تفسير القرآن
الدخان / من الآية 9 إلى الآية 16

 من الآية 9 الى الأية 16

الآيــات

{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ* فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ* يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ* رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ* أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ* ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ* إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} (9ـ16).

* * *

معاني المفردات

{فَارْتَقِبْ}: فانتظر.

{نَبْطِشُ} البطش: تناول الشيء بصولة.

* * *

يوم تأتي السماء بدخان مبين

.. إنهم لا يوقنون لأنهم لا يعيشون مسؤولية المعرفة الجديّة التي هي السبيل إلى اليقين {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} فليس هذا الشك الذي يتردد في صدورهم ويتجمد في عقولهم هو شك الباحثين عن الحقيقة، الذين يرسمون علامات الاستفهام ويلاحقون الاحتمالات الطائرة أمامها، بل هو شك من يلعبون بالأفكار فيواجهونها مواجهة العبث واللامبالاة، ولا يتوقفون أمام دقائقها، ولا ينفتحون على حقائقها، ويلعبون بالكلمات التي يحركونها في مواقع اللهو واللعب، فلا يدققون في مضمون ما يسمعونه من نداء الرسالات، أو ما يتكلمون به في مواجهة الرسل..

وماذا تنتظر من هؤلاء الذين لا يقفون أمام الحجة، ولا ينطلقون منها {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} انتظر اليوم الذي يمتلىء الجو فيه دخاناً، وذلك بسبب المجاعة التي يتحوّل فيها الإحساس بالجوع إلى حالةٍ يبصر فيها الإنسان الفضاء كما لو كان مملوءاً بالدخان ـ كما في بعض التفاسير ـ أو بسبب الدخان الحقيقي الذي يأتي قبيل حدوث الساعة ـ كما في بعض آخر ـ وربما كان الوجه الثاني أقرب إلى سياق الآية ومفرداتها، لأنها تتحدث عن دخان آتٍ من جانب السماء، كحقيقةٍ ملموسةٍ، لا كحالةٍ وهميّةٍ تخيلها للإنسان إحساساته الأليمة.

ولكننا نجد ما يؤيّد التفسير الأول، الذي تدعمه بعض الروايات التي تتحدث عن مجاعةٍ ابتليَ بها أهل مكة، فإنهم لما أصروا على كفرهم وأذاهم للنبي(ص) والمؤمنين به، دعا عليهم النبي(ص) «فقال: اللهم سنين كسني يوسف، فأجدبت الأرض، فأصابت قريشاً المجاعة، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، وأكلوا الميتة والعظام، وجاءوا إلى النبي(ص) وقالوا: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم.. وقومك قد هلكوا، فسأل الله تعالى لهم بالخصب والسعة، فكشف عنهم ثم عادوا إلى الكفر»[1] {يَغْشَى النَّاسَ} ويخيّم عليهم ويحيط بهم، {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} يرونه قادماً إليهم، فلا يملكون الخلاص منه بقدرتهم الذاتية، فيلجأون إلى الله.

* * *

أنى لهم الذكرى؟

{رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ} فكيف تعذب من آمنوا بك، ورجعوا عن الكفر، وعرفوا أنهم كانوا ضالين.. ولكن إيمانهم ذاك ليس حقيقة، فالكفر كان قراراً ثابتاً عميقاً في نفوسهم بسبب الكبرياء الذاتية وطلب الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية، والنوازع الشهوانية، ما يمنعهم من الانفتاح على الحق، والتحرر من الغفلة المطبقة على عقولهم التي تبعدهم عن التذكر والعودة إلى الإيمان بالله الواحد، {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} أي من أين لهم أن يحصلوا على الذكرى، وقد أغلقوا نوافذ عقولهم عن الحق {وَقَدْ جَآءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} على الرسالة وعلى الأمة، في كل قضاياهم المصيرية وفي كل شؤونها العامة، فلم يستجيبوا له، ولم يستمعوا لكلامه، {ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ} وأعرضوا عن الاستجابة له، {وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} فهو لا يتكلم عن وحيٍ إلهيٍّ، بل يتكلم عن علمٍ تعلّمه من غيره، وهو لا ينطلق من عقل متوازنٍ في نظرته إلى الأمور، بل من حالة جنونٍ لا تميّز بين المعقول واللاّمعقول في طروحاتها الفكرية.

* * *

كشف العذاب لإلقاء الحجة

{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً} عنكم، لإِلقاء الحجة وقطع العذر {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} إلى ما أنتم عليه، أو إنكم عائدون إلى هذا العذاب يوم القيامة {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} في عذاب الآخرة الذي يحمل الهول كله والرعب كله {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} لا انتقام الذات، كما تفعلون جراء انفعالاتكم الذاتية، ولكن انتقام الرسالة للحياة الطيبة المؤمنة العادلة المستقيمة التي وقفتم في مواجهتها وقفة تمردٍ وعنادٍ وعدوان.

ـــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:9، ص:94.