تفسير القرآن
الجاثية / من الآية 18 إلى الآية 19

 من الآية 18 الى الآية 19

الآيتـان

{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ* إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (18ـ19).

* * *

معاني المفردات

{شَرِيعَةٍ}: طريق ورود الماء، وهي هنا طريق الدين.

{الأمْرِ}: أمر الدين.

* * *

الشريعة الإلهية واجبة الاتباع

{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ} الإلهي الذي وضع لحياة الإنسان في كل جوانبها الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية برنامجاً تشريعياً كاملاً ينظِّم كل مناحي تلك الحياة العامة والخاصة، في جميع الأوضاع والمواقع، بما لا يترك أيّ فراغٍ يحتاج معه الإنسان للرجوع إلى ما وضعه الآخرون من أصحاب الأفكار الكافرة أو الضالة، من نظرياتٍ نفسيةٍ أو اجتماعيةٍ أو سياسيةٍ أو اقتصادية. وهو لا يثير أية مشكلةٍ على مستوى تحقيق التوازن في حركة الشخصية الإنسانية بين المادة والروح، وبين الذات والجماعة، وبين الجانب العقلي والجانب الشعوري، ليعيش الإنسان على الصورة التي يرضاها الله، في ما يعلمه من عمق المصالح والمفاسد الكامنة في واقع الحياة، لذا كان الخطاب حاسماً للنبي، وللأمة، من خلاله، في دعوتها إلى اتّباع هذه الشريعة، على النهج الذي بيّنه الله في كتابه، وخطّطه الرسول في ما ألهمه الله من ذلك الأمر.

{فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} في ما يضعونه من شرائع، أو يركزونه من مفاهيم أو يعدّونه من برامج، أو يحرِّكونه من أساليب، أو يثيرونه من أفكار تنطلق من الأهواء المتحركة في ساحة الأطماع والشهوات، بعيداً عن عمق المصلحة الإنسانية في دائرة التوازن، على خط الاستقامة.

إن الله لا يريد للإنسان المسلم أن ينعزل عن ثقافة الآخرين وحضارتهم بالمطلق، ولكنه يريد له أن يقف على قاعدة صلبة من الشريعة التي يدعوه الإسلام إلى الالتزام بها، ثم يواجه ما عند الآخرين بالرفض أو التأييد استناداً إلى المفاهيم الثابتة في قاعدته الفكرية من مواقع القناعة لا من مواقع التعصب، فالإسلام يؤكِّد الثبات في مواجهة الاهتزاز، والحوار الفكري في مقابل التعصب.

إن الآية توجّه المسلم إلى نقاط الضعف التي يحاول الآخرون، ممن لا يملكون العلم، إثارتها في نفس الداعية، لتبعث فيه الاهتزاز لحمله على الانهيار والوقوع تحت تأثير الأجواء الضاغطة التي تدفعه إلى الانحراف من موقع الخوف، أو الانبهار، لتؤكد له أن يقف ثابتاً في مواقعه من عمق القوّة الإلهية التي شرّعت هذه الشريعة، وأعطت هذا الفكر، وقادت إلى هذا الخط المستقيم.

{إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} إذا اتبعت أهواءهم ورفضت شريعة الله، ووقفت ـ غداً ـ أمامه لتواجه الحساب الحاسم في مسؤوليتك عن ذلك كله، فلن يستطيعوا أن يخلِّصوك إذا أراد الله أن يعذبك. وربما اشتملت المسألة على أوضاع الدنيا في بلائها وحاجاتها، فإن الله ـ وحده ـ هو الذي يستطيع دفع البلاء عن الإنسان، أو قضاء حاجاته، أمّا هؤلاء، فإنهم لا يملكون شيئاً من القدرة كي يستطيعوا أن يحققوا له الغنى في قضاياه العامة والخاصة.

* * *

الظالمون بعضهم أولياء بعض

{وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فهناك منطقٌ مشتركٌ يجمعهم وتفكيرٌ واحدٌ ولغةٌ مشتركة يعبرون بها، وأطماعٌ ومصالح وقيمٌ فاسدةٌ تجمعهم وتربط بعضهم ببعض ارتباطاً عضوياً، ويتولّى بعضهم بعضاً ويدعم بعضهم بعضاً ويقوّي أحدهم الآخر، ويخوضون المعركة مع العدل والحق في ساحة الصراع من موقعٍ واحدٍ، ولكنهم لن يستطيعوا فعل الكثير مع المتقين الذين يعتمدون على الله ويتولّونه ويخلصون له، ويتطلعون إلى ولايته الإلهية التي تنصرهم في مواطن الهزيمة، وتقوّيهم في مواضع الضعف، وترعاهم بالرحمة واللطف في كل المواقع التي يتعرضون فيها للمشاكل المعقدة في خط الإيمان في الحياة {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} الذين اتقوه في مواقع الاهتزاز والانحراف، ووقفوا على قاعدة ثابتة يتطلعون من خلالها إلى الله، في كل أمورهم وقضاياهم، ليتيقنوا أنه ـ وحده ـ هو ولي الأمر كله، لأنه خالق الكون كله..