تفسير القرآن
الأحقاف / من الآية 8 إلى الآية 14

 من الآية 8 الى الآية 14
 

الآيــات

{أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيداً بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم* قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم إن أتبِعُ إلا ما يوحى إليّ وما أنا إلا نذيرٌ مبين* قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهِد شاهِدٌ من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين* وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفكٌ قديم* ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة وهذا كتابٌ مصدقٌ لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا وبُشرى للمحسنين* إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون* أولئك أصحابُ الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون} (8ـ14).

* * *

معاني المفردات

{تُفِيضُونَ}؛ الإفاضة في الحديث: الخوض فيه.

{بِدْعاً}؛ البدع: ما كان غير مسبوق بالمثل.

{إِفْكٌ}: كذب.

* * *

اتهام الرسول بالسحر والافتراء

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} على الله، فنسب إليه ما صنعه بأسلوبه البلاغي الذاتي ليعطي كلامه لوناً من القداسة. وهذا هو الأسلوب الثاني الذي حاولوا من خلاله الإساءة إلى شخص الرسول بوصفه بالكذب، وإلى القرآن باعتباره كلام مخلوقٍ لا كلام الله.

{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} فإن الله لا يغفر لمن يكذب عليه، ولن يستطيع أحدٌ منهم ولا من غيرهم أن ينصره من الله أو يخلّصه من عذابه، ما يجعل الافتراء على الله عملاً غير عقلاني بالنسبة لمن لا يملك أيّة فرصة لحماية نفسه من تأثير عمله السلبي. ولا أريد أن أردّ عليكم حول هذا الموضوع بشكل مباشر، ولكني أرجع الأمر إلى الله، {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} وهو الذي يحدّد قضية الصدق والكذب في هذه المسألة بشكل حاسم، {كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فهو يعلم أن القرآن الذي أتلوه عليكم، هو الوحي الذي أنزله عليَّ، وهو الشاهد القادر على إظهار الحق أو الباطل بطريقته الخاصة، وشهادته بصدق كلامي ستظهر إن عاجلاً أو آجلاً، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الذي يغفر لعباده خطاياهم، عندما يرى أنهم يتحركون في مواقع الإيمان، فيخطئون من حيث يريدون الإصابة، وينحرفون تحت تأثير نقاط الضعف، ويرحمهم في حركة وجودهم بعد أن عاشوا رحمته في أصل خلقتهم، وهو الذي يفتح لكل عباده النافذة الواسعة التي يستطيعون من خلالها أن يُطلّوا على الأفق الواسع من لطفه ورحمته، في حركة رسله الذين يبعثهم لإبلاغ رسالاته إلى الناس كافة، ليحتوي الجميع في ساحة رضوانه.

* * *

عدم معرفة النبي بالغيب

{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ} فإن رسالتي هي في الخط الذي تحركت به رسالات الأنبياء السابقين، كما أن دوري هو دورهم في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فليس لكم أن تفرضوا ما توحي به خيالاتكم وأوهامكم، من دورٍ للنبي وشخصيته وقدرته على تغيير الواقع الكوني وحركة الكون ونظامه، فليس لذلك أيُّ موقع في ساحة الحقيقة الرسالية، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} فلست ـ في ما أملكه من طاقة المعرفة ـ أعلم الغيب، لأن للغيب أدواته وأسبابه ووسائله التي لا أملكها بصفتي الذاتية كإنسان، ولا بصفتي الرسالية كنبيّ في ما تفرضه طبيعة الرسالة من دورٍ للرسول، لأن الرسول يتحرك على ضوء التعليمات الإلهية التي ينزل بها الوحي عليه، مما يُلقي الله إليه من علمه، ومما يفتح عليه من غيبه، فإن طاقاته محدودة بما يمنحه الله منها.

{إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} فالوحي هو الذي يحدّد لي خط الحركة، وهو الذي يحدد لي الخطوات من البداية إلى النهاية، {وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أبلّغكم آيات الله وأثير في عقولكم معانيها، لتكون نذيراً لكم بين يدي عذاب شديد، وذاك هو كل شيءٍ في الدور، وفي الحركة، وفي الهدف.

وقد نلاحظ في هذا الجوّ القرآني الذي يضع قدرات النبي الذاتية في حدود بشريته، أن ذلك لا يعني انتفاء علم الأنبياء بالغيب من خلال الوحي الذي يحمل إليهم بعض غيب الله، كما جاء في حديث القرآن عن عيسى (عليه السلام) ممّا كان يتحدث به مع بني إسرائيل: {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} (آل عمران: 49)، وكما جاء في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26ـ27)، وهذا ما تؤكده الآية القائلة: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (الأنعام:50). فالوحي هو مصدر معرفة النبي في قضايا العقيدة والشريعة والحياة والدار الآخرة، ضمن ما يريد الله له أن يعلمه لحاجة الرسالة إليه في ساحتها العامة والخاصة.

* * *

تواصل الوحي

{قُلْ أَرَأيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} في موقفكم هذا الذي يتميز بالعناد القائم على العصبية، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ} ممن انفتحوا على الحق البارز في الوحي القرآني، جزاء ثقافته التوراتية التي تحمله على تصديق رسول الله في رسالته، وفي وحي الله الذي يبلّغه للناس، {فَآمَنَ} عندما رأى عمق الحقيقة في مسألة الإيمان {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} عليه، فلم تخضعوا لله في وحيه ورسالاته بعد قيام الحجة عليكم، الأمر الذي يوحي بأن من يفتح قلبه على آفاق المعرفة، لا بد من أن يصل إلى الإيمان، وأنّ من يعيش روح العصبية والاستكبار يبقى في دائرة الجهل والعناد، بعيداً عن الإيمان.

ويقول المفسّرون: إن هذه الآيات نزلت في عبد الله بن سلام، حيث أسلم في المدينة، وكان عالماً كبيراً ممن يملكون ثقافة التوراة في بني إسرائيل[1]، وبذلك تكون هذه الآية مدنيَّة داخل السورة المكية.

{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم بالبقاء في ساحة الجهل، والبعد عن نور المعرفة، والانطلاق في خط الكفر والشرك والضلال، ورفضوا الأخذ بأسباب الهداية وهي في متناول أيديهم، ما أغلق باب الهداية الإلهية عنهم، لأنّ الله لا يهدي من يصرّ على اختيار الضلال كنهجٍ لحياته.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} في معرض تبرير تركهم للإيمان والتأكيد على أنهم يتميزون عن غيرهم في وعي القضايا الفكرية والعملية، وفي التزامهم بخط الخير الواضح في طبيعته، وسبقهم الدائم إليه، وعدم قبولهم تقدّم أحد عليهم في ذلك، {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} لأننا السابقون إلى الخير في كل المواقع، لكننا لم نرَ فيه ملامح الخير للبشرية {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} أي بالقرآن، أو بالإيمان في مضمونه الفكري والعملي، {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي من الأكاذيب القديمة ومن أساطير الأولين، ولا يستند قولهم هذا إلى قاعدةٍ فكريةٍ تميز بين الصدق والكذب، وبين الأسطورة والواقع، بل إلى عقدة الكبرياء الكامنة في عمق شخصياتهم التي تحاول إعطاء مواقفها السلبية من القضايا بعداً منطقياً بادعاء وجود خلل ما في مضمونها. وهذا هو الأساس في كلامهم المذكور في الفقرة السابقة من الآية: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} ليصوّروا أن رفضهم للرسالة يتحرك من موقع عدم قبولهم إلا بالخير الذي اكتشفوا أن الدعوة القرآنية لا تمثّله.

{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً} فقد أنزل الله الكتاب على موسى ليكون إماماً للناس، فيكون في الموقع المتقدم الذي يحرك أفكارهم ومواقفهم وأوضاعهم، لأنه يمثل وحي الله مما يصلح أمر الأمة ويبعدها عن الفساد، كما كان رحمةً في مضمونه العقيدي والتشريعي والحركي، باعتبار أنه يفتح لهم أبواب الخير، ويغلق عنهم أبواب الشرّ.

{وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدّقٌ} لما قبله من الكتب السماوية، بما تسعى إليه في مضمونها من تثقيف تدريجي للناس، وتوعية متحركة لهم، تلاحق المتغيرات، والحاجات الجديدة والمواقع المختلفة. ومضمون الكتاب، في حقائقه الخالدة، وفي مواقعه المتغيرة، وفي لغته التي تتنوّع بتنوع مواقع الرسالة التي قد تفرض أن يكون بلغة الأمّة التي أرسل إليها، لتكون طليعة الرسالة كما يكون الرسول طليعة الرسل، هو تصديق لما قبله من كتب سماوية، فقد جاء القرآن بعد التوراة، فاحتوى في داخله الكثير من معانيها وشرائعها، وصدّقها، جملةً وتفصيلاً، وكان {لّسَاناً عَرَبِيّاً} ينطق بلغة الرسول الذي نزل عليه، وبلغة الأمّة التي نزل فيها، {لّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر والشرك والبغي والعدوان {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} الذين عاشوا الإحسان في فكرهم إيماناً منفتحاً على الله وعلى الحياة، كما عاشوه في حياتهم عملاً صالحاً والتزاماً بالصراط المستقيم.

* * *

التوحيد والاستقامة سبيل الأمن في الآخرة

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} على التوحيد وساروا على الخط الذي يحدده الإيمان بالله وبربوبيته من منهج فكري وعملي يوحد التصور والشريعة والحركة، حيث يلتقي الإنسان في كل تلك المواقع بالله، فلا يلتفت إلى غيره، ولا ينقاد إلا له، ولا يلتزم إلا بمنهجه وشريعته وقرآنه.

إن القضية الأساس في الإسلام، هي قضية التوحيد التي تحتوي الوجود كله، فهو عقيدة لا تقف حدودها عند حدود اللاّهوت في الأعماق الفلسفية، بل تدخل في كل شؤون الحياة الخاصة والعامة، فلا يكون الإنسان توحيدياً إلاّ إذا استقام في هذا الخط في كل دروب الواقع وساحات الصراع، فلا ينحرف ذات اليمين وذات الشمال، استجابة لما يدعوه الآخرون إلى الالتزام به، مما لا يرجع الأمر فيه إلى الله، فإذا اختزن الإنسان التوحيد الإلهي في عقيدته، وسار في غير دروب الله في نهجه وشريعته، لم يكن موحّداً بالمعنى العملي أو الحركي. ولذلك فإن معنى الاستقامة في خط ربوبية الله، هو الالتزام بالربوبية في كل المواقع التي تتسع لها في الإيجاد والتشريع والتدبير، بحيث تكون شمولية الإيمان منطلقة من شمولية الله في عمق الوجود وحركته، فيكون الإيمان كاملاً بذلك في البداية والنهاية وخط السير.

وهذا ما نريد أن يستوحيه المسلم في كلّ واقعه الحركي، وهو الحصول على الأمن الذي يطرد عنه الخوف والحزن في يوم القيامة، فيلتزم بالإسلام كله في عقيدته وفي شريعته، ويبتعد عن كل العناوين والأضاليل والأساليب والوسائل التي لا تقترب من الخط الأصيل للإسلام، بحيث يراعي الدقة في حكمه على الخطوط الملتوية أو المنحرفة أو الضائعة التي تتحرك من حوله، ليعيش صفاء الإسلام، ونقاء الإيمان، واستقامة التصوّر والمنهج والحركة، ليكون من هذه الصفوة المؤمنة الطاهرة القريبة من رحاب الله في رضوانه.

وأولئك {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لأنهم أخذوا بأسباب الأمن، وانفتحوا على مواقع السرور في ما أعدّوه لذلك من مواقف الدنيا وأوضاعها ووسائلها، و{أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الطاعات في نطاق الأعمال الصالحة التي يرضاها الله.

(1) انظر: السيوطي، جلال الدين، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، 1993م ـ 1414هـ، ج:7، ص:437 ـ 440.