من الآية 34 الى الأية 42
الآيــات
{إِنَّ هَؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ* إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُوْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ* فَأْتُواْ بآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ* وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ* مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ* يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ* إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (34ـ42).
* * *
معاني المفردات
{بِمُنشَرِينَ}: بمبعوثين.
{مَوْلًى}: الصاحب الذي له أن يتصرف في أمور صاحبه.
* * *
إن هي إلا موتتنا الأولى
{إِنَّ هَؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ} إنكاراً للمعاد الذي ترتبط به مسؤولية الالتزام بالنظام التشريعي في خط الإيمان الذي ترتكز عليه رسالة الإسلام {إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأوْلَى}: قال في الكشاف: «فإن قلت: كان الكلام واقعاً في الحياة الثانية لا في الموت، فهلا قيل: إن هي إلاَّ حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين، كما قيل {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29]، وما معنى قوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُوْلَى} وما معنى ذكر الأولى كأنهم وعدوا موتةً أخرى حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الأولى.
قلت: معناه ـ والله الموفّق للصواب ـ أنه قيل لهم: إنكم تموتون موتةً تعقبها حياة، كما تقدمتكم موتةٌ قد تعقبتها حياة، وذلك قوله عز وجل: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]فقالوا: {إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُوْلَى} يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقّب الحياة إلا للموتة الأولى خاصة، فلا فرق إذاً بين هذا وبين قوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدّنيا} في المعنى»[1]. وربما كان وصف الموتة بالأولى بلحاظ تضمّنها معنى الوحدة في موقعها الطبيعي في عروضها على الحياة، باعتبار عدم تقدّم موتةٍ أخرى عليها؛ والله العالم.
{وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} فليس هناك بعثٌ بعد الموت، بل هي موتةٌ تمتدّ إلى ما لا نهاية، حيث العدم المطلق الذي لا مجال بعده للوجود.
{فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فهذا هو الشاهد على ما تقولون، إن كان قولكم جدياً، لأن الحقيقة لا تثبت بالفرضيات الغيبية، بل بالشواهد الحسية التي نراها بأعيننا ونلمسها بأيدينا..
{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} فكيف يواجهون المسألة بهذا المنطق العابث الذي لا ينفذ إلى عمق الأمور ليكتشف الحقيقة من خلالها.. ومن أين جاءتهم هذه الثقة بأنفسهم، ومن أين أتاهم هذا الأمن من الهلاك والعذاب، فكيف يقوّمون أنفسهم، ذاتياً وطبقياً، فهم ليسوا بأعظم من قوم تُبّع، وهو أحد ملوك حِمْير باليمن، فقد {أَهْلَكْنَاهُمْ} لما كفروا وتمردوا {إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} فعاقبناهم على جريمة الكفر والعناد.
وقد ورد عن تبّع أنه كان من المرسلين المؤمنين، وقيل إنه قال للأوس والخزرج: كونوا ههنا حتى يخرج هذا النبي، أمّا أنا لو أدركته لخدمته وخرجت معه[2].
* * *
وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} فليس هناك أيُّ عبثٍ في طبيعة الخلق وفي مفرداته وتفاصيله، فلكل واحدٍ من خلقه سرٌّ في عمقه وفي حركته وفي هدفه، لأن الله لا يلعب ولا يعبث، والعبث بالنسبة له محالٌ، لأن العبث ينطلق من حالة فراغٍ أو مللٍ يبحث صاحبها عما يملأه فيها، أو يجدد حيويته، وهو أمرٌ لا معنى له في ذات الله التي تمثِّل الكمال المطلق الذي لا يحتاج إلى شيء، ولا يعرض عليه الضعف الذاتي {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} والحق يمثل الغاية المشتملة على الحكمة في تحقيق التوازن بين الأشياء، بحيث تضع كل شيء في موضعه وتجعل له هدفاً يحرِّكه في الاتجاه الصحيح، وهذا ما يدركه العقل الواعي وتقود إليه التجربة العملية التي تلاحق الظواهر الكونية وحركة الحياة والإنسان، حيث تمثل السنن الكونية والحياتية قوانين تحكم الواقع وكل ما يحدث فيه من أمور بحيث لا تترك مجالاً للصدفة فيها.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لا يدركون نتائج أعمالهم، لأنهم لا يتابعون دراسة المقدمات ولا يتحركون ليأخذوا بأسباب العلم، ليعرفوا كيف يستنبطون منه الحقيقة.
وإذا كان الكون مرتكزاً على قاعدة الحق في كل مفرداته، فكيف يمكن أن يكون وجود الإنسان عبثاً، بحيث يوجد ويعدم من دون غاية في نتائج المسؤولية أمام الله، كما يقول هؤلاء المنكرون للمعاد.. وبذلك نعرف أن الإيمان بالله في مضمون حكمته لا يلتقي بهذا الإنكار من قريبٍ أو بعيدٍ، وأن دراسة عمق الحق في الكون، تفرض تأكيد عمق الحق في خلق الإنسان.
* * *
لا مجال لإنكار يوم الفصل
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} الذي يفصل الله فيه بين الحقّ والباطل، وبين المؤمنين والكافرين، وبين الأنبياء وأممهم، فتكون كلمته هي الفصل الحاسم الذي يقرّر الموقف، والحكم في مسألة المصير، فهو {مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} وموعدهم الذي يلتقون فيه جميعاً ليواجهوا الموقف بين يدي الله، ويبرز كل واحد منهم إليه بمفرده ليتحمل مسؤوليته الذاتية وحده، لأن العلاقات الاجتماعية التي كانت تربط بين الناس، في ما يتناصرون به، أو يتعاونون فيه تنقطع آنذاك.
{يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} فلا ولاية بين الناس، فلا ينفع الصديق صديقه، ولا الأب أولاده، ولا الأولاد آباءهم وأمهاتهم، ولا الحكام شعوبهم، ولا الشعوب حكامها، فقد تقطّعت الصلات التي تربطهم، فكل واحدٍ منهم يفكر بنفسه، ولا مجال له للتفكير بغيره، لأنه لا يملك إنقاذ نفسه، فكيف يملك أن ينقذ غيره {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} لأنهم لا يملكون أسباب النصرة من القوّة المسيطرة على الموقف كله.
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ} من أدركته المغفرة برحمة الله {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فهو الذي يملك القوّة من موقع عزته ويفيض بالرحمة على عباده فيدخلهم في جنته، ويمنحهم مغفرته ورضوانه.
ــــــــــــــــــــ
(1) الكشاف، ج:3، ص:504ـ505.
(2) مجمع البيان، ج:9، ص:101.
تفسير القرآن