تفسير القرآن
الأحقاف / المقدمة + من الآية 1 إلى الآية 7

 المقدمة + من الآية 1 الى الآية 7
 

سورة الأحقاف
مكية،وآياتها خمس وثلاثون

في أجواء السورة

هذه السورة من السور المكية التي تتناول أصول العقيدة الثابتة، ومنها التوحيد، الذي يعيش فيه الوجود كله حضور الله في تدبيره الشامل للكون وما فيه، ومنها الإيمان بالوحي الذي أنزله الله على رسوله بما يشتمل عليه من رسالة تخرج الناس من الظلمات إلى النور، والإيمان بالبعث الذي يلتقي عنده الناس ليواجهوا الحساب هناك، مع إطلالةٍ متحركةٍ على آفاق السماوات والأرض ومشاهد القيامة، وعلى حركة التاريخ في مصارع قوم هود، ومصارع القرى من حول مكة.

ويتحرك المضمون القرآني ليناقش مسألة الشركاء الذين لم يخلقوا شيئاً ولا يملكون أيّ شيءٍ، مما لا يجعل لديهم أساساً للربوبية، كما يجعل الذين يعتقدون فيهم ذلك قوماً متخلِّفين، لا ينطلقون في عقيدتهم من كتاب أو علم، بل ينطلقون من الأوهام والخيالات الباطلة.

ويقف عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليتحدّث عن دوره وطاقته في نطاق هذا الدور، وتتوزع السورة بعد ذلك في الحديث عن كتاب موسى (عليه السلام) وعن تأثير الإيمان في السلوك الإنساني، ومنه رعاية الوالدين واحتضانهما ورحمتهما والاستجابة إلى ندائهما الإيماني الذي تصوغه اللهفة الوالديَّة والإيمان العميق.. وتنتهي السورة بالحديث عن موقف الكافرين والمستكبرين والفاسقين يوم القيامة، حيث يعرضون على النار، التي هي مصير أمثال هؤلاء.

اسم السورة

وقد سميت السورة بالأحقاف بلحاظ الآية التي تحدثت عن عادٍ قوم هود، الذين كانت مساكنهم في منطقة تحمل هذا الاسم، في جنوب الجزيرة العربية ـ كما قيل ـ، واختلفوا أين هي، فقيل: «وادٍ بين عمان ومهرة، وقيل: رمال بين عمان إلى حضرموت، وقيل: رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن، وقيل غير ذلك» في ما نقله صاحب الميزان[1].

* * *

الآيــات

{حم* تنـزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم* ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجلٍ مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون* قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتابٍ من قبلِ هذا أو أثارةٍ من علمٍ إن كنتم صادقين* ومن أضلّ ممّن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون* وإذا حُشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين* وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّناتٍ قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحرٌ مبين} (1ـ7).

* * *

معاني المفردات

{شِرْكٌ}: شركة.

{أَثَارَةٍ}: بقية.

{حُشِرَ}: الحشر: إخراج الشيء من مقرّه بإزعاج.

* * *

وما خلقنا السموات والأرض إلا بالحق

{حم} من الحروف المقطعة في القرآن، {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} والقرآن هو وحي الله الذي شمل الكون كله بحكمته وسيطر عليه بعزته، فلا إرادة له إلا في مواقع الحكمة العميقة التي تنفذ إلى أعماق الأشياء لتضع فيها سرّ الوجود والحركة، وإذا أراد شيئاً فلن يستطيع أحدٌ أن يقف ضدّه، مهما كانت قوّته، وهذا ما ينبغي للناس أن يتمثلوه في وعيهم للكتاب باعتباره الحق، ليعرفوا أنه الحكمة التي يجب اتّباعها، وأنه الحق الذي يفرض نفسه على الحياة كلها.

{مَا خَلَقْنَا السَّمَواتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقّ} الذي يريد الله له أن يتحرك في الوجود ليكون السرَّ الأعمق فيه وفي حركته؛ على مستوى التكوين الذي يدخل في معنى الخلق، وعلى مستوى التشريع الذي يدخل في مضمون الإرادة الإنسانية في حركة الالتزام، {وَأَجَلٍ مُّسَمًى} فقد جعل الله للأشياء عمراً محدوداً بالغاية التي خلقت لأجلها، في ما تحتاجه، ما يوحي بالتخطيط الذي يخضع للحكمة الدقيقة.

ولكن هناك من يواجه الحق بمنطق العبث، وبروح اللاّمبالاة، ويتصرف تماماً كما لو كانت الحياة فرصةً للّهو وللهزل، ويأخذ من دعوة الحق التي تنذره العذاب موقفاً سلبياً، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ} فهم لم يستجيبوا للإنذار استجابة الإنسان المنفتح على الحق، أو استجابة الإنسان الجدّي في ملاحقة الفكرة المطروحة عليه حول اليوم الآخر، المنفتح على عالم المسؤولية في خطّ الثواب والعقاب، ما يجعل ردة فعلهم اللامبالية تلك، نذيرَ خطرٍ مستقبلي يمكن أن يواجهوا بفعله عذاب النار لإعراضهم عن الإنذار واستهانتهم به.

إنّ اللامبالاة بدعوة الحق، مشكلة الكثيرين من الناس الذين يعيشون الحياة من موقع العبث لا من موقع المسؤولية، وخطة القرآن هي العمل على النفاذ إلى عقول هؤلاء وقلوبهم لإخراجهم من اللامبالاة، وهذا ما تثيره الآيات التالية التي تطرح عليهم علامات استفهام غرضها تحريك فكرهم ووجدانهم، في اتجاه المزيد من التأمل والتفكير ومناقشة قناعاتهم الكافرة المشركة.

* * *

في صفات الآلهة المزعومة

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} من هذه الأصنام التي تعبدونها، أو غيرها من الأشخاص الذين تطيعونهم في معصية الله، وتعبدونهم من دونه؛ هل يملكون شيئاً من قدرة الخلق، أو حركة الوجود، ليكون لهم بعض خصائص الألوهية والربوبية، في أيّ مستوًى من المستويات، إذ إن هذا الموقع يفرض ذلك؟ {أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأْرْضِ} إذا كانوا قد شاركوا الله في خلق بعض الأرض، فأين ما خلقوه؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَواتِ} في ما قد يخيّل إليكم من شراكتهم في خلقها، أو في ما تفرضه الصفة من ذلك {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَذَآ} من الكتب التي أنزلت كالتوراة والإنجيل يقول بشراكتهم الله في الخلق، إن كنتم تؤمنون به، وتعتبرونه وثيقةً صحيحةً من وثائق الحقيقة في العقيدة {أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ} أي شيئاً منقولاً من علوم الأوّلين، أو سبباً علمياً يثبت ذلك، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} لأن إثبات الصدق في القضايا التي لا تخضع للحس، خاضعٌ لتقديم البرهان اليقيني الذي يُثبت الموضوع الذي يدور الحديث عنه.

* * *

سراية الشعور في الجماد؟

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فإن هذه الدعوة لا تحمل في مضمونها الفكري أيّ أساسٍ منطقي يحترم عقل الإنسان، فإذا كان هؤلاء الشركاء لا يستجيبون لمن يعبدونهم في حاجاتهم وقضاياهم ومشاكلهم، لأنهم بين حجر أو خشب جامد لا حياة فيه ولا حركة، وبين شخص إنساني أو جني أو ملائكي، لا يملك أيّة قدرة ذاتية على الاستجابة لهم، فكيف يمكن أن يكونوا آلهةً أو رموزاً تحمل أسراراً إلهية تجعلهم وسطاء بين الناس والآلهة؟ هل هناك أساسٌ لهذه الدعوة سوى الانجرار العاطفي الساذج نحو تقليد أوهام الآباء والأجداد بعيداً عن العقل؟ {وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} وهذه صفةٌ أخرى لهؤلاء الآلهة، فهم لا يعون الدعوة لعبادتهم، لأنهم غافلون عنها غفلة الجماد عمّا حوله، لفقدانهم الإحساس، أو غفلة الشخص الحيّ عما يعتقد الآخرون فيه، لعدم اطلاعه على ذلك، ما يجعل دعاءهم من قبل الداعي تعبيراً ذاتياً يتبخَّر في الهواء دون أن يترك أيّ أثرٍ يستجلب الاستجابة من تلك الآلهة.

وربما كانت كلمة «غافلون» جاريةً على سبيل الكناية عن عدم الوعي الذاتي والفعلي لدى هؤلاء الشركاء، سواء بسبب كونهم من الجماد أو من الموجودات الحيّة، فلا وجه لما استفاده صاحب الميزان من الآية في ما قاله في تفسيره: «وفي الآية دلالة على سراية الحياة والشعور في الأشياء حتى الجمادات، فإن الأصنام من الجماد، وقد نسب إليها الغفلة، والغفلة من شؤون ذوي الشعور لا تطلق إلا على ما من شأن موصوفه أن يشعر»[2].. فإن الآية ليست في مجال الإيحاء بتفاصيل الموضوع، بل هي ـ في ما يظهر ـ في مقام الحديث عن طبيعته من حيث الدلالة على عمق ضلال المشركين.

{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآء} لأنهم يواجهون اتهام الناس لهم بالمسؤولية عن شركهم بالله في الدنيا وعن عذابهم في الآخرة جرّاء ذلك بالتبرّؤ الكامل منهم ونفي أي علاقةٍ لهم بالموضوع، وتحميلهم مسؤولية ضلالهم الذاتي بسبب تصوراتهم المتخلّفة، ما يجعل الموقف موقفاً عدائياً يتبادل فيه الطرفان الرفض والبراءة، {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} فهم يرفضون عبادتهم من قبل أولئك، لأنهم لا يرون لأنفسهم هذه الدرجة التي وضعوهم فيها.

ويتابع صاحب تفسير الميزان طريقته في استيحاء حياة الجمادات في عمقها الداخلي من هاتين الآيتين فيقول: «وفي سياق الآيتين تلويح إلى أن هذه الجمادات التي لا تظهر لنا في هذه النشأة أنّ لها حياةً لعدم ظهور آثارها، سيظهر في النشأة الآخرة أن لها حياةً وتظهر آثارها»[3].

ونلاحظ على قوله هذا ما لاحظناه على ما قاله سابقاً، فهذه الآيات قد تكون جارية على سبيل الكناية، أو أنها مختصةٌ بالآلهة العاقلة المزعومة، فإن استتار الحياة في الجمادات لا معنى له فيها، أمّا خلق الحياة من جديدٍ كما في نطق الأعضاء والجلود وشهاداتها يوم القيامة، فهذا أمر آخر، لا يرتبط بما ذكره في كلامه، إلا أن يريد به ما يشمل هذا، فنلاحظ عليه ما استوحيناه من دلالة الآيتين؛ والله العالم.

* * *

من أساليب الكافرين في تشويه الرسالة

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ} فقد كانوا يعملون على التهرب منه، عناداً واستكباراً، ويبحثون عن مبرّرٍ لذلك يمكن للناس موافقتهم عليه، فيلجأون إلى عناوين تفسّر الأشياء بطريقةٍ تقليديةٍ {هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} لما يفهمه الناس من السحر باعتباره فنّاً ومهارةً لا يمثّل الحقيقة التي تعطي القداسة، بل يمثل مهارة على مستوى الظاهر تبعث على الانبهار بالخفة السريعة التأثير على البصر وعلى الجانب السطحي من وجدان الإنسان. وهذا أحد الأساليب التي يعمل الكافرون من خلالها على تشويه صورة الرسالة في إيحاءاتها الروحية والعقلية، وتشويه صورة النبيّ الذي يتحرك بوحي من الله، ليضعوا ـ بدلاً منها ـ صورة الساحر الذي يتحرك بالألاعيب التي تشد انتباه الناس بطريقةٍ سريعةٍ.

المصادر:
(1) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، ط:1، 1411هـ ـ 1991م، ج:18، ص:214.

(2) تفسير الميزان، ج:18، ص:192.

(3) تفسير الميزان، ج:18، ص:192.