من الآية 1 الى الآية 5
الآيــات
{يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله واتّقوا الله إن الله سميعٌ عليم* يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون* إن الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيم* إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون* ولو أنّهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفورٌ رحيم} (1ـ5).
* * *
معاني المفردات
{تَجْهَرُواْ}: الجهر: ظهور الصوت.
{يَغُضُّونَ}: يخفتون.
* * *
آداب التعامل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. إن إطلاق النداء للناس من خلال صفة الإيمان، يوحي بأن هذا التعليم ينطلق من مضمون الإيمان في حركته الروحية والسلوكية. والظاهر أن المراد بالتقدم هو الوقوف أمام الله ورسوله بمعناه الكنائي، حيث يدل التقدم عليهما على خضوع الإنسان لهواه أو لفكره الشخصي أو لمزاجه الذاتي، بعيداً عن خط الإيمان الذي يوحي به الله، أو يلهم به رسوله، في الحكم الذي يشرّعه، أو في النهج الذي يقرّره، أو في الخط الذي يخططه، ما يوحي بأن من الواجب على المؤمن أن يبقى مشدوداً إلى أوامر الله ونواهيه، وإلى شرع الرسول ونهجه في ما ينفتح عليه من قضايا السلوك والحياة، فلا يسبق بكلامه كلام الله، وبسلوكه شرع رسول الله، ليكون الخاضع لله ولرسوله في كل شيء، {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} بالانضباط على الخط المستقيم والشعور بالمسؤولية على قاعدة الإحساس الدائم بحضور الله ورقابته، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فهو الذي يسمع كل كلمات عباده ويعلم كل خفاياهم.
{يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}. وهذا لونٌ من ألوان الأدب الإسلامي في مخاطبة المسلمين للنبي، تقضي بمراعاة الإخفات في الكلام، أو الهدوء في الخطاب، بحيث تكون أصوات المسلمين أخفض من صوته، لتتميَّز طريقتهم في الحديث معه عن طريقتهم في الحديث العادي مع بعضهم البعض، لأن تلك الخطوط السلوكية هي سبيل إشاعة جوٍّ من الاحترام والتعظيم يفرضه موقع النبي من أمّته، ويوحي بالهيبة والتوقير اللذين يؤثّر إشاعتهما في نفس المسلم إيجاباً في علاقته برسول الله، بحيث يلتقي لديه احترام الوجدان باحترام الطاعة والالتزام.
{أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي حذراً من أن تحبط أعمالكم إذا أسأتم احترام النبيّ، مما قد يؤدّي إلى الاستهانة به وبأمره ونهيه، فيقودكم ذلك إلى الابتعاد عن خط الإيمان بطريقةٍ تلقائيةٍ لا شعوريةٍ، تبعاً لما تتركه بعض الأوضاع من تأثيرٍ على بعضها الآخر، فالناحية السلوكية قد تترك تأثيرها على الناحية النفسية، وتؤدي بالتالي إلى لونٍ معيّنٍ من الانحراف في اتجاه آخر.
* * *
احترام الرسول(ص) من التقوى
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} تأدباً واحتراماً ومراعاةً للجو الروحي الرفيع الذي يخلقه حضور الرسول في المجلس، وللموقع الذي يمثله الرسول في ساحة الرسالة، ما يفرض على الحاضرين حوله أن يغضّوا أصواتهم عند الحديث معه، أو مع بعضهم البعض، ليستوعبوا فكرياً وروحياً كلماته في ما يعظهم به، أو يوجههم في ما إليه، أو يخطط لهم من سبل، أو يفتح لهم من آفاق، وهي أمور تحتاج إلى كثير من الهدوء لدى سماعها، ليتعلمها الآخرون من الحضور...
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} لأنهم ضغطوا على مشاعرهم وتغلّبوا على عاداتهم، طاعةً وانقياداً لأمر الله، والتزاماً وإيماناً، فنجحوا في الامتحان الإلهي في ما يكلف الله به عباده من تكاليف تضغط على أوضاعهم التي اعتادوها في حياتهم العامة وتدفعهم إلى الابتعاد عنها لمصلحة أوضاع أخرى.
{لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ذلك هو الجزاء الذي أعدّه الله لمن يعيشون الانقياد المطلق له، والتسليم الروحي إليه في خطّ التقوى والإيمان.
* * *
عدم توقير النبي(ص) علامة على اللاعقل
{إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُراتِ} التي يشتمل عليها بيتك، عندما تكون في حالة استرخاء تستسلم إليه طلباً لبعض الراحة الجسدية، واستعداداً لمرحلة جديدةٍ من العمل، فيرفعون أصواتهم ليقتحموا عليك لحظات نومك وراحتك دون اعتبارٍ لمقامك وحالتك، {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} لأن العقل يدفع صاحبه إلى احترام أوضاع الناس الخاصة ومشاعرهم الذاتية، وإلى عدم الإساءة إليهم في ذلك كله، الأمر الذي يجعل من لا يراعون ذلك في سلوكهم العملي ممن لا يعقلون.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} بعد حصولك على ما تريد من الراحة، أو بعد تخفّفك من مسؤولياتك العائلية الخاصة التي قد تشغل الإنسان عن بعض من حوله، {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} لأن ذلك هو سبيل الانسجام مع حركة المسؤولية في نطاق العلاقة بالآخرين، لا سيّما إذا كانت المسألة تتصل بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) الذي ينبغي للمسلمين أن يراعوا قضاياه الخاصة وموقعه المميز، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في إشرافه على سلوك عباده وغفرانه ذنوبهم، إذا تابوا ورجعوا إليه، وفي رحمته لهم في كل أوضاعهم العامة والخاصة في نقاط ضعفهم التي يخضع لها وجودهم كله.
تفسير القرآن