تفسير القرآن
الجاثية / من الآية 24 إلى الآية 26

 من الآية 24 الى الآية 26

الآيــات

{وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ* وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (24ـ26).

* * *

وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا

{وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} فليست هناك حياةٌ غيرها، وليست هناك قوّةٌ غيبيّةٌ تحرّك وجودنا بطريقةٍ خفيةٍ لتكون لها قدرةٌ على إبداع الحياة من جديدٍ.. فنحن نعيش في هذه الحياة الدنيا، فنموت كبشر في جيلٍ ماضٍ، ونحيا في جيلٍ جديدٍ، ضمن حركة الحياة والموت التي تحكم الوجود الإنساني بشكلٍ طبيعي.. وربما كانت كلمتا {نَمُوتُ وَنَحْيَا} معبِّرتين عن النوع الإنساني بأكمله، ويكون تقديم الموت على الحياة، تعبيراً فنياً نلحظ فيه التناسب في موسيقى الكلمات.

{وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ} وهو الزمن الذي يترك في استمراره تأثيراً على عناصر الحياة والموجودات، فيُبلي كل جديد، ويهلك كل وجود.. فهو الذي يعطّل دور كل عضوٍ من أعضائنا، ويفني الأجهزة المودعة في خلايانا. فنموت عندما تستنفد الحياة طاقتها على البقاء، فلا غيب، ولا خفاء، بل هو الحسّ الذي يتحرك أمام الأعين في حركة الوجود والفناء.. ولكنّ القرآن يطرح موقفه من هذه المسألة، من خلال السؤال عن مصدر هذه الأحكام.. فهل هناك دليلٌ على نفي الحياة الأخرى، يحكم به العقل، أو تقود إليه التجربة؟! وكيف يفسّرون القوّة الخفية التي تمثل مصدر الحياة؟ وإذا كانوا يفسرون نهاية الحياة، بتأثير الزمن على الأجسام الحية، فكيف يفسرون بدآية حياة الأشياء الجامدة؟ وكيف يفسرون تحوّل الغذاء إلى دمٍ، والدم إلى نطفةٍ، وتحوُّل النطفة، في تطوّرٍ نوعيٍّ متقنٍ، إلى إنسان؟ إلى غير ذلك من الأمور التي ترصد الظواهر الحياتية وتلاحظ أن هناك شيئاً غير المادة مما لا يملكون علمه بالدقّة والعمق والشمول، {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} فليس لديهم إلا النفي الذي يحتاج إلى دليل، كما يحتاج الإثبات إلى دليل، {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} انطلاقاً من الحدس المبنيّ على الاحتمال، والذي يتحرك في أجواء الخيال، وفي مجالات الاستبعاد، من دون علم.

* * *

طرح التحدّي الساذج

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنَا بَيِّنَاتٍ} مما لا مجال فيه لشبهةٍ أو ريبٍ {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} لأنهم لا يملكون مواجهة البينات بالحجة العلمية المقنعة التي تناقش مفردات العقيدة التي تطرحها، أو طبيعة المفاهيم التي تثيرها، ولذلك فإنهم يهربون من الموقف إلى طرح التحدي الساذج الذي لا معنى له، لأن الأنبياء لم يأتوا ليغيّروا النظام الكوني المتعلق بالحياة وبالإنسان، ليبعثوا الحياة في الموتى، وليحوّلوا التراب ذهباً، والصحراء ينابيع وجناتٍ، وما إلى ذلك، بل جاءوا ليخاطبوا العقل والوجدان، بالأفكار التي يستلهمونها من وحي الله، ليوجهوا الناس إلى الأخذ بتلك الأفكار في نظامهم الحركي في المجالات العامة والخاصة، ولهذا كانوا يطلقون الفكرة ويدعون إلى الحوار حولها، ثم يواجهون الأفكار المضادة ليناقشوها، وليطرحوا على دعاتها أن يقدّموا البراهين الواضحة التي تثبت صحتها من الناحية الفكرية.

* * *

سنة الله الحتمية

{قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} فهذه هي الحقيقة الإلهية في وجود الإنسان، فهو ـ وحده ـ القادر على إعادة الحياة، كما أنه ـ وحده ـ القادر على إيجادها، فليس لأحدٍ أن يطلب من أيّ مخلوقٍ، حتى إذا كان نبياً، أن يعيد الحياة لأي شخصٍ، لأن النبي لا يملك أية قدراتٍ إحيائيةٍ إلاَّ بإذن الله، الذي أعطى بعض هذه القدرة لبعض رسله، إذا ما كان دوره الرسالي يفرض ذلك، لا نزولاً عند طلب التحدي المضاد، لأن الله لا يستجيب للتحدي، كما يستجيب الناس الذين ينفعلون بالتحدي، أو يخافون السقوط أمام مواقعه، فإن الله بالغ أمره في كل شيء.. ولذلك فلا بد لهؤلاء من أن يفهموا سنّة الله الحتمية التي تنطلق من حكمته في خلق الإنسان، لتكون حياته ساحةً للمسؤولية، وليكون موته جسر عبور إلى يوم القيامة، حيث يواجهون نتائج المسؤولية وتتأكد حكمة الله من الخلق، ولكن مشكلة هؤلاء وغيرهم، ممن يعيشون في السطح الظاهر من الأمور، أنهم لا يفكرون {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} لأنهم لا يأخذون بأسباب العلم، في ما أعدّه الله لهم من وسائله الذاتية والموضوعية، بفعل ابتعادهم عن الجديّة في حسابات المصير.