المقدمة + من الآية 1 الى الآية 6
سورة الجاثية
مكية، وهي سبعٌ وثلاثون آية
في أجواء السورة وسبب التسمية
سُميت هذه السورة بـ«الجاثية» لورود هذه الكلمة في الآية الثامنة والعشرين منها: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وهي تختصر المشهد العظيم في يوم المحشر عندما يواجه الذين آمنوا بالله وبرسله وساروا في خط رسالاته، أولئك الذين كفروا بالإيمان كله أو أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، ما يجعل منها عنواناً يختصر مضمون السورة التي تحدثت عن آيات الله في كتابه، وآيات الله في الكون، التي تدعو الذين يملكون العقل إلى التفكير الذي لا بد من أن يقودهم إلى اليقين، لأنها بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون..
وفي ضوء ذلك، فإن الناس الذين عايشوا الدعوة التي حملها النبي(ص) والمؤمنون معه، فريقان: فريق المستكبرين الذين يدفعهم الاستكبار الذاتي والطبقي للتنكر لآيات الله والسخرية منها، وفريق المؤمنين الذين يؤمنون بالله ويستسلمون له ويعظِّمون آياته، ويتحركون في خط شريعته التي أراد الله من رسوله ومن الناس كلّهم أن يتبعوها..
ولا يمكن التسوية بين الذين اجترحوا السيئات في مواجهة العقيدة والشريعة، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الحياة، فلا بد من أن تجزى كل نفس بما كسبت، على أساس العدل الذي جعله الله قانون الفصل في الدنيا والآخرة، ليدخل الذين آمنوا في رحمته، ويدخل الذين كفروا إلى النار حيث مأواهم الأخير.
ـــــــــــــــــــ
الآيــات
{حم* تَنـزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ* وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ آياتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ* وَاخْتِلافِ اللّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آياتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آياتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* تَلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتهِ يُؤْمِنُونَ} (1ـ6).
* * *
معاني المفردات
{يَبُثُّ}: البث: التفريق والإثارة، وبثه تعالى للدواب: خلقها وتفريقها ونشرها على الأرض.
{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}: تحويلها وإرسالها من جانب إلى جانب.
* * *
تنوّع آيات الخلق
{حم} من الحروف المقطعة، {تَنـزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} الذي يفتح عقول عباده بحكمته عبر ما يحدده لهم من مواقع الفكر والحركة في خط حياتهم التي حمَّلهم مسؤولية إدارتها على ضوء مفاهيم شريعته وأحكامها، ويمنحهم الثقة بقوّتهم في مواجهة التحديات والمصاعب والأخطار، من خلال عزته التي تلتقي بالقوّة المطلقة التي لا يغلبها شيء، ولا يدانيها شيء.
.. وهكذا يريد الله للإنسان أن يعي عظمة الكتاب من خلال التفكير بعظمة الله وقوته وعزته وحكمته، حيث أنزله وحياً على رسوله {إِنَّ فِي السَّمَواَتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} الذين يتأملون ويفكرون في كل ما يشاهدونه من ظواهر الكون في السماء والأرض على تنوع تلك الظواهر واختلافها من حيث الطبيعة والخصائص، ساكنةً كانت أو متحركة، من النور والظلام، والوجود الحيّ والنامي، والجامد، والجمال الساحر المتمثّل في كل ذلك، والإبداع الكامن في الأسرار الخفية للأشياء، كما يطفو على السطح بأكثر من صورة.. وإذا كان التأمّل عميقاً، والفكر دقيقاً، فلا بد من أن يكون الإيمان هو النتيجة الطبيعية التي ينفتح لها العقل والروح والوجدان..
{وَفِي خَلْقِكُمْ} هذا الخلق العجيب الذي تمتزج فيه المادة بالروح، ويحركه العقل والعاطفة، وتتناسق أجزاؤه وتتعدد خصائصه حتى كأنّ كلّ عضوٍ فيه عالم فريد في علاقته بالأجهزة الأخرى ووظائفها، وهو يبدع الفكر غير المادي من عناصر مادية، ويحرّك الحياة من حوله، ويجعل هذا المخلوق الصغير يقود الكون الكبير بطاقته العظيمة التي أودعها الله فيه.
{وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ} من هذه المخلوقات العجيبة التي تدب على الأرض، وتتنوع في خصائصها الداخلية والخارجية، وفي أدوارها وأوضاعها ومواقع عيشها، ففيها ما يعيش في أعماق الأرض، وعلى سطوحها، وما يطير في الفضاء، على اختلاف قوتها وضعفها، الأمر الذي يجعل بعضها طعاماً لبعضها الآخر، وقسماً منها مسخّرٌ لقسمٍ آخر، من دون أن يطغى نوعٌ على نوعٍ طغياناً مطلقاً أو يبيد نوع نوعاً آخر إبادةً شاملةً، لوجود نوع من التوازن الدقيق الذي يضبط حركة القوّة والضعف، ما يجعل الحياة تستمر لتتكامل هذه المخلوقات الحيّة في إغناء الحياة بما تحتاج إليه في كل أوضاعها الجزئية والكلية.. وهكذا ينفتح، من خلال هذه الدوابّ المبثوثة في الأرض والسماء، أفقٌ واسعٌ من المعرفة اليقينية لمن يحملون مسؤولية الفكر ويريدون الأخذ بأسباب اليقين للتخلص من حالة الغفلة التي تمنع الإنسان من أن يفتح عقله على مفردات المعرفة، والابتعاد عن حالة الشك التي تجعله يعيش الاهتزاز الحائر أمام الاحتمالات القلقة. فيجدون في وجودهم، ووجود هذه المخلوقات الحية التي تعيش في عالمهم، عمق التدبير، وروعة الجمال، وسرّ الحكمة ودقّة الصنعة، وامتداد القدرة، فإذا هي {آياتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}َ فيعيشون وضوح الرؤية، وانفتاح القلب وصفاء الروح، جراء اليقين بالله، والبعد عن كل عوامل الشك.
* * *
آيات خلق السماء
{وَاخْتلافِ اللّيْلِ وَالنَّهَارِ} المتأتي عن دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس مرّةً في كل يوم، فإذا بالليل والنهار ظاهرتان كونيتان تنظمان للإنسان حياته، كما تحتفظان للحياة وللأحياء بالعناصر الضرورية لامتدادها في رحلة الوجود..
{وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَّن رّزْقٍ} وهو الماء الذي ينزل من السماء { فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} عندما يجعلها صالحةً لاحتضان البذور في عملية النموّ والانفتاح، وربما استوحى البعض من هذا الرزق، شموله للأشعة التي تنزل من السماء، فهي ليست أقل أثراً في إحياء الأرض من الماء، ذلك أن الماء ينشأ عنها بإذن الله، فحرارة الشمس هي التي تبخّر الماء من البحار فتتكاثف وتنزل أمطاراً وتجري عيوناً وأنهاراً، وقد نلاحظ على ذلك أن الأشعة من العناصر التي تشارك في أسباب هذا الرزق وتكمل تأثيره، ولكنها ليست رزقاً بالمعنى المادّي الذي يفهم عرفاً من كلمة رزق.
{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} التي تتنوّع وتختلف في خصائصها ومواقعها وحرارتها وبرودتها، وطبيعتها من حيث الشدة والخفة، وهي تتحرك وفقاً للنظام الكوني الذي يربطها بالكثير من الأوضاع المتصلة بحركة الحياة في الأرض، {آياتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}َ لأن العقل الذي يدرس كل هذه الظواهر ويدقّق في القوانين التي تحكمها، وفي الأسرار التي تكمن في داخلها، لا بد من أن يستوحي منها، كيف يفتح وعيه على الله الذي هو سرّ كل شيء فيها، فلا معنى لوجودها بعيداً عنه.
* * *
ما معنى الاختلاف في التعبير عن الآيات؟
وقد تناول المفسرون هذا التنوع في التعبير عن الآيات تبعاً لتنوعها، فقد اعتبر خلق السماوات والأرض آيات للمؤمنين. أمّا خلق الإنسان وسائر الحيوان فهو آيات لقوم يوقنون، ثم جعل آية اختلاف الليل والنهار والأمطار وتصريف الرياح، لقوم يعقلون، فما هو السرّ في هذا الاختلاف، ولا سيّما إذا عرفنا أن الإيمان حالة يقين، يحصّلها العقل الذي يتحرك فيه الفكر، ويحتضنه الوجدان.. فهل هو من قبيل التنويع البلاغي للمفهوم الواحد؟ أم هو الاستغراق في وضوح اليقين كما هو الأسلوب القرآني في تنويع التعبير للمعنى الواحد.
وهو خاضعٌ لاختلاف بعض خصائص المعاني في المواقع المتعددة والمتنوعة.
يقول صاحب الميزان في توجيه ذلك: «إن آية السماوات والأرض تدل بدلالةٍ بسيطةٍ ساذجة على أنها لم توجد نفسها بنفسها ولا عن اتفاقٍ وصدفةٍ، بل لها موجد أوجدها مع ما لها من الآثار والأفعال التي يتحصّل منها النظام المشهود، فخالقها خالق الجميع وربّ الكل، والإنسان يدرك ذلك بفهمه البسيط الساذج، والمؤمنون بجميع طبقاتهم يفهمون ذلك وينتفعون به.
وأما آية خلق الإنسان وسائر الدواب التي لها حياة وشعور، فإنها من حيث أرواحها ونفوسها الحية الشاعرة من عالمٍ وراء عالم المادة، وهو المسمّى بالملكوت، وقد خصّ القرآن كمال إدراكه ومشاهدته بأهل اليقين كما قال: {وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75].
وأمّا آية اختلاف الليل والنهار والأمطار المحيية للأرض وتصريف الرياح، فإنها لتنوّع أقسامها وتعدّد جهاتها وارتباطها بالأرض والأرضيات وكثرة فوائدها، تحتاج إلى تعقّلٍ فكريٍّ تفصيليٍّ عميقٍ ولا تُنال بالفهم البسيط الساذج، ولذلك خُصت بقوم يعقلون»[1].
وهناك وجوه أُخر في تفسير هذا التنوع، ولكننا نرجح ما ذكرناه أوّلاً من رجوع القضية إلى التنويع في التعبير عن الفكرة الواحدة مراعاة للأسلوب البلاغي الجمالي في الشكل التعبيري.
أمّا الوجه الذي ذكره صاحب الميزان فقد نلاحظ عليه أن من الممكن إرجاع كل آية لكل واحدةٍ من هذه النعوت.. فالآية التي استشهد بها على مسألة اليقين، قد تحدثت عن ملكوت السماوات والأرض، واستخدم في التعبير عنها كلمة الإيمان في الآيات التي نتحدث عنها، كما يمكن استخدام كلمة العقل فيها باعتباره أساس الإيمان المبني على التأمل والمحاكمة العقلية، والله العالم.
* * *
تلك آيات الله
{تَلْكَ آياتُ اللَّهِ} المنثورة في رحاب الكون الدالة على وجوده وتوحيده {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} في ما تحدث القرآن عنها من الطبيعة والتفصيل، وفي إيحاءاتها الروحية والفكرية {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ} فإن الله يمثل الحقيقة الوحيدة التي تفسر كل الحقائق في معناها ووجودها، كما أن آياته هي التي توضح المضمون الفكري للحق في الفكر والحياة. فإذا لم ينطلق الإيمان من خلال ذلك، فمن أين ينطلق بعده؟.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:18، ص:160.
تفسير القرآن