تفسير القرآن
الأحقاف / من الآية 17 إلى الآية 19

 من الآية 17 الى الآية 19
 

الآيــات

{والذي قال لوالديه أفٍ لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلَت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمِن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين* أولئك الذين حقّ عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين* ولكلٍ درجاتٍ مما عملوا وليوفّيهم أعمالهم وهم لا يظلمون} (17ـ19).

* * *

معاني المفردات

{أُفّ}: كلمة تبرّم يقصد بها إظهار السخط.

{خَلَتِ}: مضت.

{يَسْتَغِيثَانِ}: يطلبان الغوث.

* * *

والذي قال لوالديه أفٍّ لكما

وهذا هو النموذج الثاني الذي يعيش بين أبوين مؤمنين، يتعهَّدانه بالرعاية والحب والحنان، ويبذلان كل ما لديهما من جهدٍ في سبيل تنميته وتربيته، حتى إذا بلغ مبلغ الرجال، انفصل عن هذا الجوّ الإيماني ليندمج بالأجواء اللاهية العابثة التي تمنعه عن الجدّية في الحياة، وعن المسؤولية في عالم الفكر والعمل، وتدفعه إلى مواجهة المواقف الفكرية العقيدية بطريقة اللاّمبالاة التي ترفض بشكل سطحي، وتقبل بشكل ارتجالي، فيكفر لأنه لم يلتقِ الإيمان في مواقع التأمّل أو الحوار، وينحرف لأنه ابتعد مع شهواته ولذاته عن خط الاستقامة.

ويبدأ صراعه مع والديه اللذين بلغا سنّ الكهولة أو الشيخوخة، حول مسألة الإيمان والكفر، فهما، نتيجة امتزاج عاطفتهما بالابن، يعيشان القلق الشديد على مصير ابنهما ومستقبله في الآخرة، ويخشيان أشدّ الخشية أن يواجه عذاب الله في النار، ولكن ابنهما يعيش الغرور الكافر، والكبرياء الطاغي، ويقف منهما موقف التعنيف والتأنيب والتأفف من هذه الشيخوخة التي تريد أن تقف أمام شهواته ولذاته في معصية الله.

{وَالَّذِي قَالَ لِوالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَآ} في احتقارٍ واستهانةٍ وتأفّفٍ، كما لو كانا عبئاً ثقيلاً عليه، لأنهما يفرضان نفسيهما عليه، ويتدخلان في حياته، في الوقت الذي يرى نفسه في موقع لا يجوز معه لأحدٍ أن يعترض على سلوكه، لا سيّما ممن لا يملك الدرجة العليا من الفكر والتقدم في نظره. {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} بعد الموت الذي أتحوَّل فيه إلى تراب، بفعل السنين الطويلة التي تفني كل نبضةٍ للحياة التي تتحدثان عنها؟ {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي} فلم يعد أحدٌ من الأمم التي عاشت في القرون السالفة إلى الحياة ليكون نموذجاً حيّاً للفكرة التي تطرحانها، فلو كان هناك بعثٌ، لرأينا بعضاً من هؤلاء، ولكننا لم نر شيئاً من ذلك، ما يوحي بأن فكرة البعث أسطورةٌ لا تمتّ إلى الحقيقة بصلةٍ.

لكن أبويه لا ييأسان. وتستيقظ العاطفة لتركض وراء هذا الولد الذي يخافان عليه من النار، في ما يشبه الاستغاثة {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} فيطلبان منه أن يغيثهما ويهدي ولدهما إلى الإيمان، ويلتفتان إليه {وَيْلَكَ آمِنْ} بالله وبرسوله وبرسالته وباليوم الآخر، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} في ما توعَّد به الكافرين من النار وما وعد به المؤمنين من الجنة، فتذَكَّرْ وعد الله، واعملْ على السير في خط النجاة والابتعاد عن خط الهلاك. ولكنه لا يأبه {فَيَقُولُ مَا هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} لأنه يرتكز على الحسّ المادي الذي ترتبط به كل قضايا الإيمان في نظره.

* * *

أولئك حقّ عليهم القول.. ولكلِّ درجات

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} من أمثال هذا الإنسان {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ} ممن تمرّدوا على الرسل، وكفروا بالله، وأنكروا اليوم الآخر، {إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ} لأنهم خسروا أنفسهم في الدار الآخرة، في محرقة نار جهنم..

{وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ} من المؤمنين الصالحين، أو الكافرين الظالمين، في ثواب الله وعقابه، في درجات الرضوان في الجنة، وفي دركات العذاب في النار، {وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لأن الله يمنح كل عاملٍ بحسب طبيعة عمله، من موقع العدالة الإلهية التي لا تفرّق بين الناس إلا بالعمل القائم على الإيمان والتقوى.