تفسير القرآن
الجاثية / من الآية 27 إلى الآية 37

من الآية 27 الى الآية 37

الآيــات

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ* وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* هَذَا كِتابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ* وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِين* وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ* وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ* وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ* ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ* فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيم} (27ـ37).

* * *

معاني المفردات

{يَخْسَرُ}: الخسر والخسران: انتقاص رأس المال.

{وَحَاقَ}: حلّ.

{يُسْتَعَتَبُونَ}: الاستعتاب: طلب العتبى والاعتذار.

{الْكِبْرِيَآءُ}: الترفع عن الانقياد، العظمة والملك.

* * *

ولله ملك السماوات والأرض

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} فهو الخالق لهما، ولما فيهما، وهو المدبّر لكل أمورهما، ولأمور الموجودات المتناثرة فيهما {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} لأن الساعة تمثّل الموعد الذي يقوم فيه الناس لربّ العالمين، لينطلق المحقّون في رحاب رضوان الله، حيث يجعلون الربح الكبير من نعيمه الخالد جزاءً لمواقفهم الصالحة، أمّا المبطلون، فيسقطون في خسارتهم الكبيرة الفادحة تحت تأثير كفرهم وعنادهم، لأنهم أخذوا بأسباب الباطل من دون حجّةٍ ولا أساس.

* * *

لكل أمة كتابها

{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} أي باركة على الرُّكَب، في ما يعبّر عنه ذلك من حالة الخضوع والترقب، الممزوجة بالحَيْرة والفزع، في انتظار الحساب الحاسم الذي يقرر مصيرها، {كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} الذي يحتوي تاريخها في الدنيا، في قضاياها الذاتية وفي علاقاتها العامة، وفي ممارساتها العملية مما عملته من خيرٍ أو شر. وقد نستوحي من ذلك أن للأمة كتاباً، في ما تلتقي عليه من أفكار وآراء، وفي ما تجتمع عليه من مواقف وأعمال، في ما يمثل المسؤولية الجماعية، تماماً كما هو الكتاب المختص بالأفراد وما يقومون به في حياتهم الخاصة من أعمال. وينطلق النداء الإِلهي ليحدّد لهم الحكم النهائي {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فهذا هو القانون العادل الذي يساوي بين الجزاء والعمل، فلا يؤاخذ الناس ويعاقبهم إلاَّ بما عملوه، ولا ينقص من ثواب العاملين في خط الصلاح.

* * *

هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق

{هَذَا كِتابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} لأن ما يتحدث عنه يمثل واقعهم الحيّ الذي عاشوه في كل أوضاعهم وأعمالهم، ما يجعل الحروف المكتوبة فيه بمثابة صوت ناطق يجسد المعنى والصورة، لأنّ فيها دقّةً وعمقاً {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تماماً كما تنقل الكلمات من كتابٍ إلى كتابٍ نقلاً حرفياً تتماثل في صورتها هنا وهناك، فإن العمل ينقل بكل صورته وخلفياته ونتائجه من الواقع المتجسد في حياة الإنسان، إلى الكتاب الذي يحدد ملامحه بكل إتقان، ولعلّ التعبير بالاستنساخ جارٍ على سبيل الكناية، على أساس أن العمل يظهر في ملامحه كما لو كان مكتوباً في شخصية العامل، من حيث دلالته على المضمون، من دون شك ولا ريب، فلا يستطيعون الإنكار، ولا يملكون الدفاع.

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} لأنهم انطلقوا من مواقع الرحمة التي تجتذب المغفرة والرضوان، من حيث الفكر الإيماني، ومن حيث الممارسة الصالحة والأعمال الخيّرة {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} لأن الجنة هي الغاية الأخيرة التي تحتوي النعيم الخالد عند الله الذي لا شقاء بعده، ولا بؤس وراءه.

* * *

سؤال الله للمستكبرين المجرمين

{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ} من دون أن تكون لهم حجةٌ على الكفر، وانطلقوا في الكفر من روحية التمرّد والعناد، فيتوقفون قليلاً، ليسمعوا السؤال الذي يطرحه الله عليهم، لا ليجيبوا عليه، لأنهم لا يملكون جواباً يمنحهم الحجة أمام الله، فللَّه الحجة البالغة عليهم، ليسجّل عليهم الموقف الذي يعرّيهم أمام المصير المحتوم: {أَفَلَمْ تَكُنْ آياتي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} لتدفعكم إلى التفكير والتأمّل، ولتقودكم إلى الحوار الذي يهديكم إلى معرفة الحقيقة الإلهية التوحيدية، وإلى الإيمان بها، لأن هذه الآيات تملك المضمون الذي يلتقي بالعقل والوجدان من أقرب طريق، ولكنكم رفضتم ذلك من موقع الكبرياء التي تمنعكم من التنازل عن رأيكم بفعل العصبية الذاتية أو الطبقية {فَاسْتَكْبَرْتُمْ} استكبار الطغيان على الحق، والرفض لرسل الله {وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} تعيشون جريمة الانحراف العقيدي بالكفر والشرك، والانحراف العملي بالتمرد والعصيان.

{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا} لتُطرح الفكرة الأخروية كاحتمال يبحث عما يؤكده بالبحث والحوار، ولا سيما إذا كان من يطرحها يطرحها من موقع اليقين بأنها حقٌّ لا ريب فيه، لأنها وعد الله الذي لا يخلف وعده، { قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} في نفيٍ للعلم بها لا يبحث عما يوصله إليه {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} ولكن المسألة التي تفرض نفسها عليهم هي أنهم سمعوا الآيات التي بلّغهم إيّاها الأنبياء فاستكبروا عليها ورفضوها من دون مناقشةٍ، ما جعل الجواب المذكور لا يملك عمقاً في الاتجاه السليم.

{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} في ما يقابلها من النتائج السيّئة في المصير {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءئونَ} أيّ حل بهم عذاب النار الذي كانوا يسخرون منه في الدنيا.

* * *

إعراض الله عن المستهزئين بآياته

{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ} والنسيان المنسوب إلى الله، كناية عن الإعراض والإِهمال لهم من الناحية العملية، فيتركهم تحت تأثير أهوال القيامة وشدائدها، وعذاب النار وآلامه {كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} بالامتناع عن الاستعداد له، بالإيمان بالله والعمل في سبيله {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} لأن الله هو وحده الذي يملك الأمر كله.

{ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً} في أسلوبكم الساخر الذي يحاول أن يجعل من فكر الآيات مثاراً للسخرية والاستهزاء، بدلاً من أن يكون مثاراً للتأمّل والحوار، لتهربوا من الحقيقة العميقة المتمثلة في مضمونه، التي تفرض نفسها عليكم وعلى الآخرين في مواقع الجدّ والاهتمام، {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بشهواتها ولذاتها وامتيازاتها التي أخذتم بها في حركة الغرور المنتفخ، وامتداد الأمل الذي ينسيكم الموت فيشغلكم عن التفكير فيه، وفي دلالاته، وإيحاءاته، وفي ما بعده، {فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا} فهي مكانهم الدائم {وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} أي لا يطلب منهم العتبى والاعتذار ليؤدي ذلك إلى قبول العذر، لأن زمن الاعتذار والاستغفار قد انتهى بانتهاء الفرصة التي منحهم الله إياها في الدنيا.

* * *

فلله الحمد والكبرياء

وهكذا ينتهي كل شيء، ويهدأ الجو كلّه، ويبقى الله ـ وحده ـ فوق كل شيء {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فهو الذي يدبر الكون كله في ظواهره الحية والجامدة لتلتقي الموجودات في تنوّع خصائصها عند ربوبيته ووحدانيته فيها {وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} فلا شيء أكبر منه مما يخاف ويُرجى {وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ} في قوته التي لا تُغْلب، وحكمته التي لا تخطىء. والحمد لله رب العالمين.