ما يشبه الإله، فضلاً عن أن يرى في ذاته تجسيداً للإله، أو يرى النَّاس فيه ذلك. وقد أدار الله الموضوع بطريقة الحوار بينه وبين عيسى(ع) في يوم القيامة، على الطريقة القرآنيّة الّتي تتحدث عن المستقبل بصيغة الماضي بالنظر إلى أنَّه محقّق الثبوت. فقد قال الله له وهو يستعرض له الانحرافات الّتي حدثت من بعده:{أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ} إنَّ النَّاس تعبدك وتتقرب إليك، وتقدسك وتتخذك إلهاً، كما أنَّهم يعبدون أمك فيخشعون لها ويخضعون لتماثيلها، كما يفعلون مع الله، فكأنَّهم يتخذونها إلهاً من دون الله، تماماً كما جاء في الآية الكريمة: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] فإنَّ اتخاذ الهوى إلهاً لا يعني إلاَّ اتباعه وطاعته، وترك طاعة الله في ما أمر الله به أو نهى عنه، فهل كان ذلك من خلال تعاليمك؟ وهل كنت ترضى بذلك؟ ولكنَّ عيسى(ع) يقف، من خلال الحوار، وقفة الخاشع الخاضع لربِّه، الرافض لهذا الفكر الَّذي لا يتناسب مع عظمة الله، الّتي تفرض على النَّاس توحيده وتنزيهه عن كل شريك، ليسبّح الله تدليلاً على أنَّه يعيش الشعور بالعظمة في أعلى مستوياتها: {قَالَ سُبْحَانَكَ} تعظيماً لك وتنزيهاً عن كل ما خالف مقامك، {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}
إنَّ الإنسان الَّذي يحترم نفسه هو الَّذي يقف في حديثه عنها عند حدودها الذاتيّة في ما تملكه من طاقات، وفي ما تتصف به من صفات، ولا يتعدى ذلك إلى الدرجات الّتي لم يبلغها، أو المواقع الّتي لا يملكها، كما يفعل الإنسان الجاهل الَّذي لا يعرف قدر نفسه، أو الَّذي يقول عن نفسه ما ليس له بحق في ما يعرفه من حدود نفسه، ولستُ ـ يا ربّ ـ في هذا الموقع، فإنّي عبدك ورسولك الَّذي يعرف كيف يعيش العبوديّة لك، وكيف يحس بالانسحاق أمام ألوهيتك، في كل ما لك من الحقّ، وفي ما عليّ من الحق. وماذا بعد ذلك؟ لماذا أقف يا ربّ موقف الدفاع عن نفسي؟ إنَّه موقف الَّذي يحتاج في إثبات براءته إلى بيّنة، وليس موقفي هو هذا، لأنّني أقف أمامك أنت الله الَّذي {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}، فأنت {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}، وتحيط بكل شيء يفكر به الإنسان أو يقوله أو يعمله، {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}، لأنَّ علمي مستمدٌّ من علمك، فلا يحيط بشيء إلاَّ ما ألهمتني إياه، فكيف لي الإحاطة بما في نفسك، {إِنَّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} فـ {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}، وأنت تعلم أنّني لم أقل لهم شيئاً من ذلك، لأنَّ ذلك هو الباطل الَّذي لا يحق لي أن أفكر به، فكيف يحقّ لي أن أقوله! {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ}، لأنّي عبدك ورسولك الَّذي أمرته بإبلاغ رسالتك لعبادك ليعبدوك وليوحدوك، فلا يشركوا بك شيئاً، وقد قلت لهم {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ } وشرحت لهم في جميع مراحل حياتي عندما كنت معهم أنّني مثلهم عبدٌ مربوبٌ لك لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلاَّ بك، وأنّني لم أفعل ما فعلته من خوارق الإعجاز إلاَّ بإذنك وبقدرتك، من دون أن يكون لي فيها شيءٌ ذاتيٌّ ينطلق من قدرة الذات على الإبداع، وطلبت منهم أن يعبدوك، لأنَّ ذلك هو سرّ الاعتراف بالربوبيّة.
وقد يخطر بالبال سؤال، هل هذه الكلمة هي كل رسالة عيسى؟ وكيف يُمكن أن لا تكون هناك كلمة أخرى في الوقت الَّذي كان الإنجيل يُمثِّل حجماً كبيراً في مختلف جوانب الحياة من النصائح والمواعظ والتعاليم؟ والجواب عن ذلك: إنَّ هذه الكلمة تختصر كل تطلعات الرسالة وامتداداتها، لأنَّ العبادة لله تتمثَّل في تحرير النفس من الخضوع لكل شيء غير الله، سواء كان شخصاً، أو جهةً، أو صنماً، وأن تخضع لله في كل شأن من شؤون حياتك، فتطيعه في ما أمر به فتفعله، وفي ما نهى عنه فتتركه، وفي ما رسمه من وسائل وأهداف فتلتزم بها، وفي ما أوحى به من عقائد ومفاهيم فتعتقد بها.. وهكذا تتّسع العبادة لكل قضايا الحياة وأوضاعها، وسبلها، ووسائلها، وغاياتها، فيُمثِّل قيامك بكل مسؤولياتك الفرديّة والاجتماعيّة، المعنى الأعمق للعبادة، وتكون الصَّلاة والصوم والحج ونحوها مظهراً من مظاهرها، لا كلَّ شيء فيها، وبذلك تكون كل آفاق الرسالة وتحركاتها لوناً من ألوان العبادة الّتي تُحوِّل الحياة كلّها إلى مسجد، يتمثَّل فيها السجود لله في أكثر من شكل.
ونلاحظ في هذا المجال، أنَّ عيسى(ع) لم يقتصر في جوابه على نفي ما قالوه، بنفي تبليغه لهم، بل تعدى ذلك إلى ما أمرهم به، ليكون نفيه حجَّة عليهم في ما قالوه، كما يكون ما بلغه حجَّة عليهم لإثبات انحرافهم عن خط الله، والَّذي التزم به من خلال الالتزام بالرسالة جملة وتفصيلاً.
ويتابع عيسى(ع) الحديث عن عدم مسؤوليته عن هذا الكفر الَّذي يسيرون عليه، {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} فقد كان شهيداً عليهم ما دام معهم، يراقب تحركاتهم وكلماتهم، ويعرف الخطأ من الصواب في ذلك كلّه، ويعرف المطيع والعاصي، فيعظ هذا، وينصح ذاك، ويشجّع آخر، ويؤدّي دور الشهادة العمليّة عليهم، لأنَّ دور النَّبيّ (صلى الله عليه وسلّم) ليس دور الشاهد المتفرج.
وهكذا يبدو لنا الفرق بين شهادة النَّبيّ على الأمة وشهادة الأمة على نفسها وعلى غيرها، وبين شهادة بقيّة الشهداء في الدعاوى والقضايا العامة. فإنَّ هؤلاء لا يُمثِّلون إلاَّ دور المتفرج الَّذي يُمارس ويسمع، بينما يكون دور الأنبياء والأمة دور الشاهد الفاعل الَّذي يشاهد الانحراف ويتدخل فيه من أجل تغييره، ويتحمّل مسؤوليته بقدر طاقته على ذلك كله، ولذلك حصر الشهادة عليهم في حالة وجوده بينهم. أمَّا بعد ذلك، فهو لا يعرف من أمرهم شيئاً، كما لا يتحمّل فيهم أيّة مسؤوليّة، ويبقى ذلك كله لله، فهو الرقيب عليهم في كل ما قالوه وفي كل ما فعلوه، وفي جميع الأحوال، فإنَّ النَّبيّ لا يتحمّل المسؤوليّة إلاَّ من حيث الإبلاغ والإنذار، فلا مسؤوليّة عليه في ما انحرفوا به من القول والعمل، إذا لم يستجيبوا له ولم يطيعوه، ولم يقدر على تغيير ما هم فيه. وليست الآية في مقام تحميله مسؤوليّة ذلك، لأنَّ الله يعلم أنَّ الأنبياء غير مسؤولين عن انحراف أمتهم في حياتهم، فكيف يتحملون المسؤوليّة بعد وفاتهم؟ بل كانت الآية واردةً في مقام إقامة الحجّة عليهم بهذا الأسلوب.
* * *
إسلام الأمر لله منتهى الروح الرسالية
وتأتي كلمة {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} لتُثير الجدل فيها في أنَّها بمعنى الموت، أو بمعنى بلوغ الحد في الحياة على أن يكون ذلك بمعنى التوفية أي بلوغ الشيء حدّه. وقد تحدثنا عن ذلك بعض الحديث في ما قدمناه من تفسير الآية الكريمة {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} وذكرنا هناك أنَّ الوصول إلى نتيجةٍ حاسمةٍ في هذا الأمر ليس مشكلةً فكريّةً عقيديّةً أو عمليّةً، بل نترك لله إجمال ما أجمله مما لم يكلفنا بعلمه. وتتصاعد الروح الرسولية في إسلام الأمر كله لله الَّذي بيده العفو وبيده العقاب {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ}، و {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وملكك، تتصرف بهم كيف تشاء، لا يملك أحد غيرك ما تملكه منهم، فلك أن تعاقبهم على ما جنوه وفعلوه من التمرُّد على طاعتك بعد إقامة الحجّة عليهم من خلال ما بلغه رسلك من رسالتك.
* * *
العفو من موقع القدرة
{وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الَّذي لا ينتقص من عزته شيء، في ما يقوم به النَّاس من معاصي، وفي ما يقابلهم به من العفو والمغفرة، لأنَّه العفوّ من موقع العزّة والقدرة، لا من موقع الذلة والإلجاء كما يفعله النَّاس، ما يجعل من العفو مظهر قدرة، كما هو العذاب مظهر قوّة، وهو في موقع الحكمة من رعايتك لما يصلح عبادك وما يحقق لهم كمالهم.
* * *
يوم ينفع الصادقين صدقهم
{قَالَ اللَّهُ هَـذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}، إنَّ الموقف هنا هو موقف الصادقين الَّذين صدقوا الله العقيدة، كما صدقوه القول والعمل، فهو الَّذي ينفعهم ويرفع منزلتهم عنه الله. أمَّا الكاذبون المبطلون الَّذين كذبوا رسول الله وتمرّدوا على رسالته، وكذبوا على أنفسهم وعلى النَّاس، أمَّا هؤلاء، فسيجزون جزاء كذبهم وانحرافهم. ولعلَّ المتأمل يستوحي من هذه الآية قيمة الصدق في حسابات التقويم عند الله، وشموليته لكلّ الأعمال الّتي يقوم بها الإنسان، بحيث إنَّ كل معاني الإيمان ومواقفه وتطلعاته في آفاق الإنسان المؤمن، تُمثِّل موقف صدق، في ما يُمثله الصدق من الارتباط بالحقيقة، لأنَّه التعبير الواضح عن مطابقة الظاهر للباطن، وموافقة الكلمة للواقع، وانسجام العمل مع الخط المستقيم للعقيدة والشريعة. وبهذا يلتقي موقف الصدق بالموقف الحقّ، ويتمثَّل الصادقون في حركة العقيدة في الحياة، كأنموذجٍ للنَّاس الَّذين يعيشون المعاناة في الدنيا، من خلال ما تفرضه مواقف الصدق من مآسي وآلام وخسائر ماديّة، وينطلقون في مواقف الفوز في الآخرة، انطلاقاً من محبة الله لهم، في ما أعلن الله لرسله أنَّه يحب الصادقين. وانطلق الحديث عن الخير الَّذي ينتظر الصادقين عند الله {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً}، فهناك النعيم الَّذي يعيش الإنسان معه في متعةٍ روحيّةٍ وجسديّةٍ مع كل آفاق الخلود وامتداداته، {رَّضِي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} فقد أطاعوا الله في حياتهم فنالوا رضاه بذلك، وقد عاشوا الشعور الدائم بالاطمئنان لقضاء الله وقدره، فهم راضون عند الشدّة، وراضون عند الرخاء، وهم مرتاحون للعافية، كما هم مرتاحون للبلاء، لأنَّهم يعرفون، من موقع إيمانهم، أنَّ الله لا يقضي لهم إلاَّ بما يصلح أمرهم ويرفع درجتهم. وهكذا يعيشون الرضى عن الله في الآخرة في ما يغدقه عليهم من لطفه ورحمته.
{ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الَّذي لا فوز أعظم منه، وأيّ فوزٍ أعظم من أن يعيش الإنسان الانسجام المطلق مع الله في الدنيا والآخرة، انسجاماً تعبق أجواؤه بالروحيّة الفيّاضة الّتي تغمر القلب والشعور معاً، بالمحبة المتبادلة بينهم وبين الله، هذه المحبة الّتي تُمثِّل السعادة، كل السعادة، والفوز، كل الفوز، في الدنيا والآخرة.
* * *
لله ملك السماوات والأرض
{للَّهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ} تلك هي الحقيقة التي تفرض نفسها على الكون والحياة، وتحدد للإنسان موقعه في أجواء العبوديّة المطلقة أمام الألوهيّة المطلقة، فلله الملك كلّه وللإنسان الحاجة كلّها، التي تربطه بالله في كل شيء، لتُعطيه الغنى من الله في كل شيء.
وتلك هي قصة الإسلام في كل مجالاته الروحيّة والعمليّة، وتلك هي قصة الإنسان في الحياة، في انطلاقته في رحاب الله. والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:3، ص:333 ـ 334.
تفسير القرآن