تفسير القرآن
الأحقاف / من الآية 29 إلى الآية 35

 من الآية 29 الى الآية 35
 

الآيــات

{وإذ صرفنا إليك نفراً من الجنّ يستمعون القرآن فلمّا حضروه قالوا أنصّتوا فلمّا قضِيَ ولّوا إلى قومهم منذرين* قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزِل من بعد موسى مصدّقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم* يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذابٍ أليم* ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجزٍ في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين*أولم يروا أنّ الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعيَ بخلقهنّ بقادرٍ على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شيء قدير* ويوم يُعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحقّ قالوا بلى وربّنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون* فاصبِر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يُهلك إلا القوم الفاسقون} (29ـ35).

* * *

معاني المفردات

{نَفَراً}: النفر: اسم جمع يطلق على ما فوق الثلاثة من الرجال والنساء.

{وَلَّوْاْ}: انصرفوا.

{وَيُجِرْكُمْ}: يخلّصكم.

{أَوْلِيَاء}: أنصار.

{يَعْيَ}: العي: العجز والتعب.

* * *

مناسبة النزول

تنقل كتب التفاسير أكثر من قصة عن ذلك كسبب من أسباب النزول، نختار منها ما نقله صاحب الميزان عن تفسير علي بن إبراهيم القمي كنموذجٍ لذلك، قال: كان سبب نزول هذه الآيات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) خرج من مكة إلى سوق عكاظ، ومعه زيد بن حارثة، يدعو الناس إلى الإسلام، فلم يجبه أحد ولم يجد أحداً يقبله، ثم رجع إلى مكة، فلما بلغ موضعاً يقال له: وادي مجنّة[1]، تهجّد بالقرآن في جوف الليل، فمرّ به نفر من الجن، فلما سمعوا قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) استمعوا له، فلما سمعوا قرآنه، قال بعضهم لبعض: {أَنصِتُواْ}، يعني اسكتوا، {فَلَمَّا قُضِيَ} أي فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من القرآن، {وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ يا قَوْمَنا} إلى آخر الآيات.

فجاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأسلموا وآمنوا، وعلَّمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) شرائع الإسلام، فأنزل الله عز وجل على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم): {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ} (الجن: 1) السورة كلها، فحكى الله قولهم وولّى عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) منهم، وكانوا يعودون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في كل وقت[2].

* * *

الجن يستمعون القرآن ويتحوّلون إلى دعاة

هذا ويتحدث كتاب الله عن الجن بشكل متنوّع، ويضع لوجودهم وطبيعتهم خطوطاً عامّة، لا تسمح للخرافة التي حفلت بها قصص الجن في التراث العربي أن تقترب منها، فهم مخلوقاتٌ عاقلةٌ، لا تظهر عياناً للناس بشكلٍ مباشرٍ، وفيهم شياطين يوسوسون للناس بطريقتهم الخاصة، كما يوسوس شياطين الإنس للناس، وفيهم مؤمنون يعبدون الله ويخافونه ويدعون إليه، كما يذكر القرآن أنهم كانوا يقعدون مقاعد ليسمعوا أخبار السماء، فمنعهم الله من ذلك، ما يوحي بقدرتهم الذاتية على الانطلاق في الفضاء.

وهذا حديثٌ عن نفرٍ من الجنّ الذين استمعوا إلى القرآن، فآمنوا به، وتحوّلوا إلى دعاةٍ للإيمان وللإسلام في قومهم، بطريقةٍ روحيةٍ رائعة.

{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} أي وجّهناهم إليك بإثارة انتباههم وتفكيرهم نحوك، حتى بدأوا يفكرون بموقعك الرسالي الذي يفتح للعقل آفاقاً جديدة من التفكير، ويضع للحياة خططاً جديدةً من التشريع، ما جعلهم ينطلقون في ملاحقة الموضوع من موقع المسؤولية، {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} في الموقع الذي يمكّنهم من الاستماع إليه، {قَالُواْ أَنصِتُواْ} حتى نعي مضمون الكلمة بدقةٍ ووعيٍ وإيمان. {فَلَمَّا قُضِيَ} وانتهى الرسول من التلاوة، واستوعبوا ما سمعوه بشكل كامل، وآمنوا بأنه الحق الذي يجب أن يلتزمه الناس فكراً وعملاً، {وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} لأن الإيمان، في معناه الحركي، يفرض الدعوة إليه، فهو ليس حالةً خاصةً بحيث يختزنه الناس في ذواتهم، بل هو رسالةٌ عامةٌ تدفع الناس إلى دعوة الآخرين إليه، ليؤمنوا به، بحيث يتوسع امتداده في الحياة.

{قَالُواْ يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب السماوية، أو من التوراة، باعتبار أنهم كانوا مؤمنين بها، عاملين عليها ـ كما يبدو ـ {يَهْدِي إِلَى الْحَقّ} في العقيدة {وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} في حركة الإنسان في الحياة، حيث يبدأ الإنسان فيه من الله وينتهي إليه.

هذه هي الدعوة الكاملة، فهي تنطلق من الكتاب باعتباره الوثيقة الإلهية الصادقة الناطقة بالحقيقة الناصعة، فهو كتاب {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} (فصّلت: 42)، وهو ما ينبغي التركيز عليه في ما نريد تأكيده من عقائد ومفاهيم وشرائع، وما نريد محاكمته من اختلاف في الآراء حول قضايا العقيدة والحياة، باعتبار القرآن هو الأساس والمرجع.

* * *

أجيبوا داعي اللَّه

{يا قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ} الذي يدعوكم إلى ما يحييكم، باسم الله الذي خلقكم ورزقكم، فهو يملك حياتكم ومماتكم، ولن يدعوكم إلا إلى كل خير، {وَآمِنُواْ بِهِ} فالاستماع الواعي، والتفكير المنفتح، والحوار المتّزن، يؤدي إلى الإيمان بالحق، {يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} فقد أخذ الله على نفسه غفران ذنوب المؤمنين الخاطئين المخلصين له، {وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} لأن غفران الله هو الذي ينقل الإنسان من جوّ العذاب إلى جوّ الرحمة والرضوان. {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضَ}، فإن الله لن يفوته أحدٌ من خلقه، فهو المهيمن على الكون كله، {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآء} ينصرونه من الله، إذا أراد الله أن يعذبه على كفره وعناده بعد إقامة الحجة عليه، {أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} لأنهم ابتعدوا عن الصراط المستقيم، ووقعوا في متاهات أوهامهم وشهواتهم.

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} لأنه فوق حالة الإعياء والتعب التي تصيب المخلوقين من مواقع ضعفهم الذاتي، {بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْييَ الْمَوْتَى} على أساس المعادلة العقلية التي تؤكد أن القدرة على الإيجاد تساوي القدرة على الإعادة، لأن المسألة هي القدرة على إبداع الحياة في طبيعتها الحيّة، {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} انطلاقاً من المعنى المطلق في قدرته، كما هو كذلك في كل صفاته، لأن المحدودية تعني الفقر والحاجة، ما ينفي معنى ألوهيته للوجود كله.

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ} لأن غذاء النار الطبيعي وقود بشري من هؤلاء الذين كفروا بالله وكذّبوا رسله، وكانوا يكذبون باليوم الآخر، ويسخرون من أحاديث الأنبياء الذين ينذرونهم بعقاب نار جهنم، فينطلق السؤال الذي يريد لهم أن يعلنوا الإيمان بما كذّبوا به، بعد أن فرض الواقع الحسي عليهم ذلك، ليكون موقفهم هذا منطلق تفكير لأمثالهم ممن يكذبون به بعدهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقّ} الذي أنذركم به الرسل؟ {قَالُواْ بَلَى وَرَبّنَا} في تأكيد للجواب السابق بالقسم بالله، وهدفهم منه التأكيد على إيمانهم، رغبةً في أن يشفع ذلك لهم في الخلاص من العذاب، أو التخفيف منه، {قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} فذلك هو جزاء الكافرين.

* * *

لا يهلك إلاّ القوم الفاسقون

ثمّ يعود الكلام إلى النبيّ تثبيتاً له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} فإن الدعوة التي تسعى إلى التغيير الشامل للحياة وللإنسان، فكرياً وعملياً، لا بد من أن تصطدم بألوف العقبات، وتواجه الكثير من المشاكل، وتلتقي بالصعوبات الكبيرة في ساحة التحديات، لتصل إلى بعض النتائج الإيجابية الحاسمة مرحلياً أو بشكل كامل. ولست بأوّل الرسل الذين يواجههم قومهم، أو تستقبلهم أمتهم بالكفر والتكذيب والعناد والاضطهاد، فاصبر كما صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، الذين ذكرهم حديث أئمة أهل البيت بأنهم هم أولو العزم، أو كما صبر الرسل من قبلك، فقد جاء عن بعض المفسرين أن أولي العزم هم جميع الرسل، ولا تتعقد وتنفعل، أو تتراجع، وتابع مسيرتك حتى النهاية، {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} العذاب فتدعو عليهم، نتيجة ضيق صدرك بهم في بعض الحالات، فإن هناك أملاً في هدايتهم للإيمان بالله والالتزام بدينه. فبعض الناس قد يحتاج إلى أمدٍ طويلٍ لتخفيف مقاومته النفسية، أو لإبعاده عن المؤثرات العاطفية، أو الرواسب التاريخية، أو فصله عن الجو الذي يعيش فيه، وغيرها من عوامل تفرض عليه عدم الإذعان للحق، ولذلك فلا بد للدعاة إلى الله من أن يرسموا خططاً متحركة على مستوى المراحل والظروف من الزمان والمكان والأشخاص، لاحتواء الساحة كلها في جميع الأوضاع.

أمّا إذا أصروا على الكفر والعناد، فإن الله سوف يجمعهم لعذابه، فلا داعي لاستعجال العذاب، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب {لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ} لأن الإحساس بالحاضر الذي يختزن العذاب في داخله، ويحرق بناره كل حياة الإنسان، سوف يختصر الزمن كله في إحساس الإنسان، بحيث لا يشعر إلاّ وكأنه لم يلبث إلا ساعةً من نهار، هذا {بَلاغٌ} للناس {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} الذين استحقوا الهلاك بفسقهم في العقيدة وفي العمل؟

ـــــــــــــــــــــ

(1) المجنّة: محلّ الجنّ.

(2) تفسير الميزان، ج:18، ص:223.