تفسير القرآن
الجاثية / من الآية 14 إلى الآية 15

 من الآية 14 الى الآية 15

الآيــات

{قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (14ـ15).

* * *

قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله

{قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} هذا هو التوجيه الإلهيّ للمؤمنين في مواقف التحدي الذي يواجههم الكفار به، فقد كانت المرحلة ـ في ما يوحي به السياق ـ مرحلة الدعوة التي تريد أن تفتح القلوب على الله، وتدفع العقول إلى التفكير في آيات الله، وكان المؤمنون يلاقون الاضطهاد من الكفار ويستمعون إلى الكلام القاسي اللاّمسؤول الذي يوجهونه إلى النبي محمد(ص)، وكانوا يلاحظون أنهم لا ينطلقون في ذلك من شبهةٍ أو عقيدةٍ، فهم ليسوا دعاة فكرٍ مضادٍّ، مبنيٍّ على المحاكمة الفكرية، بل هم دعاة ضلالٍ ساذج، مبنيٍّ على الأوهام.. وكان المؤمنون يتحفّزون للردّ على الكفار، وللمواجهة، وللدفاع عن أنفسهم، ولكن المرحلة لم تكن تتحمل ذلك، لأنها لم تصل إلى المواجهة، وكان الكفار بحاجةٍ إلى مزيد من الصبر في الدعوة، للحصول على الوضوح الذي يزيل الكثير من التعقيدات، وإلى مزيد من الإيجابية في الموقف الذي يخفف الكثير من السلبيات.. وهكذا كان الأسلوب العملي لهدايتهم هو الصفح عنهم، والإعراض عن مخاصمتهم ومجادلتهم، وعدم مواجهتهم بالموقف الصلب، وهذا هو المراد من المغفرة عملياً بحيث لا تثير ضد المخطىء ردّ فعلٍ سلبياً عنيفاً، كي لا يثير مشكلةً معقّدةً، أو تهيّىء الجو له للتراجع، على طريقة الرسول العظيم(ص) في ما يروى عنه، إنه كان يقول عندما يشتد اضطهاد قومه من المشركين له: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» بمعنى ترك عقابهم على ما أشركوا فيه، وما كفروا به، وما تمردوا عليه، وتأخير أمرهم إلى وقتٍ آخر، لأنهم لا يعلمون وجه الحقيقة في ما أنكروه، وخطورة ما قاموا به.

ولعلّ التعبير بقوله: {لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} يتضمن إيحاءً، بأنهم يجهلون المسألة الإيمانية التي تبعد مشاعرهم الذاتية عن الرجاء بأيّام الله التي يغفر فيها لعباده، ويرحم فيها الخاطئين، ويدخلهم جنته..

وقد يفهم البعض هذه الآية بطريقةٍ أخرى ويعتبرها لوناً من ألوان التسامح في النظرة إلى الكفر أو الشرك، لتكون المسألة المطروحة هي مسألة اللاّمبالاة بقضية الإيمان والكفر، أو التوحيد والشرك، مما يتنافى مع الالتزام بالموقف الإيماني الذي يتحرك من موقع الاهتمام، ويحدد العلاقات على هذا الأساس..

إننا لا نوافق على ذلك، بل القضية في هذه الآية هي الوقوف بطريقةٍ متوازنةٍ أمام الانحراف لدراسة الأسلوب الأفضل لمواجهته أو في معالجته، انطلاقاً من الانفتاح النفسي على ظروف انحراف المنحرف، ما يجعل المؤمن ـ الداعية، يستلم زمام المبادرة إفساحاً في المجال أمام المنحرف للتراجع عن انحرافه بلحاظ الظروف الموضوعية التي تحيط بالوضع من جميع جوانبه، لتحديد الموقف سلباً أو إيجاباً، على أساس ذلك.

* * *

إلى ربكم ترجعون

وإذا فكر الإنسان بالمسؤولية عند اتخاذ هذا الموقف غير الحاسم في مواجهة هؤلاء الذين لا يرجون أيام الله، فإن القرآن يؤكد أن الجزاء، في الثواب والعقاب، من شؤون الله الذي لا يفوته أحد في ما هو العقاب، ولا يضيّع عمل أحد في ما هو الثواب {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الأعمال الحسنة أو السيئة، ذلك أن المسؤولية الفردية تنعكس على نفس العامل بالخير أو بالشر، من دون أن يكون لمن يتعلقون به نصيب في نتائجها.

{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} من حيث النتائج الجيّدة لعمله على مستوى الحياة الخاصة في الدنيا وعلى مستوى المصير في نعيم الآخرة، {وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} لأن العمل السيىء ينطلق من حالة سوء في داخل ذات المسيء، في طبيعة تفكيره وسلوكه {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} لتقفوا بين يديه، وتواجهوا الحساب الذي يحدّد مصيركم النهائي.