تفسير القرآن
الحجرات / من الآية 14 إلى الآية 18

 من الآية 14 الى الآية 18
 

الآيــات

{قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلِتْكُم من أعمالكم شيئاً إن الله غفورٌ رحيم* إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون* قل أتعلِّمُون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكل شيء عليم* يمُنّون عليك أن أسلَموا قل لا تمنّوا عليَّ إسلامكم بل الله يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين* إن الله يعلم غيب السموات والأرض والله بصيرٌ بما تعملون} (14ـ18).

* * *

معاني المفردات

{يَلِتْكُمْ}: ينقصكم.

* * *

الفرق بين الإيمان والإسلام

هل هناك فرقٌ بين الإسلام والإيمان، أم أنهما كلمتان مترادفتان، فكل مسلم مؤمنٍ، وكل مؤمن مسلم؟

إنَّ هذه الآيات تعطي الجواب عن هذا السؤال وتؤكد أن الإسلام يمثل في مفهومه الانقياد العملي، والتسليم الطوعي، والانسجام الشكلي مع أوامر الله ونواهيه، بحيث يصبح الشخص جزءاً من المجتمع المسلم بما يفرض عليه من حقوقٍ وواجبات، سواء جاء إسلامه نتيجة ظروف خارجية ضاغطة، كحال من يدخل في الإسلام رهبةً من نتائج وقوفه في الجانب المضادّ، أو جاء رغبةً وطمعاً في الأرباح والمكاسب التي يمكن أن يحصل عليها من إسلامه ذاك، إلى غير ذلك من الدوافع التي قد تشكل سبباً لدخول الناس في الإسلام.

فالله لم يجعل الإيمان شرطاً للدخول في الإسلام، بل ارتضى لهم أن ينسجموا مع الجو الإسلامي العام، وأن يدخلوا في مجتمع المسلمين، ويخرجوا من مجتمع الكافرين، لأن هدفه أن يجمع الناس حوله، ليضعف قوّة الكفر أو الشرك بشكل عملي، وليبدأ عملية التوعية والتربية الروحية والفكرية والتوجيه العملي من داخل الأجواء الإسلامية، ليبني قناعة الناس بالإسلام، أو ليبعدهم ـ على الأقل ـ عن مجتمع الكفر، مع دعوته الدائمة للحذر منهم، ليكون المسلمون المؤمنون على حذرٍ دائم ويقظةٍ مستمرة.

أمّا الإيمان، فإنه قناعة فكرية وروحية يجسدها السلوك الخارجي عملاً، ليكون قناعةً في الفكر، وشهادةً باللسان، وحركةً في العمل، كما روي عن الإمام علي (عليه السلام) في ما رواه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): الإيمان هو الإقرار باللسان وعقدٌ في القلب وعملٌ بالأركان»[1].

وهكذا، فمن خلال المساحة الفاصلة بين الإسلام والإيمان، قد يعيش الواقع الإسلامي مشاكل كثيرة يثيرها وجود منافقين، يشكلون، بعنوان كونهم مسلمين، نوافذ يطل منها الكفر على الواقع الإسلامي ويمنحه فرصة الاطلاع على ما لا يملك الاطلاع عليه من الخارج، وتنفيذ خطط تآمرية ضده تثير الخلل والاهتزاز والقلق والخلاف فيه، ونحو ذلك، ما يضعف المسيرة الإسلامية على مستوى القيادة والقاعدة..

وفي مقابل هؤلاء المنافقين، هناك وجودٌ للمسلمين المؤمنين الذين يتحركون من قاعدة الالتزام الواعي الصلب الذي يعمل على تأكيد الخط الإسلامي المستقيم في مواجهة الخطوط المنحرفة التي يحركها الكفر هنا وهناك، ليخلط وجه الحق بالباطل، فتضيع الرؤية، وترتبك المواقف، وليحوّل الموقف الإسلامي في ساحة الصراع إلى جهادٍ مريرٍ ومعاناةٍ قاسيةٍ، قد يسقط فيها الشهداء، وتكثر فيها الجراحات، وتشتد فيها الضغوط، وتتعقد فيها المشاكل من قريبٍ أو من بعيد.

{قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا} والظاهر أن المراد بالأعراب هم سكان البادية الذين لم يتفقهوا في الدين، ولم يعيشوا الوعي العميق للمضمون الفكري والروحي للإسلام، لذا كانوا يعملون على إعلان الإيمان صفة لشخصيتهم الجديدة التي يتحركون باسمها.

ولكن الله أراد لرسوله أن يفضح واقع هؤلاء الداخلي الذي يختفي وراء مظهرهم الشكلي، ويعرّفهم الحدود التي يقفون عندها في واقعهم، {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} لأن الإيمان يعبّر عن عمق الإحساس بالعقيدة كقناعةٍ في جانب الفكر والشعور، مما يتمثل في وجودكم الذهني والروحي والشعوري، {وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا}، فقد أسلمتم أمركم لله ورسوله بالكلمة والطاعة، وأوقفتم الحرب ضد الدعوة والرسالة، وانتقلتم من مجتمع الكفر إلى مجتمع الإسلام، وبدأتم عملية الاندماج فيه، والمشاركة في حركته في خط المواجهة، دون أن تستوعبوا المسألة العقيدية في قناعاتكم {وَلَمَّا يَدْخُلِ الاْيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، فقد تحتاجون إلى الوقت الطويل الذي تتخلصون فيه من رواسب الشرك في خيالاته وعاداته وتقاليده، وتنفتحون فيه على أفكار الإيمان في حقائقه وشرائعه ومناهجه، وتختزنون، من خلال ذلك، الروحية الإيمانية الصافية المنطلقة مع إشراقة النور الإلهي في عقولكم وقلوبكم.

{وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في المعنى الحقيقي الذي يأخذ الدين كله فكراً وعملاً، لتبتعدوا عن الازدواجية بين ما هو الواقع الداخلي في قناعاتكم وانفعالاتكم وما هو الواقع الخارجي في سلوككم وأوضاعكم، لتتوحّد الشخصية بالإيمان الفكر، والإيمان الموقف {لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} أي لا ينقصكم شيئاً منها، لأن الطاعة الحقيقية الكاملة تستوعب النتائج كلها على مستوى رضوان الله وثوابه، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فهو الذي يغفر الذنب برحمته، فلا يبقى للذنب أيّ أثر في ما يمكن أن يتركه من سلبياتٍ على مصير الإنسان عند الله.

* * *

صفات صادقي الإيمان

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} فهم على وضوحٍ شاملٍ بكل قضايا العقيدة في التوحيد والنبوّة واليوم الآخر، فلم يقفوا أمام علامات الاستفهام موقف حيرة وضياع، بل موقف تأمل وحوار يتابع الأمور من موقع العمق الفكري، بحيث لا تبقى شبهه تهز الإيمان أو تسقطه، وهكذا واجهوا الموقف بامتداد القناعة من خلال امتداد الوضوح، ولم يقف الأمر بهم عند هذا الحدّ، بل تابعوا القضية في مستوى الموقف، {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فلم يبخلوا بأموالهم على الرسالة عند حاجتها إليها، ولم يبتعدوا بأنفسهم عن مواقع الخطر في ساحة التحدي والجهاد الذي لا يتوقف عند حدَ، بل يعطي كل شيءٍ في مواقع الحاجة وفي دائرة المسؤولية.

{أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الذين يجسدون في موقفهم ومعاناتهم صدق التزامهم الفكري والقولي، من خلال عطائهم الشامل الذي يمتد حتى يطال حياتهم نفسها، لتكون هي التضحية التي يقدمها المؤمن للإسلام.

{قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} في ما تحاولون إعلانه من مواقف لتأكيد صدق إيمانكم، والحصول على ثقة المجتمع الإسلامي التي يمنحها للمؤمنين الصادقين، فإذا كنتم تسعون لخداع الناس عبر مظهركم، فهل تستطيعون خداع الله في الواقع؟ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الأرْضِ} في ما يخفى على الناس أو ما يظهر لهم، فلا يغيب عنه شيء من ذلك كله، فهو ينفذ إلى أعماق الفكر والشعور، كما ينفذ إلى أعماق البحار وظلام الكهوف، {وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} لأن علمه مطلق لا حدّ له في المكان والزمان.

* * *

المنافقون يمنّون على الرسول بالإسلام

{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} في محاولةٍ للإيحاء بأن الرسالة شأن خاص متعلق بذات الرسول، ما يجعل من الانتماء إلى الإسلام، انتماءً إليه، وتقويةً له، الأمر الذي يجعل المنتمي يمنّ على الرسول باعتبار أن ذلك يمثل خدمة شخصيةً له، كما هي حال الذهنية القبليّة التي ترى في الارتباط برئيس القبيلة معروفاً يقدّم إليه، ويُطلب العوض منه على أساسه.

ولكن الله يرد على هذا المنطق ليعرِّفهم بأن الرسالة ليست مسألة خاصة بالرسول، لأن دوره فيها هو دور التبليغ في ساحته الرسولية، بل هي أن الإسلام دين الله الذي أنزله على عباده ليصلح أمرهم، وليدفعهم إلى الإيمان كحاجةٍ حيويّةٍ لتحريك وجودهم نحو الخط المستقيم الذي يرفع مستواهم، ويعمِّق إحساسهم بإنسانيتهم، وينقذهم من نقاط ضعفهم، ويعطيهم القوّة، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويبعدهم عن الزوايا الضيقة التي تحبسهم في نطاق أنانياتهم الذاتية أو العائلية، لينطلق بهم في ساحات الإنسانية الواسعة، ليكونوا جزءاً من الأمّة الحاملة للرسالة التي تتسع للحياة كلها وللإنسان كله، فيتسع دورهم، وتمتد ساحاتهم، ليعيشوا الطمأنينة والسكينة في ظلال الرسالة المنفتحة على الله، فلا يبقى هناك مجال للحيرة والقلق والضياع والشعور بالعبثية الوجودية الذي يثيره حديث البعض عن تفاهة الحياة وعلاقتها باللاّمعقول، لأن الإنسان المؤمن يرى الحياة حركةً مسؤولة في سياق دوره الإنساني المرتكز على خلافته لله سبحانه، الأمر الذي يفتح له آفاقاً واسعةً سعة نظرته إلى الحياة، ويمد بأحلامه لتتصل بالأفق الواسع السابح في بحار النور، الذي يطل على رضوان الله المتجلي بالجنة التي أعدّها الله للمؤمنين الصادقين.

وهكذا تكون المنّة لله عليهم في هدايتهم للإيمان في مواقع الرسالة بدلاً من أن تكون لهم المنّة على الرسول في ذلك، وهذا هو قول الله سبحانه: {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلأيمانِ إِنُ كُنتُمْ صَادِقِينَ} في إعلانكم بالتزام الإيمان كخطَ عمليَ في الحياة.

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَواتِ وَالأرْضِ} ويحيط بالكون كله بكل ما فيه من مخلوقات، مما يجعل الناس مكشوفين أمامه بكل أسرارهم في الإيمان وعدمه، وفي كل الأمور التي تتصل بحياتهم الداخلية في عمقها وامتدادها، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، فلا يخفى عليه شيءٌ من أعمالكم، في طبيعتها ودوافعها ونتائجها السلبية والإيجابية.

ـــــــــــــــــــــ

(1) الكافي، ج:2، ص:27، رواية:1.