تفسير القرآن
الجاثية / من الآية 22 إلى الآية 23

 من الآية 22 الى الآية 23

الآيتـان

{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ* أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (22ـ23).

* * *

خلق الله السماوات والأرض بالحق

الحقّ هو القاعدة القرآنية الصلبة الواسعة التي تشمل الكون بأسره، فهو يشكِّل الأساس الذي انطلق منه الوجود، والضابط لحركة الإنسان، الذي يريد الله منه أن يجعل كل شيءٍ لديه خاضعاً للحق. ويبقى تحمل الإنسان المسؤولية أمام الله هو الذي يحدد للإنسان موقفه ومصيره، من خلال الحق.

{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} في سرّ الخلق، وفي حركته، فلا مجال للعبث ولا للّهو ولا للباطل، وإذا كان الحق هو الأساس، فهل يمكن أن يجعل الباطل مساوياً له في القيمة وفي الجزاء؟ وهل يتساوى المحق والمبطل في حسابات الله؟ إن معنى أن يكون الحق الأساس في كل شيء، هو رجوع كل شيءٍ إليه، لارتباطه به في العمق والامتداد، وعلى ضوء ذلك يحدد خط المسؤولية، الجزاء تبعاً لطبيعة العمل النوعية.

{وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} فهذا هو المنهج الصحيح الذي يرتكز عليه العدل، ويقضي بإعطاء كل إنسانٍ حقّه، والتصرف مع كل شخصٍ بما يستحق، {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فلا يعاقَب أحدٌ بما لم يفعل، ولا يُنتقص من حق أحدٍ.

* * *

أفرأيت من اتخذ إلهه هواه؟

{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} في ما يمثله الاستغراق في اتباع الهوى، في اللذات والشهوات الحسية دون الخضوع للضوابط الحقيقية التي يحددها عمق المصلحة الإنسانية، ووحي الرسالات، ودون أيِّ توازنٍ على خط المبادىء الإيمانية العامة، ما يعني اعتبار الهوى بمثابة الإله المعبود في الاستسلام له، والتسليم المطلق له بالطاعة.. وهكذا نجد ـ في هذا التعبير القرآني عن الهوى المطاع بالإله ـ أن مسألة الألوهية لا تتعلق بالمسألة النظرية والتصور العقلي للإله، بل تتصل بالوعي العملي الذي تجسده الممارسة في الواقع، حيث يتجه اهتمام الإنسان عملياً في اتجاهٍ معيّنٍ يملك عليه كل مشاعره ويسيطر على أفعاله في الوقت الذي يتجه فكره باتجاه آخر.

وهذا ما نلاحظه في مواقع أخرى، في الإشارات القرآنية للجانب الألوهي من حياة الإنسان في قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، وقوله تعالى: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64]. فإن ذلك لا يعني الاعتراف بربوبية هؤلاء بالمعنى الفكري، وبشكل علني، بل يعني الالتزام بطاعتهم في كل شيء، حتى في معصية الله، والاستغراق الأعمى في ذلك كله.

{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} فليس ضلاله مستنداً إلى جهلٍ بالفكر، أو بمواقع الهدى، لأن هذا الإنسان قد أخذ بأسباب العلم الذي يمكن أن يصل به إلى مواقع الإيمان أو يعرّفه وسيلة الالتزام به، ولكنه انطلق في خط الهوى الذي تحوّل إلى غشاءٍ ثقيل غشّى بصيرته، وأعمى بصره، فتحول العلم عنده إلى جهل، أو إلى ما يشبهه، الأمر الذي جعله يتحرك في متاهات الضياع. أما نسبة الإضلال إلى الله، فقد يكون بملاحظة الجانب السلبي المتمثل في إهمال الله له وتركه لنفسه، أو بملاحظة الجانب الإيجابي المتمثل في قانون السببية الذي ربط الله فيه بين الأشياء وجعل اختيار السبب بيد الإنسان، مما لا ينافي عنصر الاختيار في الأفعال.

{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} لأن الهوى عندما يغلب على الإنسان، فإنه يمنعه من سماع الحق، أو يشوّش عليه ما يسمع، كما يغلق أمام عقله النافذة الواسعة التي يطل بها على الحقائق، ويضع الحواجز التي تمنعه من البحث عن الحقائق والوصول إليها من طريق التفكير العميق، والتأمل الواعي، تماماً كما لو كان سمعه وقلبه مختومين بختمٍ ماديٍّ يمنعهما من استقبال الكلام النافع، والفكر الصائب، {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} فهو يبصر سطح الأشياء الظاهر، من دون أن يحدّق فيها تحديقاً دقيقاً يمكنه من معرفتها في العمق، بالمستوى الذي يملك فيه الوصول إلى معرفة مدلولات الأشياء التي يراها، ما يجعل رؤيته لها رؤية عابرةً، لا يستفيد منها شيئاً، كما لو لم يبصر أيّ شيء، لأن وجود السمع والقلب أو عدمه يتساويان عندما لا يحصل الإنسان من الوجود على ما ينير فكره ويغيّر واقعه.. أمّا في ما يتعلق بنسبة المسألة إلى الله التي قد تلتقي بفكرة الجبر، فالجواب عنه هو جواب الفقرة السابقة نفسه.

{فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ} الذي يملك وحده أمر الإنسان في حركة العلاقات الإنسانية، كما يملك الكون كله في حركة العلاقات العضوية بين ظواهره، ولا يملك شيئاً من ذلك غيره {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} وتخرجون أنفسكم من الغفلة المطبقة التي تمنع عنكم وضوح الرؤية للأشياء لتملكوا التصور المتوازن لقضايا الحياة والإنسان، في آفاق الله.