تفسير القرآن
الجاثية / من الآية 7 إلى الآية 13

 من الآية 7 الى الآية 13

الآيــات

{وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آياتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ* مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ* اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (7ـ13).

* * *

معاني المفردات

{وَيْلٌ}: الويل: الهلاك.

{أَفَّاكٍ}: كذاب.

{أَثِيمٍ}: عاصٍ.

{رِّجْزٍ}: أشد العذاب، وأصله الاضطراب.

* * *

ويل لكل أفّاك أثيم

{وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} من هؤلاء الكذابين الذين انطلقت حياتهم لتكون كلها كذباً في الموقف والكلمة، فهم يمارسون الكذب على أنفسهم عندما يكذبون على الناس، ويكذّبون الحقائق التي يأتي بها الرسل، ويغرون الناس بالكذب في حركة الواقع، وبتكذيب الصادقين، لأنهم لا يطيقون كلمة الصدق، ولا أجواء الحق، بعد أن أصبح الكذب عنواناً لشخصياتهم وطابعاً لحياتهم، ومن هؤلاء الآثمين الذين عاشوا الإثم تمرّداً على الله، وحرباً على رسله، وتكذيباً لرسالاته، في جانب العقيدة والتشريع، الويل لهؤلاء في كل ما تمثله كلمة الويل من رفضٍ لخطّهم ودعوةٍ لهلاكهم، وإيحاءٍ بالعذاب الذي ينزله الله عليهم.

{يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} في ما ينزله الله من القرآن، يقرأه النبي عليه، فيستوعب ما تتضمنه من معنى التوحيد لله والاستقامة في نهجه وخطه على مستوى الدعوة والحركة والموقف، {ثُمَّ يُصِرُّ} على الكفر الذي كان عليه، ويمتد فيه {مُسْتَكْبِراً} من عقدة الاستكبار الذاتي الذي يعقّده فكرياً فلا يتقبل ما يأتي به الآخرون من فكر، لأنه لا يطيق أن يؤمن بحقيقةٍ آتية من غيره، حتى لو كان وحياً يحمله إنسانٌ آخر، كما يعقّده شعورياً فلا يتعاطف مع الرسول، بل يواجهه بمشاعر الحقد والاستعلاء المدمّر، فيواجه هذه الآيات {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} بما يثيره حولها من أجواء اللاّمبالاة، أو الإِيحاء بالاستغراب للوضع كله {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لأن الله يريد لعباده أن يتواضعوا للحق الذي يأتيهم واضحاً بالحجة الرسالية التي يقدمها الأنبياء والدعاة إلى الله من بعدهم، ما يعني أن المستكبرين المعاندين لا يملكون حجةً على كفرهم.

{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آياتِنَا شَيْئاً} في ما يفرض عليه الموقف أن يسمعه ويستوعبه مما لا سبيل إلى إنكاره، أو الوقوف منه موقف الغفلة أو اللاّمبالاة، {اتَّخَذَهَا هُزُواً} وواجهها بكل أساليب السخرية التي تُبطل تأثيرها في نفوس الناس، ككلّ القضايا التي تقع موقع الهزء الاجتماعي الذي يتقنه الطغاة من الكافرين والمستكبرين، ليحتفظوا بمراكزهم الطبقية، وبأوضاعهم المنحرفة، وبعاداتهم السيّئة {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذلّهم ويخزيهم ويُسقط كل جوّهم النفسي الاستكباري بالعذاب الذي يذوقون فيه المهانة والسخرية مما أعطوه لأنفسهم من مكانة وعظمة لا يستحقونهما.

{مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ} قيل: إن كلمة وراء تطلق على القدّام وعلى الخلف ـ كما ورد في مجمع البيان ـ «فما توارى عنك فهو وراؤك، خلفك كان أو أمامك»[1]، وقيل إن التعبير بذلك، مع أن جهنم أمامهم في ما يستقبلونه من مصيرهم في الآخرة، لأنهم لما كانوا مستغرقين في شهوات الدنيا ولذائذها، معرضين عن الحق، غافلين عن النتائج السلبية المترتبة على موقفهم السلبي من الرسالة، فكأنهم جعلوا جهنم وراءهم من موقع الإِعراض عن التفكير في تبعات عملهم. {وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً} فلا قيمة للمال الذي جمعوه، ولا للجاه الذي حصلوا عليه، ولا للقوّة المادية التي تحيط بهم، لأن ذلك لا يعطي أية قيمةٍ روحية تقرّب الإنسان إلى الله، ولا يمنح أصحابه أيّ امتيازٍ ذاتيٍّ {وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ} فلا موقع لهؤلاء في ساحة الآخرة، لأنهم مخلوقون لله، مربوبون له، خاضعون في ذواتهم لكل نقاط الضعف البشري وللإمكانات المحدودة التي يملكونها من الله، فلا يغنون عن أنفسهم شيئاً في ما كانوا يريدونه من الناس من عبادتهم لهم، أو في ما قاموا به من سيّئاتٍ في موقفهم من الله، ولا يغنون عن غيرهم ممن كانوا يعبدونهم شيئاً، لأن الله هو الذي يريد أن يعذبهم فكيف ينصرونهم من الله، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يتناسب مع جريمة الكفر والشرك التي لا يغفرها الله للسائرين فيها.

* * *

شكر نعم الله العظيمة

{هَذَا} القرآن الذي أنزله الله على رسوله {هُدًى} يهتدي به من يأخذون فكره عقيدةً يؤمنون بها، وشريعته نهجاً يلتزمون به، ومفاهيمه، خطاً يسيرون عليه {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآياتِ رَبِّهِمْ} وهم الضالون الذين يمنعهم كفرهم من الاستقامة على الخط المؤدي إلى النجاة {لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} وهو العذاب الشديد الذي يضطرب أهله من جرائه لقساوة الآلام التي يعانونها.

{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} ليسهل لكم بلوغ غاياتكم وتحصيل أرزاقكم، ومواقع حاجاتكم، التي لا تستطيعون بلوغها بدون ذلك {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعمة العظيمة، أوّلاً بالتفكير الجادّ الواعي بما هيأه لكم من وسائل تحققت بفضلها تلك النعمة، منها قوانين البحر وحركة الرياح، وإبداع الفلك، وذلك الفكر الذي ألهمكم إياه، وثانياً بالالتزام بأمر الله ونهيه، كشاهدٍ على الانسجام مع الإيمان بألوهيته ووحدانيته.

{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} فقد جعل الله لكم من الشمس والقمر والنجوم والرياح والمطر والأرض التي تنتج الغذاء والحيوان الذي هيّأ لكم وسائل السيطرة عليه، والانتفاع به في مختلف المنافع، من الركوب والشراب والأكل ونحوها وغير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه من نعم الله المتناثرة في الكون كله، التي لولاها لما تمكن الإنسان من الاستمرار في الحياة، فمنه كان الخلق، ومنه كان العطاء، ومنه كانت الرحمة التي امتدت بذلك كله في حركة الوجود.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لآياتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فلا يمرّون بهذه الأشياء عندما يشاهدونها أو يتقلبون فيها، أو يتنعمون بها، مروراً عابراً، بل يتوقفون عندها، ليتأملوا فيها تأمّلاً عميقاً، وليدرسوا خصائصها وأسرارها، وطبيعة القدرة الإلهية وحركة الرحمة فيها.. ما يدفعهم للإيمان بالله من خلالها من موقع عظمته ونعمته ورحمته.. وفي هذه الفقرة، كغيرها من الفقرات المماثلة، إيحاءٌ عميقٌ بأن الفكر هو الذي يقود إلى الإيمان بالله، عند انطلاقه في خط المعرفة الذي يفتح للناس طريق الوعي والإيمان، في مقابل الجهل الذي يؤدي بهم إلى الغفلة والضلال.

ــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:9، ص:110.